Print this page

إضاءة: التكيّف المناخي.«ينبثق» من الغابة..

يرتبط تغيُّرُ المناخ وبيئة الغاباتُ ارتباطاً لا ينفصِم. فمن جانب، يُجهِد التغيُّر المناخي الغاباتَ وبيئتها من خلال ارتفاع

متوسط درجاتِ الحرارة السنويةِ، وبفعل تبدُل أنماطُ التهاطل المطري وتكرُّر أحداثِ الطقسِ الأشد تطرفاً. وفي الوقت ذاته، فأن للغابات والأخشاب وظيفةٌ أساسية في ابتلاع وخزن ثاني أكسيد الكربونَ، مما ينهض بدورٍ رئيسيٍ في التخفيف من ظاهرة تغيُّرِ المناخ. أمّا الوجه الآخر للعملة، فيتضح في أن تدمير الغابات أو استغلالها بما يفوق طاقاتها الطبيعية يمكن أن يجعل منها مصدراً متواصلاً لإطلاق الغازات الدفيئة، أي ثاني أكسيد الكربونِ.

كما أن الغابات مصدر مهم للطاقة في العديد من البلدان، إذ أن الكتلة الأحيائية الصلبة، كحطب الوقود والفحم النباتي، مصدر لنحو 65 % من مجموع إمدادات الطاقة الرئيسية في أفريقيا. وسيبقى الوقود القائم على الأخشاب مصدراً رئيسياً للطاقة في البلدان المنخفضة الدخل لبعض الوقت، حيث يُنظر إليه بشكل متزايد على أنه بديل أخضر للوقود الأحفوري وتبلغ حصته 40 % من الطاقة المتجددة العالمية، وهذا يعادل مجموع ما يتم توليده من الطاقة الشمسية والكهرومائية وطاقة الرياح.

وتوفر الغابات الخدمات الأساسية التي تدعم القطاعات الرئيسية كالزراعة والطاقة والمياه والتعدين والنقل والقطاعات الحضرية، وذلك من خلال المساعدة في الحفاظ على خصوبة التربة، وحماية الأحواض المائية، وتوفير الموائل لمجموعة كبيرة من الأنواع، والحد من مخاطر الكوارث الطبيعية بما في ذلك الفيضانات 

إن احتباسِ الكربونِ على صعيد الكوكب بفعل الحد مِنْ إزالةِ الأشجار، وزيادة إعادة التحريج، ونمو الغابات وتوسّع المزارعِ الحرجية يُمْكِنُ أَنْ تعوِّض مجتمعةً في سياق موازٍ عن نحو 15 بالمائة مِنْ انبعاثات الكربونِ مِنْ الوقود الأحفوري على مدى السَنَوات الخمسين القادمة.

وتؤدي الأخشاب المحْصُودة أيضاً دور «بالوعة للكربونِ»- حيث يختزن الخشبُ المستخدم في أعمال البناءِ أَو صنع الأثاثِ الكربونَ لقرونٍ بأسرها. كذلك، تتطلب موادُ البناءِ المستهلكة للطاقةِ والمستخدَمة عوضاً عن الخشبِ، مثل البلاستيك أو ألاُلمنيوم أَو الأسمنت، كمّياتَ كبيرةَ مِنْ الوقود الأحفوري في سياق التصنيع. مما يعني أن استبدالها بالأخشاب سيحقق فوائُد إضافيةُ بمقياس الحد من انبعاثات الكربون.

وعلى نفس النحو، فأن استخدام حطب الوقود بدلاً مِنْ النفطِ والفحمِ والغاز الطبيعي، يتيح إمكانية التخفيف من تغيُّرِ المناخِ كحقيقةٍ واقعة. فحتى مع التسليم بأن حرق الخشب والكتلة العضويةَ الحيّة هو عملية تُصدرُ ثاني أكسيد الكربونَ في الأجواء، فإن استقدام ذلكَ الوقودِ مِنْ غابةِ مُدارة إدارةً مستدامةِ يمكن في تلك الحالة أن يوازِن انبعاثات الكربونِ في سياقٍ موازٍ لإعادة غرس الأشجار.

لئن كانت إزالة الغابات سبباً هاماً في تغير المناخ بفعل إطلاق 12 % من غازات الاحتباس الحراري العالمي، فإن زراعة الأشجار تساهم في إبطاء تغير المناخ بامتصاص ثاني أوكسيد الكربون المنطلق من احتراق الوقود الأحفوري بفضل عملية التمثيل الضوئي التي تنتج الأوكسيجين أيضاً. وتعد الغابات المطيرة مصدراً لنحو 40 % من الأوكسيجين على كوكب الأرض.

كما تمثل الغابات موئلاً لـ 80 في المئة من الأنواع الحية التي تستوطن اليابسة، وهي تساهم في تحقيق النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل وتحقيق الأمن الغذائي وتوليد الطاقة. ويقدّر أن 1.6 بليون شخص حول العالم يعتمدون على الغابات كمصدر لمعيشتهم، أي نحو خُمس سكان كوكب الأرض.

