Print this page

النظافة ثقافة

في هذا الوطن ما يستحق التفكير والفن والإبداع..
في البيئة ما يستحق الاحتفاء..
وفي دروب الخضراء، ما يشكل أرضية للفخر والاحتفال..


على أرضنا يوجد ما يحكي عن ثقافة شعب ترسبت فيه قديما قيم الحضارة وتراكمت معالم الإضافة الثقافية بكافة تجلياتها ومقوماتها حتى تشكلت بين البيئة والثقافة صور عظيمة وشواهد عبقرية تشي بانسجام عجيب ترجمته الحدائق وشبكات الري وقنوات نقل المياه من زغوان إلى قرطاج..

لنتحدث عن واقع ثقافة النظافة عندنا فالسلوك اليومي يغني عن أي حديث..فقط سآخذكم إلى رواندا وإلى اليابان..

رواندا بلد إفريقي، بالتأكيد ليس غنياً، لكنه يتمتع بدرجة عالية من النظافة، خصوصاً في العاصمة كيغالي، والسبب المباشر في ذلك لا يرجع إلى قوانين مشددة، بل إلى انتشار الثقافة عند الناس، ثقافة الحفاظ على نظافة المدينة، وعدم الإضرار بالبيئة وهي ليست كأوروبا أو بقية الدول التي تفرض غرامات وعقوبات على كل من يلقي بالقاذورات في الشوارع والطرق العامة، حيث لا يوجد قانون شبيه بذلك، ولكن هناك التزام شعبي واسع يحتم على كل مواطن تنظيف بيته ومنطقته ومدينته، وهذا الالتزام نابع من الثقافة وحدها!

في رواندا هناك يوم واحد في الشهر، هو السبت الأخير من كل شهر، تُغلق فيه الشوارع أمام حركة المرور، وتنزل جميع فئات الشعب من القادرين على العمل والطلاب لينظفوا شوارع المدينة بأكملها، يقومون بهذا العمل بشكل تطوعي، دون مكافآت ولا عقوبات، والأكثر من ذلك أن العُرف السائد لدى أهل رواندا أن من يتقاعس عن الخروج في ذلك اليوم لتنظيف المدينة خائن لبلاده، فهم يعتبرون أن النظافة خدمة مجتمعية، ومن لا يخدم بلاده يستحق لقب خائن، طبعاً هذا هو تصنيف الناس لبعضهم دون تدخل من حكومة أو من قانون، بمعنى لا يوجد أي إجبار من الحكومة لجعل الشعب ينظف الشوارع، ولكن تغلغل هذه الثقافة بين الناس جعلها أشد من أي قانون مكتوب!

هذا الفعل، وانتشار هذه الثقافة، جعلا النظافة هاجساً لدى الشعب الرواندي، وتحول إلى عادة سرت على بقية أيام الأسبوع، لتصبح الشوارع نظيفة بشكل مستمر، لذلك علينا أن نعي جيداً أن الممارسات السلبية تحتاج إلى مواجهتها بالوعي والثقافة قبل العقوبة والقانون، وإذا تمكن هذا الوعي، وانتشرت الثقافة في مكان ما، فإن الممارسات الإيجابية ستنتشر تلقائياً.

في بلد خليجي نظمت وزارة التغير المناخي والبيئة، ، حملة بيئية للإعلاميين لتنظيف البر، وبصراحة ما شهدناه في بقعة صحراوية لا تتجاوز كيلومتراً، كان شيئاً مؤسفاً حقاً، مع العلم أن البلدية توقفت لمدة يوم واحد فقط عن تنظيف المنطقة قبل حملة التنظيف، فانتشرت الأوساخ والأكياس والعلب الفارغة وبقايا مستلزمات التخييم في كل مكان، مع العلم أن صناديق القمامة موجودة على طول الطريق!

مثل هذا المشهد يتكرر كثيراً في مختلف المناطق الصحراوية، وبشكل ينم عن غياب الوازع الديني أولاً، ومن ثم البيئي والاجتماعي والوطني، فالنظافة جزء من الدين، كما أن قطعة بلاستيك صغيرة قد تقضي على حياة حيوان، وتشوه المنظر العام، وتلحق ضرراً بيئياً بمكونات الحياة الصحراوية، مع أن المطلوب لا يعد صعباً أبداً، وكل ما في الأمر أن يستمتع كل منا كيفما يشاء في البر، ثم يحمل مخلفاته ويرميها في أقرب صندوق للقمامة، هذا كل ما في الأمر!

