كليوبترا : الجمال، الإغراء و السياسة والوطن

كان شريط الملكة "كليوبترا" الذي أعدته شبكة "نتفليكس" والذي تم عرضه منذ أيام على قنوات الشبكة قد اثار الكثير

من الجدل والنقاش في مصر بين الأخصائيين في التاريخ الفرعوني القديم وحتى لدى الجمهور المصري الواسع .
وما أثار حفيظة المصريين- وكان سببا في هذا الجدل والنقد العنيف لشبكة "نتفليكس" - اختيارها ان تظهر الملكة كليوبترا امرأة سمراء تحمل ملامح افريقية .وقد اعتبر المختصون في التاريخ الفرعوني ان هذا الظهور للملكة الفرعونية تزييف للحقائق التاريخية المتعارف عليها .
ولم يقتصر هذا النقد على الباحثين والمؤرخين بل امتد كذلك الى المؤسسات الرسمية حيث أصدرت وزارة الآثار المصرية بيانا اكدت فيه ان ظهور البطلة بهذه الهيئة يعد تزييفا للتاريخ المصري ومغالطة تاريخية .كما أشارت الى ضرورة تحري الدقة حتى لا تتم تزييف حضارات الشعوب .
وقد ارتكز النقد على النظرة الأفريقية المركزية (afro-centrist) التي طبعت هذا العمل وغياب الآراء الأخرى في هذه الكتابة التاريخية .ولئن اكد هذا العمل والنقد الموجه على شيء فقد اكد على غياب الحياد في الكتابة التاريخية وأهمية ان نقوم بكتابة تاريخنا والتعريف بمرويتنا لتاريخنا من خلال اعمال فنية كبيرة لا تكتفي بالتوجه للجمهور العربي بل تحاول الوصول الى العالمية .
وبالرغم من النقد والجدل اللذين أثارهما هذا الشريط نحن بصدد عمل ضخم امتد على اربع حلقات تدوم كل حلقة منها ساعة من الزمن .وقد جمع هذا العمل بين الجانبين الوثائقي والروائي وجمع عددا كبيرا من الممثلين وخاصة من المؤرخين والأساتذة الجامعيين الكبار المختصين في الحضارة الفرعونية والمدرسين في اكبر الجامعات الأمريكية .
وقد مكننا من الوقوف على صفحة مهمة من التاريخ المصري القديم ومسيرة الملكة كليوبترا التي اجتمع فيها الجمال بالإغراء والصراعات السياسية والدفاع عن الوطن وحمايته من المخاطر الخارجية وخاصة من محاولة هيمنة الإمبراطورية الرومانية على الدولة الفرعونية وهزمها والقضاء عليها .
قدم لنا هذا العمل الضخم صورة مهمة عن تاريخ ومسار الملكة كليوبترا . وقد أشار الى قلة الوثائق حول الملكة والتي تعود اغلبها الى المصادر الرومانية والتي أعطت عنها صورة سلبية واعتبرتها خليلة الإمبراطور جول سيزار (jules cesar) والإمبراطور أنطوان (Marc Antoine) وقد فندت هذه الوثائق خبرتها ودهائها السياسي واعتبرت ان ما تمكنت من الحصول عليه وحماية الدولة الفرعونية من الوقوع تحت سيطرة الإمبراطورية كانت نتيجة الإغراء الذي مارسته على القادة الرومان والطبقة السياسية في روما مما مكنها من الوصول إلى مبتغاها .
وقد اشارت عديد المصادر التاريخية الاخرى الى عكس ذلك وأكدت على جمال الملكة وأناقتها الارستقراطية .كما برهنت هذه الوثائق على شجاعتها حيث كانت الى جانب جنودها وجيشها في عديد المعارك المهمة .كما بينت هذه الوثائق دهاءها السياسي حيث تمكنت من حماية الدولة الفرعونية من الانهيار والدخول تحت الهيمنة الرومانية من خلال بناء تحالفات مع قادة الإمبراطورية الرومانية واللعب على تناقضاتهم الداخلية من اجل الحفاظ على الوطن وتفادي السقوط .
من الصعب القيام بقراءة مطولة في هذا المقال لمسيرة ملكة حكمت الدولة الفرعونية بين سنة 51 وسنة 30 قبل ميلاد المسيح كل ما في وسعها من اجل إنقاذها في أصعب فتراتها التاريخية وقد مكنني هذا العمل الضخم من الاحتفاظ بأربع محطات مهمة .
تعود المحطة الأولى الى ظروف صعود الملكة كليوباترا الى السلطة سنة 50 قبل المسيح ولم يتجاوز عمرها 18 سنة .عرفت هذه الإمبراطورية هذه أزمات متعددة ومعقدة .فكان الوضع السياسي مهتزا بسبب الصراعات بين النخب السياسية التي فقدت مصداقيتها خاصة مع تنامي الفساد والرشوة .كما عرف الوضع المالي تأزما حيث كانت الدولة على حافة الإفلاس وعجزت عن تسديد دين أخذته من احد الارستقراطيين في روما .وكانت هذه الازمات وراء تزايد تدخل الإمبراطورية الرومانية ي الأوضاع الداخلية ومحاولة الهيمنة على الدولة الفرعونية .
