Print this page

إضاءة: إشكل، ما خفي كان أجمل..

ما الفرق بين زيارة فضاء دح دح، والحديقة الوطنية بإشكل؟
البعض يحبذها قريبة، وغنية باللعب والتهريج، ومتعة الأطفال بأخف الأضرار..

وكثيرون، يفضلون التنقل، وركوب الدواب، والتوجه إلى حيث الروابي والسهول والجبل والبحيرة، وما جادت به حكمة الباري من مخلوقات نباتية وحيوانية..هنالك متعة مضاعفة، بين سفر، وتغيير وتيرة حياة، وحركة ، واستكشاف..

واشياء أخرى؟
بعيدا عن نسق الزيارات غير الموجهة ورحلات التلاميذ، التي يثريها أحيانا تدخل المربين، تتيح بعض الومضات غير المبرمجة، الانتباه من سياق نظرنا المعتاد، لاكتشاف أوجه أخرى لحقيقة المكان، وما ينطوي عليه من ثراء وأبعاد غير متاحة للنظرة الأولى.
وقد حمل الشريط الوثائقي الأخير للمنتج قيس الهمامي، الذي أنجزه بدعم من الوكالة الوطنية لحماية المحيط ومساهمة قيمة للخبيرة نبيهة بن مبارك، ومشاركة شبكة جمعيات مدينتي، وبرنامج تفنن، مناسبة لكشف أبعاد غنية ومتداخلة للحديقة، وعناصر فرادتها البرية والبحرية والنباتية والحيوانية وحتى الأثرية والثقافية والاجتماعية.
وجاءت قيمة الشريط، الذي مكن لأول مرة من التصوير بالطائرة من دون طيار لأول مرة بهذا الفضاء البيئي العالمي المتفرد، بطرحه السؤال الكبير ، والاندهاش، المحرض على البحث عما خفي من الحديقة المندرجة ضمن ثلاث اتفاقيات ومواقع بيئية عالمية، والمحتضنة لأكثر من أربعين مقام وضريح ولي..

وإشكل، الذي احتفى به الشريط، ويأوي جاموسا، وعصافير مائية، وحمامات، ورعاة، وتزاوجا فريدا بين مياه عذبة ومالحة، ومتساكنين كرماء.. وعرض لأول مرة في تظاهرة احتفالية بيوم الأرض أقيمت الأحد المنقضي بمدينة العلوم، حظيت، بأكثر مما عرفته محمية بوهدمة خلال الأسبوع المنقضي..
أحدثت الحديقة الوطنية بإشكل بمقتضى الأمر الرئاسي عدد 808-1608 المؤرخ في 18 ديسمبر 1980، وتتبع إداريا ولاية بنزرت.
 تتميز منطقة إشكل بمناخ متوسطي شبه رطب ذي شتاء لطيف ومعدل. سنوي للأمطار يقارب 600مم. ويوجد في هذه الحديقة فصلان متباعدان: شتاء ممطر وبارد وصيف حار وجاف، الأمر الذي يؤدي إلى تبخر كميات هامة من مياه البحيرة عند ارتفاع الحرارة في أواخر الربيع وخلال الصيف. ويبلغ معدل درجات الحرارة 18.1 درجة مئوية سنويا (الدرجة القصوى: 30، الدرجة الدنيا: 8). ونظرا لعوامل الارتفاع ووجود مسطحات مائية هامة وقربها من البحر، ترتفع نسبة الرطوبة بالحديقة، إذ تبلغ سنويا حوالي 82%. وتعرف الجهة أيضا بكثرة هبوب الرياح (حوالي 200 يوما سنويا) – خاصة منها الشمالية / الغربية)، التي تجلب الأمطار و تتسبب في تحريك الرواسب الدقيقة بقاع البحيرة، مما يعطي المياه لونا ترابيا وطميا داكنا.

الموارد المائية والخصائص الهيدرولوجية:
يكتسي النظام المائي لبحيرة إشكل والمستنقعات المحيطة بها طابعا فريدا من نوعه. ففي فصلي الخريف والشتاء، تتزود البحيرة بالماء العذب الصادر عن ستة أودية وهي الدويميس، سجنان، المالح، غزالة، جومين / الطين، فيرتفع عندئذ منسوب البحيرة من المياه التي تغمر المستنقعات.
ويتدفق الفائض من المياه عبر وادي تينجة إلى بحيرة بنزرت ثم إلى البحر الأبيض المتوسط، وعندئذ تنخفض درجة ملوحة الماء خلال الربيع إلى أقل من 10غرام / لتر أو حتى 5 غرام / لتر. 

