Print this page

على البنوك مواكبة التحـولات الرقمية والمشاركة الفعـالة في إنجـاح الإستراتيجية المالية 2018 - 2022 للاشتمال المالي

محمود سامي نابي - باحث وأستاذ جامعي

يتكون القطاع البنكي التونسي من 23 بنكا، وقد وصلت مساهمة الدولة التونسية في جملة رأس مال البنوك

حوالي 37,6 ٪ في 2017 بينما امتلك المساهمون التونسيون الخواص 0,33 ٪ وبلغت حصة المساهمين الأجانب 32,1 ٪ وفقا لبيانات رسمية.

في إطار تقييم واقع القطاع البنكي التونسي، فإن للقطاع كثير من الايجابيات تبرز أساسا في أهمية القطاع البنكي في النظام المصرفي التونسي حيث يقوم بما يقارب 90 ٪ من عمليات الوساطة المالية.

ويعتبر القطاع البنكي التونسي أقل تركزا من كثير من القطاعات البنكية في بلدان مماثلة،فعلى الرغم من أن حصة البنوك الأربعة الأولى مثلت سنة 2016 ما يساوي 47,2 ٪ من مجموع الأصول، 46,2 % من مجموع القروض و 47,5 ٪ من مجموع الودائع، فإن مؤشر Herfindhal-Hirshman الذي يقارب 0,1 ٪ يدل على غياب الهيمنة، من منظور تحكم بنوك قليلة في حصص السوق البنكية (تحتكر البنوك الثلاثة الأولى في المغرب والأردن مثلا على ما يقارب 65 ٪من مجموع الأصول البنكية).

واحتل النظام البنكي التونسي المرتبة 37 عالميا من بين 141 بلدا ضمن ​تقرير التنافسية العالمي الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي لسنة 2019، بالنسبة لمؤشر حجم التمويل للقطاع الخاص مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي (86,7 ٪).

ويضاف إلى ذلك التطور الملحوظ في الإطار التشريعي والرقابي للنظام البنكي حيث تم في سنة 2016 سن القانون المتعلق بالنظام الأساسي للبنك المركزي التونسي والقانون المتعلق بالبنوك والمؤسسات المالية من أجل تكريس مبادئ الحوكمة الرشيدة، والمنافسة العادلة وتعزيز أسس الاستقرار المالي.

وقد عمل البنك المركزي التونسي على تحديث الإطار الترتيبي والإحترازي والمؤسساتي والعملياتي ونشاط الرقابة. وذلك من خلال إرساء الهيئات (لجنة التراخيص، لجنة انقاذ البنوك والمؤسسات المالية المتعثرة، صندوق ضمان الودائع البنكية) التي تم إحداثها بموجب القانون عدد 48 لسنة 2016 المتعلق بالبنوك والمؤسسات المالية. ومن حيث التطبيق العملي، تم تعزيز المنظومة الاحترازية، وتحسن الإطار العملياتي للرقابة بما يكرس الانتقال إلى الرقابة القائمة على المخاطر للسعي (رغم صعوبة التحقيق في الآجال) إلى مطابقتها لمعايير بازل III بحلول سنة 2020.

وتزامنا مع ذلك حسنت أغلب البنوك التونسية من صلابتها وحدثت كثير منها، منظوماتها المعلوماتية وطرق إدارة مخاطرها، مقللة من حصة الديون المصنفة (رغم أنها لا تزال عالية) ورافعة من نسبة تغطيتها. و تراجع عدد البنوك التي لا تنضبط إلى الحد الأدنى من المعايير الإحترازية، ففي سنة 2016 كان هناك ثلاثة بنوك مقيمة وبنك غير مقيم لم يحترم المعيار الإحترازي لنسبة الملاءة (10 ٪) ثم تراجع العدد إلى بنك مقيم وبنك غير مقيم. وكذلك كان هناك سنة 2016، خمسة بنوك مقيمة لم تحترم نسبة السيولة الترتيبية وتراجع هذا العدد إلى ثلاثة بنوك سنة 2017. واتخذ البنك المركزي عديد الاجراءات التأديبية التي تم تسليطها على البنوك لعدم الامتثال لمؤشر السيولة و معايير التركز، ومن بينها تسليط غرامات مالية استخلصت لفائدة خزينة الدولة.

