العرض الأول لمسرحية «سيكاتريس» لغازي الزغباني: جميعنا نتوهم الحرية ونحن مكبلون بقيودنا

المسرح نبش في خبايا الذاكرة، المسرح تعرية للحقائق المزيفة وكشف عن حقيقة الاباطيل التي اصبحت حقائق ثابة،

الفعل المسرحي النقدي حركة فنية لفتح ابواب الذاكرة وتشريع نوافذ التاريخ لاعادة كتابة الحقائق وكشف المزيفين والانتهازيين الذين اصبحوا مناضلين وشرفاء، المسرح نقد للواقع وللمجتمع وللسياسة ولكل ما يمس حياة المواطن وهو حركة متجددة لا يموت و»سيكاتريس» عمل مسرحي ينفض الغبار عن الحقائق والحريات والخيانات.
«سيكاتريس» قدم عرضه الاول في فضاء لرتيستو، عن نص لحاتم جوهر ودراماتورجيا واخراج لغازي الزغباني و توظيب عام سليم الزغباني وتمثيل كل من محمد حسين قريع ونادية بوستة وطلال ايوب ومريم الدريدي ومحمد علي القلعي، اجتمعوا ليقدموا عملا مسرحيا جريئا ولاذعا.

العنوان عتبة النقاش
العنوان هو مدخل العمل، العنوان هو عتبة البداية وفي اختيار الاسم عادة ما يسعى المسرحي الى اختصار كل الاحداث والأفكار في عنوان العمل، وفي فضاء «لرتيستو» كان الموعد مع مسرحية «سيكاتريس»و هي كلمة فرنسية تونست واصبحت تستعمل في اللهجة التونسية و»سيكاتريس» المتونسة لها نفس معنى الكلمة الفرنسية الاصلية cicatrice أي الندب او الجرح الغائر الذي لا يمحى.

ومن رمزية الكلمة ودلالاتها غاص كاتب النص حاتم جوهر في الندوب التي نعيش معها ونعايشها يوميا، جراح غائرة معنوية بالأساس، وفي العمل عالج او قدم النص جروحا سياسية تتعلق بالثورة وبحرية الصحافة والانتهازيين الذين استغلوا فوضى ما بعد الثورة للنهب والتزلف و المناصب، مقدما انموذجا عن شخصية كاريكاتورية هي «التوهامي» (طلال ايوب) العامل بحانة، والقريب الى رئيسه القديم وفي ظل الفوضى اصبح «التوهامي» مالكا للحانة (العزري اقوى من سيدو، التوهامي استغل الوضع وكسب ملفات عن الفاسدين واستعملها للطلوع» كما يقول نص المسرحية، واصبح يتاجر بالعقارات وبات من الأسياد شخصية التوهامي المركبة والكاريكاتورية استعملها كاتب النص للدلالات على نماذج كثيرة من المتزلفين ، شخصية تجتمع بها كل علامات الجشع والرغبة في النهب لكنها تجد حظها وتصبح قيادية.

وفي اطار رمزية العنوان، يتساءل الكاتب حاتم جوهر والدراموتورج غازي الزغباني عن اصحاب المناصب اليوم؟ هل هم حقا من الكفاءات؟ مقدما شخصية «صاحب الحانة» الذي «عمرو لا قرى جريدة ولا حل كتاب» ليصبح مالكا للجريدة يناقش الصحفيين في افكارهم وآرائهم وهو الخبير فقط بأسماء الخمور وأجساد النساء.
هنا يتساءل عن حرية الصحافة؟ هل حقا الصحفي حر في فكره وطريقة صياغة ارائه ام «ماكينة الصنصرة» لازالت سيدة المقام، يتساءل عمن تسلقوا على عتبات الاعلام ليصبحوا المتحكمين في المشهد الاعلامي يثيرونه كما يشاؤون ويكون وجودهم «سيكاتريس» لكل الصحفيين الصادقين والمناضلين الشرسين عن حق الصفي في حريته.