وتوفر الغابات فرص عمل للسكان الذين لا يملكون خيارات عديدة للعمل خارج قطاع الزراعة. وهي تنتج أكثر من 5000 نوع من المنتجات القائمة على الأخشاب التي تبلغ قيمتها المضافة الإجمالية السنوية أكثر من 600 بليون دولار، أي نحو واحد في المئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي.

وفي تونس، تغطّي الغابات نحو 35 في المائة من الأراضي التونسية، وهي بالإضافة إلى دورها البيئي الكبير تُعَدّ مورداً اقتصادياً مهماً لسكانها البالغ عددهم نحو 900 ألف وفقاً لبيانات وزارة الفلاحة، أي ما يعادل سبعة في المائة من مجموع سكان البلاد. وقد خُصّص جهاز كامل لحماية تلك المساحات ومراقبتها على مدار 24 ساعة، ابتداءً من جوان 1883 وهو الإدارة العامة للغابات التونسية. وتمتد الغابات التونسية على مليون هكتار وتؤوي مليون ساكن يعيشون مباشرة أو بصورة غير مباشرة على أنشطة مرتبطة بالغابات.

على الرغم من أهمية مكونات الغابات ومواردها، فإنها تتعرض للاستهلاك غير المستدام والنهب والصيد الجائر دون مراقبة وتتعرّض غابات تونس لانتهاكات عدّة، منها السرقات التي تطال خاصة أشجار الفلين والصنوبر إلى جانب الزعتر ونبات الحلفاء (نبات يشبه سعف النخل تُحشى به الفرش وتُصنّع منه الحبال والحصر والقفاف وما إليها) والذي يُهرّب عبر الحدود التونسية الجزائرية.

وقد أكّدت إدارة الغابات في أكثر من مرّة أنّ ثمّة نقصاً كبيراً في عدد أعوان حماية الثروة الغابية

كما إن أغلب الحرائق التي اندلعت خلال السنوات الأخيرة كانت بسبب الطهي وإشعال النار في المناطق الجبلية أو إلقاء السجائر، مع وجود حارس فقط لكلّ 500 هكتار

ومما يتوجب طرحه لصون هذه الثروة وضمان اندراج الأنشطة التنموية داخلها في سياق التكيف المناخي تصميم مشاريع ترمي إلى دعم أهداف جدول أعمال التنمية المستدامة 2030، التي تتراوح بين معالجة تغير المناخ، والحفاظ على التنوع البيولوجي، والحد من عدم المساواة، وتعزيز المواطن الحضرية. كما يقدم دليلاً ملموساً على مساهمات الغابات المتعددة ويقوم بتخطيط مسارات لها لتتمكن من تقديم المزيد.

ولا تخفى أهمية وضع أطر قانونية واضحة بشأن حقوق حيازة الغابات، مع التشجيع على زيادة التوجه نحو الإدارة المحلية، و إقامة شراكات فعالة ومشاركة القطاع الخاص في السعي نحو تحقيق أهداف مستدامة. ونظراً إلى أن إزالة الغابات هي ثاني الأسباب الرئيسية لتغير المناخ بعد حرق الوقود الأحفوري، فلا بد من اتخاذ إجراءات صارمة تجاه كل المشاريع والأنشطة المتسببة في إزالة الغابات.

كما يمكن الرجوع إلى تجربة اعتمدتها الدولة خلال التسعينات عبر إنشاء منتزهات النحلي ورادس والمروج، وذلك ببعث منتزهات حضرية بالغابات المتاخمة للمدن قصد حفظها وتثمينها والحيلولة دون تدميرها تحت أي غطاء.

ولا بد من رسم سياسة غابية تراعي تطور واحتمالات تطور ظاهرة تغير المناخ وتداعياته المتوقعة، وضرورات التكيف، ومن ثم تعديل بعض البرامج والمشاريع المبرمجة أخذا بعين الاعتبار المؤشرات والسيناريوات المتوقعة على مستوى بلادنا ، وإقليميا، باعتبار أنها ظاهرة كونية لا تعرف الحدود.

وقد يتسنى ببعث ديوان الغابات، الذي تم اقتراحه ، تيسير رسم تلك الرؤية الجديدة، والعمل على توفير أسباب النجاح للخطط التي ستفرزها، بما في ذلك توفير تمويلات للمشاريع المرتبطة بها للتكيف المناخي.

ويمكن اعتماد مقاربة لامركزية ومحلية للتصرف والتنمية وتثمين الفضاء الغابي تتجاوز مستوى الحماية والمراقبة التقليدية، إلى إنشاء مشاريع ومخططات لتصرف تشاركي تتضمن بالخصوص اعتماد المتساكنين فاعلا محوريا ورئيسيا لضمان مشاركتهم الفاعلة في حماية وتنمية الفضاء الغابي والتصدي لكل محاولات الاعتداء والاستغلال الضار بثروات الغابة والإخلال بأنظمتها البيئية.

لا بد من تضافر جهود المعنيين بالهياكل والخبراء والنشطاء لرسم مقترحات عملية في سياق التكيف المناخي، قصد تعديل نمط الإدارة للفضاء الغابي نحو نمط أكثر تلاؤما مع بوادر تغير المناخ واحتمالاته.

المشاركة في هذا المقال