كما أن التقدم الحاصل في مسار إعادة هيكلة البنوك العمومية الثلاثة الكبرى (BNA, STB, BH ) المبتدئ منذ سنوات والمعتمد على جوانب مؤسساتية، تجارية وعملياتية وعلى التوصل لحل اشكالية القروض المصنفة. وقد بدأت هذه البنوك استعادة فعاليتها وتحسن مردوديتها في انتظار استكمال إعادة الهيكلة بوضع النظم المعلوماتية الملائمة، تطوير آلية التصرف في المخاطر وتطبيق خطط التصرف في الديون المصنّفة. وبلغت حصة البنوك العمومية في تمويل الاقتصاد الوطني 37,5 ٪ سنة 2018 حيث لعب البنك الوطني الفلاحي دورامهما في تمويل قطاع الفلاحة والصيد البحري (35,5 ٪ من القروض)، وكذلك الشركة التونسية للبنك بالنسبة لتمويل قطاع السياحة (33,7 ٪ من القروض) كما هو الحال بالنسبة لبنك الإسكان فيما يخص تمويل القطاع العقاري (26,7 ٪ من القروض).

وقد زاد الاهتمام في السنوات الأخيرة بالاشتمال المالي (إمكانية الوصول إلى خدمات مالية عالية الجودة واستخدامها) حيث يتلقى الدعم من البنك المركزي التونسي و من الحكومة التونسية ،وفي هذا الإطار أصدر البنك المركزي بالتعاون مع وزارة المالية الإستراتيجية المالية 2018 - 2022 للاشتمال المالي والمرتكزة على ستة محاور استراتيجية ومن بينها تطوير الخدمات المالية الرقمية. وفي هذا الإطار أصدر البنك المركزي في فيفري 2019 المنشور عدد 16 لسنة 2018 المنظم لقواعد المنظمة لنشاط وسير مؤسسات الدفع من أجل تقريب الخدمات المالية من كل فئات المجتمع و التقليل من الكتلة المالية الورقية (Decashing). كما يتم بالتنسيق مع وزارة التكنولوجيا والإقتصاد الرقمي ومشغلي شبكات الاتصالات العمل على مزيد توفير الخدمات المالية الرقمية وربطها بتكامل في منظومات الدفع الوطنية.

كما ارتفع الناتج البنكي الصافي للبنوك المقیمة ب 690 ملیون دینار في سنة 2018 لیبلغ 4807 ملایین دینار (مقابل 3478 مليون دينار سنة 2016 و4117 مليون دينار سنة 2017) ويرجع ذلك لنمو هامش الفائدة بـ 21,2 ٪ ومداخیل محفظة سندات الاستثمار بـ 50,4 ٪ ، وقد ارتفعت مردودية الأموال الذاتية (ROE) من 8,7 ٪ سنة 2015 إلى 12,2 ٪ سنة 2017 (14,1 ٪ سنة 2018 حسب صندوق النقد الدولي) كما تحسنت مردودية الأصول من 0,8 % سنة 2015 إلى 1,1 ٪ سنة 2017 (1,2٪ سنة 2018 حسب صندوق النقد الدولي).

وفي ما يتعلق بتمويل المؤسسات البنكية تمويل للقطاعات الاقتصادية ،فقد توزعت القروض المهنية للبنوك لسنة 2016 صناعة (36,2 ٪)، تجارة (19,5 ٪)، سياحة (10,2٪)، بعث عقاري (10,5 ٪)، فلاحة (4,6 ٪) وخدمات أخرى (19٪).

أما في يتعلق بحدود القطاع البنكي في تونس ،فيمكن الحديث عن ضعف البنوك التونسية من حيث الاشتمال المالي حيث أن حوالي ثلثي البالغين لا يتمتعون بالخدمات البنكية أو يتمتعون بخدمات لا ترقى لاحتياجاتهم، حيث لم يعد التطور المالي على النطاق الدولي يحتسب من منظور المردودية والمرابيح المالية فقط، ولكن كذلك من منظور قدرة المؤسسات والأفراد على الولوج للتمويل وللخدمات المالية بصفة عامة. وقد ازداد الوعي بأهمية هذه الجوانب المكملة بعد أن أضحت فئات كثيرة من المجتمعات غير قادرة على الخروج من ضائقة الفقر، والحصول على تمويلات تمكنها من تمويل مشاريع اقتصادية والولوج إلى خدمات التعليم والصحة.

«حلول النظام البنكي التونسي المرتبة 109 عالميا من بين 141 بلدا ضمن ​تقرير التنافسية العالمي لسنة 2019، بالنسبة لمؤشر سهولة تمويل المؤسسات الصغرى والمتوسطة».

وعلاوة على النقائص الآنف ذكرها ،فإن إشكالية تشتت البنوك التونسية تعد معضلة للقطاع ،حيث يعتبر عدد البنوك عاليا بالنظر لحجم الاقتصاد التونسي، وحجمها صغيرا مما يقلل من قدرتها على الاستفادة من اقتصاديات الحجم ،كما أن بطئ البنوك التونسية في مواكبة التطورات الرقمية وذلك على الرغم من التطور الحاصل في عدد لا بأس به من البنوك والتي مكنها من الحصول على جوائز إقليمية تثمن الخدمات البنكية الرقمية.