القلم الجريمة
حين يصبح القلم جريمة فاعرف انك في دولة لا تحترم صحفييها ولا أفكارها حين تصنصر الافكار باسم النظام او باسم العيب والممنوع فاعلم انك في حضرة دول لا تعرف قيمة الفكرة وانك في رحاب نظام يعشق المطبلين والمتزلفين، القضية المحورية في «سيكاتريس» هي حرية الصحافة والحديث عن القلم الجريمة، القلم الذي قد يرفع صاحبه الى اعلى المناصب بعد عبارات التزلف و التطبيل، هو عينه قد يرميه في هوة السجن او مستشفى المجانين.

في المسرحية تجدك امام الحالة الثانية، صحفي عانى من الخيبة والبطالة والفقر بسبب قلمه، صحفي يكتب أراءه ببراعة يعرف معنى النقد وكيفية توظيف الفكرة يرهب ويهان ويعطل ويرمى في مستشفى للأمراض العقلية فقط لأنه رثى العراق بكلمات رأى فيها «عرفه» صاحب الجريدة مسا بالنظام و هي جريمة يعاقب عليها بكل شدة.
في المسرحية ابدع الممثل محمد حسين قريع في تجسيد شخصية الصحفي الحالم والطموح الذي اصبح مدمنا على الخمرة لينسى واقعه ويتناسى خيباته، صحفي صنع له خياله فكرة حاول تحقيقها فواجه كل مطبّات الظلم.
في المسرحية يقترب المخرج وكاتب النص من عوالم الصحفي يعالجان جزئياته البسيطة من كيفية عيشه وعلاقاته وتاثيرها في عمله وعلاقته مع فكرته وقلمه هل الصحفي من يحرك القلم ام القلم هو الذي يحرك الصحفي؟ ام راس المال يحركهما معا؟ امام الاداء المبهر للمثل يطرح السؤال هل الصحفيون أحرار حقا؟ هل ما يقدمونه يكون عن قناعة أم مع التعديل ومراعاة صاحب المال؟.

في المسرحية يكون اداء الممثلين عنوان قوة العمل فالتمثيل يكون فعل البحث عن الهوية و»الممثل لا يجد غايته الا بوقوعه في منطقة الغياب اكثر من وقوعه في منطقة الحضور ، عندما يقوم بفعل التمثيل ، حيث يغيّب ذاته بشكل متعمد وإن كان غير كامل ، بمعنى أنه حاضر بوعيه الخاص ، من خلال توحّده مع الشخصية المسرحية من ناحية ، ومع الجمهور المتلقي من ناحية أخرى ، فالتمثيل أكثر مظاهر الوجود الإنساني الذي تتجلى فيه نشاطات التوحّد (من قبل الممثلين ومن معهم في صناعة المسرحية ) والتوحّد المقابل ( من قبل المتفرجين، وكيفية تفاعلهم مع النص المقدم )» كما كتب مصطفى عطية جمعة في موقع الهيئة العربية للمسرح.
في العمل ينقدون حرية التعبير وحرية الصحافة تسلط الضوء على المخاض الذي يعيشه الصحفي يوميا بين افكاره وما يفرضه عليه الواقع و النظام ليكون النص مشفرا فكل «كلمة هي قناع» كما يقول هيدجير يخفي خلفه حقائق وشيفرات يقولها الممثل ويترك للمتفرج فرصة فك رموزها.

الجسد فعل مسرحي ثائر
جسدها رسم الفضاءات المسرحية وشكلها، بجسدها كتبت كل تناقضات الشخصية ووجيعتها الداخلية «هي الانثى بكل انفعالاتها، بطيبتها وجبروتها، بحبها وخياناتها، بعطائها وأنانيتها، هي انثى بإقبالها على الحياة وإدبارها عليها» هي انثى استعملت جسدها مطية لممارسة الفعل المسرحي والبناء الدرامي للحكاية بحركاته يكتب سينوغرافيا العرض وتؤثث للفكرة وتوصل رسائل النقد.