هذا الفعل البسيط جداً وفق الكاتب سامي الريامي، يحمل رسالة عظيمة للأبناء، ويجعل ثقافة النظافة تنتشر في الأسرة ومنها إلى المدرسة، ومن المدرسة إلى المجتمع، وستتحول مع الوقت إلى نمط حياة لدى الجميع، وهذا يضمن بقاء بيئتنا نظيفة، وصحرائنا نقطة جذب، ويجعل مهمة الحفاظ عليها أسهل، دون عقوبات أو غرامات، علينا فقط أن نفكر في الطرق والوسائل التي ستوصل المجتمع إلى هذه القناعة!

يقال في المثل النظافة من الايمان, والنظافة ثقافة مجتمعية وسلوك حضاري, يجب ان يغرس كقيمة في النفس منذ الصغر ، فمن اعتاد على شيء عمل به, ففي اليابان, يربى الاطفال منذ الصغر على النظافة والمساهمة في تنظيف المنزل, بشكل جماعي وبشكل متقن, وفي المدرسة من الصف الاول حتى الصف السادس, يقوم التلاميذ بتنظيف فصولهم الدراسية يومياً لمدة ساعة مع مدرسيهم, وفي ذلك يتنافسون وكأنهم في اختبار آخر السنة, أو في مباراة كرة قدم, لأنهم في هذه المرحلة يعلمونهم الأخلاق, ومنها النظافة. وتاريخيا أخلاق النظافة في التاريخ الياباني كانت منذ القرن الثالث, أي منذ ثلاثة الاف سنة, ولقد فاجأ اللاعبون اليابانيون في مونديال روسيا العالم بأنه قاموا بتنظيف غرفة الملابس بعد انتهاء المباراة, وكذلك فعل المشجعون اليابانيون عندما نظفوا مدرجهم، الذي كانوا يجلسون عليه, وفي اليابان هناك جمعية لتعليم النظافة, طبعت الكثير من الكتب والصور حول كيفية التنظيف وأدواته, وهناك مسابقة سنوية لأنظف متجر أو مكان, فاز بها هذا العام محل حلاقة, دخل في إحدى هذه الدورات. ويتقاضى عامل النظافة في اليابان من 5000 الى 8000 آلاف دولار, وشيد لعمال النظافة تمثال من ذهب في احدى ساحات طوكيو, ويعطى عامل النظافة لقب مهندس نظافة, وهذا هو الحال في المانيا, حيث يسمى عامل النظافة بابن المانيا, ويتقاضى راتباً عالياً. اليابان رغم غناها المادي لا يوجد فيها خدم, وصممت منازلهم ومطابخهم على هذا الاساس, متواضعة، وسهلة التنظيف, دون اسراف ودون رفاهية زائدة, اليابان شعب بوذي, ونحن المسلمين يحثنا ديننا على النظافة والاعتماد على النفس, ويربط النظافة بالايمان, ورغم ذلك شوارعنا قذرة ووزاراتنا متسخة، والقمامة منتشرة فى مدننا, وحتى في بيوتنا, تتكدس رغم الكثير من المعدات الحديثة للنظافة, ورغم ذلك نجدها غير نظيفة, ونعتمد في كل أمورنا على الخدم, رغم أننا نملك بيوتنا ونعيش فيها, وإذاً فالنظافة قيم وسلوك تغرس في الجيل منذ الصغر, وتعزز بالتدريب والمشاركة واعتبار النظافة قيمة حضارية, عندما سئل الحلاق الفائز بجائزة النظافة هذا العام في اليابان لماذا فزت ؟ قال: «لأني أعتبر صالون الحلاقة منزلي الخاص».

إزاء مشاكلنا البيئية، وبالنظر لما تعرفه عديد المدن والبلديات من جراء سلوك المتساكنين، ونسق تفاعلهم مع تدخل المجالس البلدية، يعود شعار، النظافة ثقافة، ليرسم التحدي أمام كافة القوى والفاعلين وفي مقدمتهم المربين والمثقفين وغيرهم، عسى أن تنطلق حركة شاملة لتعزيز تبني الناس لقيم النظافة فتنتشر فكرا وممارسة وتسود من جديد في شرايين المجتمع، ثقافة النظافة.

المشاركة في هذا المقال