أما عن المعوقات التي تحيل دون تقدم القطاع البنكي نحو الأفضل، فإن تأخر تحديث النظام القضائي والإجراءات الإدارية المعقدة تعرض البنوك التونسية لصعوبات وكلفة كبيرة لإستخلاص الديون المتعثرة وخاصة في القطاعين السياحي والفلاحي، مما يجعلها تخير التعامل مع حرفائها المعتادين مقلصا فرص التمويل للقادمين الجدد وللشركات المتوسطة والصغرى ،ويشجع هذا الوضع الشركات التي لا تفي بالتزاماتها المالية تجاه البنوك إلى مواصلة نشاطها دون إعادة هيكلة، أو الخروج من السوق معلنة إفلاسها، كما هو الحال في اقتصاديات السوق. ومن المنتظر أن يساهم قانون تسوية المؤسسات المفلسة الذي تم سنه في 2016 من الحد من هذه العوائق. ،هذا إلى جانب عدم وجود مكاتب الإئتمان المعلوماتية وهو ما يعرقل مهمة البنوك التونسية في قدرتها على معرفة درجة مخاطر الحرفاء فضلا عن هجرة الكفاءات العالية وخاصة منها المختصة في الإعلامية وتكنولوجيات الإتصال مما يصعب من قدرة البنوك على تحقيق تغيرها الرقمي ويجعلها كلفتها باهضة.

أما عن المخاطر المحيطة بالقطاع البنكي ،والتي ترتبط في جزء منها بالمنظومة البنكية ،فيمكن الحديث عن المخاطر الناتجة عن ضعف البنوك التونسية من حيث الاستقرار المالي حيث لازالت حصة الديون المصنفة عالية مساوية لـ 13,4٪ في 2018 (رغم التحسن حيث كانت النسبة في 2016 تساوي 15,6٪ وهو ما يفسر المرتبة 128 من 141 بلدا ضمن ​تقرير التنافسية العالمي الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي لسنة 2019). وكذلك الشأن بالنسبة لمؤشر الملاءة المساوي لـ 10,8٪ والذي يجعلها في المرتبة 137 حسب نفس التقرير وبالإضافة إلى ذلك يمكن الحديث عن نقص السيولة لدى البنوك وازدياد التجائها إلى البنك المركزي لإعادة التمويل حيث ارتفع هذا الأخير من 15883 مليون دينار سنة 2018 إلى 16912 مليون دينار في ماي 2019 قبل أن يتراجع إلى 11921 مليون دينار في سبتمبر 2019. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا التراجع ناجم أساسا عن تأثير المعيار الاحترازي الجديد الذي أقره البنك المركزي في نوفمبر 2018، فارضا أن لا تتخطى نسبة «القروض/ الودائع» 120٪. والهدف المرجو منه هو التقليص من تعرض البنوك لمخاطر التحول ، بما أن ودائع الحرفاء تبقى دون المستوى (نسبة القروض مثلت في جوان 2018 ما يقارب 130٪ من الودائع) وقابلة للسحب بسهولة نسبية. ويهدف البنك المركزي إلى حث البنوك إلى تحسین ودائع الحرفاء وبالتالي التقلیص من لجوئها الكثيف لإعادة التمویل.

كما أن البنوك عرضة لمخاطر أسعار الفائدة بما أن أصول البنوك في أغلبها ذات أمد متوسط وطويل، ويعتمد على تمويل نسبة مهمة منها بودائع ذات أمد قصير وهي عرضة أكثر إلى إرتفاع نسبة الفائدة في السوق المالية. وفي المقابل فإن أسعار الفائدة على القروض مسقفة بحد أقصى (12,3٪) لا يمكن للبنوك تجاوزه مهما كانت مدة الإقراض ودرجة مخاطر الشركات والأفراد.

اما بالنسبة للمخاطر المحدقة بالقطاع البنكي والتي في علاقة بالوضع الاقتصادي الوطني ،فإن البنوك تتعرض إلى الانعكاسات السلبية للسياسة النقدية التشددية التي أملتها الضغوط التضخمية المتواصلة والعجز التجاري المتفاقم ،حيث سعى البنك المركزي من خلال الترفيع في نسبة الفائدة المديرية (التي وصلت إلى 7,75 ٪) إلى الضغط على نسق سرعة نمو القروض البنكية (من 11,4 ٪ في جوان 2018 إلى 5,8 ٪ في جوان 2019) وخاصة منها قروض الإستهلاك، وعلى التوقعات التضخمية التي تقترن بعمليات المضاربة على تدحرج قيمة الدينار، من أجل الحد من التضخم الذي تراجع نسبيا من 7,7 ٪ في جوان 2018 إلى 6,7 ٪ في أوت 2019 ،كما عمل البنك المركزي في موفى سنة 2018على التقليل من التأثير السلبي لهاته الزيادة على القروض الموجهة للإستثمار وخلق الثروة من خلال إحداث وسیلة لإعادة التمویل على المدى الطویل، عن طریق طلبات العروض بأجل 6 أشهر المخصصة للاستثمار المنتج.