بجسدها كتبت نادية بوستة دورها، بانفعالاتها وتفاعلاتها مع الفضاء المكاني شكلت تعبيرة جمالية مميزة، فالجسد هو العالم الذي يرسم فضاءات العرض المسرحي، لأن المسرح روح الجسد وحركاته، فهو نبض المسرح منذ عهد الإغريق إلى الوقت الحاضر، ولكن ليس المقصود بالجسد الأنثوي هو المعبّر عن الغرائز الجسدية الشهوانية بل جمالياته في التعبير، على حد تعبير الممثلة العراقية سهى سالم، والجسد لغة فكلما كان النص متقدماً كان حضور المرأة متألقاً، ولا يُقصد بالجسد على المسرح جسد المرأة بل جسد الإنسان بكل انفعالاته وتعابيره، كما كتبت الممثلة اللبنانية عائدة صبرا وفي سيكاتريس يكون جسد نادية بوسة حركة انفعالية مسرحية متمردة، جريئة وقوية بجسدها رسمت رموز الحكاية وأبدعت في حياكة تفاصيلها.

المخرج السينوغراف
السينوغرافيا من مقومات الفعل المسرحي وعنصر اساسي لنجاحه، تقنية التلاعب بالضوء والكتابة بالموسيقى وكيفية توزيع الشخصيات وحضورها على الرّكح يكتبها المخرج وفقا لرؤيته للعمل، والسينوغرافيا في عرض «سيكاتريس» من ركائز العمل، فالمخرج غازي الزغباني يستعمل تقنية الحكاية بوجود راويين للقصة وهما جزء من الاحداث أيضا وتقنية الرواية او الحكواتي تعبيرة جمالية لها حضورها في الفعل المسرحي العربي والحكواتي جزء من الذاكرة الجماعية.

والحكواتي او الراوي يكون صاحب الفكرة والحدث فهو صانع الشخصيات «انا الي صنعتك، انا الي نحرك فيك» كما يقول المخرج اخر المسرحية، ففي فوضى الاحداث وتساؤل الممثلين عن انفسهم يشتعل الضوء في آخر القاعة ويتكلم المخرج ويقول «ماكش حر، انا صنعتك، انا صنعت الفكرة التي ارهقتك وأتعبتك، انا من صنعت الشخصية وحركتها كما أشاء» لتكون النهاية المثيرة التي تجمع الشخص (المخرج) بالشخصية (الممثلين) ممتعة ومختلفة.

ويمكن لمشاهد مسرحية «سيكاتريس» قول ما كتبته هناء عبد الفتاح على موقع «ثقافات» أضحت السينوغرافيا لغة متفردة لها قوامها الذاتي ومفرداتها الخاصة بها ورؤاها التشكيلية في المسرح المعاصر، إنها ترسم فضاءات مختلف خشبات المسرح وتعيد صياغتها من جديد. عبر هذا المفهوم ينتقل فن السينوغرافيا من منطوق الترجمة والنقل إلى مفهوم الرؤى والابتكار».

والمتابع للفعل المسرحي يكتشف ان معظم المخرجين المعاصرين هم سينوغراف لعروضهم المسرحية وكأنهم يريدون تشكيل العرض المسرحي منذ البداية فالمخرج والسينوغراف هنا يكونان وجهين لعملة واحدة هي تقديم عمل متكامل، وفي «سيكاتريس» تستعمل تقنيات سينمائية في سينوغرافية العرض على غرار «الفلاش باك» فالشخصية حين تسترجع حدثا ما لا تستحضره بالكلمات وإنما يتغير «الكوستيم» و»الماكياج» الفضاء المكاني والدرامي لاسترجاع تلك الذكرى او الحدث.

«سيكاتريس» مسرحية ناقدة، استعمل فيها المخرج تقنيات سينمائية وادائية لصناعة حبكة درامية جريئة تميز اعمال غازي الزغباني دائم التجديد في اعماله والباحث عن تقنيات ومهارات جديدة في ممارسة فعل الحياة «المسرح».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115