وقد صعدت الملكة إلى السلطة سنة 51 قبل المسيح وشاركها والدها بتولومي VII(Ptolémée) ثم أخوها بتولومي XIII(Ptolomée XIII) عند وفاة والدها .وستكون السنوات الأولى لحكمها صعبة نظرا للازمة الاقتصادية التي عاشتها مصر في تلك الفترة والازمة الفلاحية مع شح المياه في النيل .وقد زادت الصراعات السياسية بين المكلة وأخيها من صعوبة هذه الفترة.وقد اضطرت الملكة للهرب الى سوريا لتفادي محاولات أخيها للقضاء عليها .
وسيصل الإمبراطور جيل سيزار في تلك الفترة الى الإسكندرية وسيعمل على المصالحة بين الأخوين الأعداء وإلحاق مصر بالإمبراطورية الرومانية .إلا ان محاولة بتولومي القضاء عليه جعلت الإمبراطور الروماني يختار التحالف معه كليوباترا
أما المحطة الثانية والمهمة والمثيرة في هذه المسيرة السياسية الملكة كليوباترا فتهم لقاءها وتحالفها مع الإمبراطوري جول سيزار .حصل هذا اللقاء سنة 48 قبل المسيح في الاسكندرية .ولعل المثير في هذه العلاقة ان الإمبراطور المعتد بنفسه وبقوة إمبراطوريته قدم الى الإسكندرية لمناقشة استلام وخضوع الدولة الفرعونية والتي اصبحت ولاية جديدة للإمبراطورية .وقد ارتكز هذا القرار والى جانب إرادة الهيمنة للإمبراطورية الرومانية على الدولة الفرعونية والتي صمدت امام مطامعها لعقود طويلة الى عجز المصريين على خلاص دين لصاحب مصرف في روما والذي اخذت الإمبراطورية على عاتقها استخلاصه.
وقد انطلقت المفارقات بين جول سيزار والملكة على قاعدة الاستسلام وخضوع مصر للاقوى الا ان هذه المفاوضات انتهت الى نتيجة سياسية مغايرة جوهريا حيث اتفق الجانبان على احترام السيادة وبناء تحالف استراتيجي بين الدولتين .وقد قدم المؤرخون عديد القراءات لهذا التغيير الكبير في مواقف الإمبراطور جول سيزار والتي ركزت اغلبها على إغراء كليوباترا ووقوعه في شباك حبها وجمالها الاخاء .
وتشير عديد القراءات الأخرى الى جانبين سياسيين مهمين اديا الى تغيير موقف جول سيزار .تهم المسالة الاولى تقييمه للقوة العسكرية للدولة المصرية خلال الحروب الأهلية في سنوات 47 و48 قبل الميلاد حيث اعتبر ان الدولة رغم وهنها وضعفها لازالت تشكل قوة يصعب هزمها .
اما الجانب الثاني فهو اقتصادي حيث عرفت الإمبراطورية الرومانية تبعية كبيرة من الناحية الزراعية لمصر وبالتالي تخوف الإمبراطور من ان يقع استعمال السلاح الغذائي في هذه المعركة والذي كانت ستكون نتائج وخيمة على سكان روما والإمبراطورية .
الا ان هذا التحالف بين جول سيزار وكليوباترا شهد معارضة كبيرة من النواب في البرلمان في روما .ولم تنجح كليوبارتا في الحصول على ثقتهم بالرغم من انتقالها لمدة طويلة الى روما وانجابها لابن من جول سيزار .وستنتهي هذه الأزمة السياسية في روما بمقتل جيل سيزار .
اما المحطة الثالثة فتهم تغيير تحالف كليوباترا بعد موت جيل سيزار والتقائها وتحالفها مع مارك أنطوان والذي كان احد ألد أعدائه .
وقد صل مارك أنطوان للسلطة سنة 41 قبل المسيح ونجحت الملكة في ربط علاقة كبيرة معه التقى فيها الجانب الذاتي وعلاقة الحب الجارفة التي جمعتهما بالسياسي .وقد مكنها هذا التحالف من اعادة بناء الدولة المصرية ومحاولة الخروج من أزماتها .
ولم يدم هذا التحالف طويلا حيث ستثور روما على مارك أنطوان بقيادة اوكتاف (Octave) لتنتهي المعارك بانتحاره سنة 30 قبل الميلاد.
اما المحطة الرابعة في مسيرة الملكة كليوبترا فتهم نهايتها التراجيدية وإقدامها على الانتحار في 12 اوت 30 قبل الميلاد بفعل سم حيّتين تمكنت من الحصول عليهما خفية من طبيبها .
ومع انتحار الملكة انتهت حقبة مهمة من تاريخ مصر القديمة التي حاولت فيها بكل ما أوتيت من شجاعة وذكاء نادر وجمال اخاذ وإغراء حماية دولتها والصمود امام محاولات الهيمنة الاستعمارية .
إن متابعة هذا العمل الضخم تدعونا الى التأكيد على مسالتين ومهمتين .تهم الأولى ضرورة الاهتمام بكتابة تاريخنا وعدم تركه للاخرين لتفادي التحامل والحيف في التعاطي معه .اما المسالة الثانية فتخص الانعكاسات الخطيرة للازمات السياسية والمالية والاقتصادية في تاريخ الشعوب وفتحها للباب أمام المطامع الاستعمارية .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115