وتمثل الصعوبات التي تمر بها القطاعات المصدرة وخاصة منها الصناعات الميكانيكية والكهربائية عاملا سلبيا على مردودية القروض الموجهة لها، مقللة من التأثير الإيجابي الناتج عن تعافي القطاع السياحي بصفة عامة (الذي ترجع إليه حوالي الربع من الديون المتعثرة).

كما تبقى نسبة الفائدة الحقيقية على الادخار سلبية وغير مشجعة لتنامي ودائع الأشخاص الطبيعيين لدى البنوك، وذلك رغم الترفيع في نسبة الفائدة على الادخار من 3,5 ٪ في 2016 إلى 5,0 ٪ في 2018. ويذكر أن نسبة الادخار الوطني من الناتج المحلي الإجمالي تراجعت من 20,8٪ سنة 2010 إلى حوالي 9,1 ٪ سنة 2018.

ويضاف إلى ذلك ارتفاع استثمار البنوك في رقاع الخزينة (7749 مليون دينار سنة 2016 بعد أن كانت 4945 مليون دينار سنة 2014) يعرض الترقيم الائتماني للبنوك للتقهقر نظرا لإرتباطه بتدهور الترقيم السيادي للحكومة. وللحد من ذلك أعاد البنك المركزي توازن سیاسة المقابلات في إعادة التمويل من 60 ٪ للرقاع و 40 ٪ للدین الخاص إلى العكس (أي 60 ٪ للدین الخاص و 40 ٪ للرقاع).

أما عن الأولويات التي ينتظرها القطاع البنكي ،فهي ترتبط بالتسريع في تنفيذ الإستراتيجية الوطنية للإدماج المالي وما يرتبط بها من توفير خدمات بنكية (حساب إيداع، إدخار) لمحدودي الدخل بدون تحديد حد أدنى لفتح الحساب مع تحسين الثقافة المالية، وكذلك التقليل من التعامل نقدا من أجل الحد من الإقتصاد الموازي.

كما يجب العمل على توفير التمويلات بقدر أكبر لتشجيع التصدير واقتحام أسواق خارجية جديدة وذلك خاصة للشركات المتوسطة والشركات الناشئة ويتطلب ذلك الإسراع في بعث المكاتب الائتمانية لتبادل المعلومات حول مخاطر الحرفاء بصفة أنجع ،ويفترض أيضا تسهيل إجراءات الدفوعات الخارجية التي تخص الشركات المقيمة في معاملاتها الدولية وإعتماد التكنولوجيا الرقمية للرفع من جودة الخدمات والتقليل من كلفتها مع الانفتاح على المنصات المالية المبتكرة و الانخراط في التكنولوجيات المالية المبتكرة عن طريق تشجيع الشركات الناشئة في هذا المجال.

وتقتضي أولويات النهوض بالقطاع،توفير التمويل المشترك من طرف البنوك التونسية وصندوق الودائع والأمانات لمشاريع استثمارية مهيكلة في عدد من الجهات الداخلية في قطاعات الصناعات الغذائية والسياحة الداخلية والأنشطة الثقافية من أجل دفع الديناميكية الاقتصادية وخلق مواطن الشغل المباشرة وغير المباشرة والرفع من جدوى آليات ضمان القروض الممولة لبعث المشاريع والمؤسسات المتوسطة، الصغرى ومتناهية الصغر ومن الضروري الانتفاع من إمكانية فتح نوافذ للمالية الإسلامية من أجل توفير طرق تمويل ترتكز على المشاركة في الربح والخسارة ، منسجمة مع طبيعة المشاريع الفلاحية والمشاريع التكنولوجية الناشئة، مع الاعتماد على الصيغ التكافلية لضمان المخاطر وتشجيع البنوك على إصدار الرقاع الخضراء والرقاع ذات التأثير الاجتماعي وذلك في إطار مسؤوليتها الاجتماعية وواجب المشاركة في الجهد الوطني للتضامن الاجتماعي (صيانة المدارس والمصحات الأساسية العمومية، ووسائل النقل الجماعية لتلامذة المناطق الريفية) والانتقال الطاقي (عن طريق تمويل القروض الموجهة لتوليد الكهرباء عن طريق الطاقة الشمسية).

المشاركة في هذا المقال