خلال الصيف ونتيجة لعاملي التبخر وتوقف إمداد البحيرة بالمياه العذبة، ينقص مستوى الماء في البحيرة مقارنة بمثيله في البحر، الذي تندفع مياهه في اتجاه بحيرة بنزرت ثم وادي تنيجة وأخيرا بحيرة إشكل حيث تبلغ درجة الملوحة حوالي 40 غ / لتر مما يفوق ملوحة البحر (في أواخر الفصل).
ويعد هذا التناوب الفصلي لمنسوب الماء ودرجة ملوحته (شتاء: ارتفاع مستوى المياه مع انخفاض ملوحتها، صيفا: انخفاض مستوى المياه مع ارتفاع ملوحتها) العامل الرئيسي في تفرد المنظومة البيئية الرطبة بإشكل وتميزها على الصعيد العالمي، كما ينتج عنه نمو نباتي مميز جدا (نباتي المص وسلق الماء) يمثل ركيزة أساسية للنظام الغذائي الخاص بآلاف الطيور المائية المهاجرة الوافدة على المنطقة. ولهذا السبب، تشكل الحديقة الوطنية بإشكل واحدة من أهم المناطق الرطبة بالحوض الغربي للمتوسط إلى جانب دونانا (Donana) بإسبانيا والكامارق (La Camargue) بفرنسا والقالة بالجزائر. وخلال مواسم الشتاء المطيرة، يتراوح عدد الطيور المائية القادمة من شمال وشرق أوروبا والتي تستقر بالمكان، بين 100.000 و200.000 طير سنويا. ويعتبر هذا الموقع كذلك محطة عبور لأنواع أخرى من الطيور التي تشتي جنوب الصحراء.

يعود الأصل الجيولوجي لجبل إشكل إلى الحقبتين الثالثة والجوراسية، بينما تتكون السهول المحيطة به من رواسب ترجع إلى الحقبة الرابعة.

وتحتوي صخور الجبل ذات التركيبة الكلسية الصلبة وكذلك الرخامية على مسام عديدة تمكن مياه الأمطار من التسرب إلى أعماق الأرض فتتشبّع بالأملاح المعدنية والكبريتية وترتفع حرارتها إلى ما يقارب 42 درجة مائوية ثم تعاود البروز عند السفح في شكل عيون معدنية حارة شيدت حواليها حمامات (بن عباس، الشفاء، النقراز..)، يرتادها سكان المنطقة قصد الاسترخاء والاستشفاء، وأغلق منها حاليا سنة 2006 البعض قصد التهيئة مثل حمام بن عباس و حمام الشفاء الموجودين على ضفاف مستنقعات جومين.

وكانت الحفريات المنجزة بضفاف البحيرة قد أدت إلى العثور على عظام متحجرة لحيوانات تعيش بالمنطقة المدارية كالفيل والكركدن وفرس النهر، والزرافة، يرجع عهدها إلى ما قبل مليوني سنة. وعثر أيضا بالضفة الشمالية للبحيرة على متحجرات من المحار يترواح طولها بين 30 و40 صم. 

الثراء الإيكولوجي:
أتاح تنوع الأوساط الطبيعية بحديقة إشكل وجود وفرة استثنائية من النباتات والحيوانات البرية، إذ تم إحصاء أكثر من 500 نوع نباتي و229 نوع من الفقريات بالإضافة إلى أنواع عديدة جدا من اللافقريات (حشرات، عنكبوتيات، رخويات..).
تأوي البحيرة معاشب هامة من النباتات المائية أبرزها على الإطلاق سلق الماء، ذي فلقة واحدة (Potamogetonpectinatus)، توفر الغذاء للآلاف من أنواع الإوز التي تقتات خصوصا من الحبوب وكذلك الأوراق. تنمو بالبحيرة أيضا نبتة الروبيا (Ruppiacirrhosa, Ruppiamaritima) ذات الميول الملدية والتي تزداد كثافتها خلال المواسم الجافة.
يعتبر غمر المستنقعات وامتلاؤها بالمياه العذبة العامل الأساسي والمحدد لنمو نبات المص (Scirpusmaritimus) الغذاء الرئيسي للإوز الرمادي والذي يشهد حاليا بعض التراجع بفعل السنوات الجافة السابقة. وتنبت أيضا بالمستنقعات وعلى أطراف البحيرة، نباتات الطرفة الإفريقية والقصب والسمار التي تشكل مخابئ وأماكن إستراحة أو تعشيش للطيور الوافدة على المنطقة كالغر والنهوش الأبيض والبلشون الرمادي..

يكسو جبل إشكل حرج غابي متوسطي، يتكون من أشجار الجبوز والخروب وشجيرات الذرو والعرعار الفينيقي والقتم والقندول والعوسج والخلنج المتعدد الأزهار والكبار الشوكي الذي ينمو في الأماكن الصخرية ونبتة سبحان الخلاق النادرة بالحديقة والتي توجد أساسا بالمنحدرات الظليلة.
ويمكن لزائر الحديقة أن يتمتع كذلك بمشاهدة أنواع عديدة من الأزهار البرية منها الشائع مثل زهرة الربيع والفصيصية البحرية وكف الجرانة والأقحوان المتوج، والنادر مثل بخور مريم الإفريقي والسحلبيات التي أحصي منها بالجبل 13 نوعا. وفي الأماكن الظليلة، يمكن اكتشاف بعض الأنواع النادرة مثل السراخس التي تنبت عادة بين الصخور كالعشبة الذهبية والخنشار.

المشاركة في هذا المقال