Print this page

«ماسانوبوفوكيوكا» وحلم النموذج الفلاحي التونسي قراءة لكتاب : «ثورة حبة قش واحدة» , مدخل الى الفلاحة البرية

نبيل بن ابراهم
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
حملتني الاقدار السعيدة منذ أيام لقراءة الكتاب الأول للياباني «ماسانوبوفوكيوكا» : «ثورة حبة قش واحدة» الذي صدرللمرة الأولى

في اليابان سنة1975 وترجم بعد ذلك الى الانقليزية ثم الى الفرنسية ,كتاب جعلني احلم بنموذج فلاحي تونسي مستدام يقطع تدريجيا مع التقنيات السائدة والتي اثبت العلم ضررها الفادح على الأرض والانسان …

بدا «ماسانوبو» حياته العملية كباحث في مجال الامراض التي تصيب المحاصيل الزراعية ولكن وفي «لحظة تامل» فارقة حصل للشاب «يقين» بان لا شيء مما تعلمه وامن به له قيمة فعلية وان كل العلوم والمعارف الحديثة التي يروج لها العالم على انها الشيء الأعظم في الحياة ماهي في الحقيقة سوى تدخل «اصطناعي» في المسار الطبيعي للوجود.

كانت هذه خلاصة ما ساسميه «الاستنارة» التي غيرت مسار حياة صديقنا الى الابد جعلته أولا يشعر بالتحرر من أوهام الماضى, وبسعادة بالغة غير مفهومة وقرارا بالقطع مع حياته العملية السابقة فكان ان قام بتقديم استقالته من وظيفته وسط استغراب زملائه الذين لم يفهمو ماذا حدث له .

لم يكن لــ«فوكيوكا» آنذاك سند عقلاني لما امن به بل مجرد قناعات عميقة غير قابلة للتفسير المنطقي(وقد شبه البعض ما حصل له بالتجربة الروحية لبوذا وهم محقون في ذلك) ولذلك أراد الرجل من خلال نشاطه العملي الجديد ان يثبت لنفسه وللعالم صحة معتقده .

عاد «ماسانوبو» الى بلدته في جنوب اليابان والى مزرعة والده بالتحديد أين قرر الاستقرار والعمل .

ولكن كيف سيقوم بترجمة معتقداته الروحية الغريبة عمليا ?

تقوم فلسفة «ماسانوبو» على عدم التدخل قدر الإمكان في المسار الطبيعي لسيرورة الحياة وهذا ما بدا بترجمته عمليا برفضه مواصلة تقليم (زبيرة) أشجار القوارص بمزرعة والده والتي هي تقليد شائع وذلك لتسهيل عملية جني الثمار :كان من نتائج ذلك ان انتشرت الامراض بأكثر سرعة لكثافة الاغصان وخسارة اكثر من 400 شجرة .

فسر «ماسانوبو» ذلك بان الانسان خلق بيئة غير طبيعية لنمو الأشجار جعلت من التدخل البشري (التقليم والأدوية) امرا ضروريا ولكن ذلك لم يزده الا إصرارا لترك الأمور «تجري على طبيعتها»بمواصلة عدم التقليم ر وعدم استعمال أي دواء وكان من نتائج ذلك ان عاد التوازن الطبيعي للمكان بعودة الحشرات «النافعة» التي تعيش على الحشرات «الضارة» وهكذا بدات الامراض تختفي شيئا فشيئا لتعود الأشجار الى طبيعتها الاصلية .

شعر صديقنا بان هذا هو اول «انتصار» عملي لقناعاته مما دفعه الى مواصلة نفس الأسلوب مع زراعة الحبوب (شعير وارز) وأيضا مع الخضروات معتمدا على اربعة ثوابت عملية وهي : لا لحراثة الأرض لا لاستعمال الادوية لا لاستعمال الأسمدة الكيميائية وحتى الطبيعية المحضرة مسبقا ولا لقلع «الاعشاب الضارة».

تبدو هذه القناعات غريبة جدا من منظور فلاحي اليوم وحتى من اغلب المتخصصين الاكاديميين حيت أصبحت هذه السلوكات عادات متاكدة وضرورية لدى الغالبية الساحقة ولكن «ماسونوبو» يرى ان ضررها على استدامة الأراضي وجودة المحاصيل وسلامة البشر فادح وانه يمكن بترك الأفكار المسبقة وبقليل من الاجتهادالحصول على محاصيل جيدة دون القيام بالكثير من الاعمال .

ولزراعة الشعير في فصل الخريف يقوم "ماسانوبو" ببذر الحبات باليد فوق حقل مزروع بالارز أسابيع قيلة قبل حصاد هذا الأخير :تبدو الطريقة غريبة ومجنونة ولكن اثبتت بتتالي السنوات والصبر نجاعتها.

عند حصاد الأرز يدويا تكون حبات الشعير قد بدات بالنمو (بعض صنتمترات فوق سطح الأرض) فتكون المرحلة الموالية هي تغطية الأرض بكل القش المتخلف من عملية استخراج حبات الأرز وهذا له على الأقل 3أدوار مهمة أولها التقليل من الأعشاب الضارة وثانيا وعند تفكك «القش» سيكون المادة العضوية التي تغذي النباتات وتعوض الأسمدة الكيميائية وثالثا تحفظ الكائنات الحية التي تعيش في ثنايا الأرض والتي لها دور مهم في تغذية النباتات وتعزيز قدرة الأرض على امتصاص مياه الامطار ولذلك سمى"ماسونوبو" كتابه الأول «ثورة حبة قش واحدة », مدخل الى الفلاحة البرية

La révolution d’un seul brin de paille
قطعت هذه الطريقة في زراعة الحبوب ليس فقط مع نظريات العلم الفلاحي بل أيضا حتى مع التقاليد القديمة مثل حراثة الأرض والاعداد المسبق للمخصبات العضوية (compost)اللذين اعتبرهما مجهودا «زائدا عن الحاجة» وهكذا اقتصرت زراعة الحبوب على امرين هما بذر الحبوب وتغطية الأرض بصفة عشوائية بالقش المتخلف ثم ترك الطبيعة تقوم بعملها .

طبعا لم تلاق هذه الطريقة النجاح من المحاولة الأولى بل بدات «البشائر» تأتي بعد سنوات قليلة أولا كميا لان انتاجه اصبح يضاهي الضيعات «التقليدية» وثانيا نوعيا لان حبات شعير وارز «ماسونوبو» ربما تكون الانقي في العالم مع تعزيز استدامة الأرض وثالثا تقليص كلفة الانتاج والمجهود .

شيئا فشيئا ذاع صيت هذه الضيعة «الغريبة» لتصبح قبلة الاكاديميين والهواة كذلك والذين يبحثون عن بدائل للتجارب السائدة (مثل «الهيبيين») ولكن بطلنا انتقد ردة فعل الاكاديميين التي وصفها بالباردة تجاه تجربة فريدة في العالم اذ كان كل متخصص ينظر اليها من منظور تخصصه وليس كتجربة شاملة يمكن تعميمها وهو ما عزز اعتقاده الجازم بعدم جدوى وقلة حكمة العالم الاكاديمي .

ولكن وبعد اكثر من 40 سنة على صدور الكتاب يبدو محتواه معاصرا اكثر من أي وقت مضى وتقريبا في كل بلدان العالم .

نحن في تونس البلد الفلاحي بامتياز, مطمورة روما وبلد الزيتونة والطقس المعتدل ما احوجنا اليوم إلى استلهام العبر من هذه التجربة, ما احوجنا الى قراءة كتب «ماسونوبو» وخاصة طلبة العلوم الفلاحية والقائمون على شؤون الفلاحة ولما لا فلاحونا خاصة وان فلاحتنا حادت عن «المسار الطبيعي» وتبنت تقنيات وبذور وادوية واسمدة كيميائية «غريبة» اصبح ضررها ثابتا علميا .

طبعا لا يمكن «استنساخ» التجربة حرفيا لان لكل بلد خصوصياته المناخية والجغرافية ولكن التوجهات والمبادئ الكبرى يمكن ان تكون محور «اجتهاد» وتصور لنموذج فلاحي تونسي بديل.

وانا اكتب هذه السطور طالعني خبر زيارة اداها هذه الأيام مسؤولون من وزارة الفلاحة والبنك الوطني للجينات لمعاينة ضيعة فلاحية بولاية زغوان اختار صاحبها زراعة أصناف محلية من الحبوب في اطار فلاحة بيولوجية :هذا خبر سعيد ولكن مثل هذه التجارب لا يجب ان تكون مجرد نماذج معزولة واستثنائية ولكن يا حبذا لو تتحول الى سياسة دولة بان تخلق هذه الأخيرة حوافز وتشجعيات للفلاحين من اجل التحول الإيجابي .

المشاركة في هذا المقال