قراءة في حكومة الشاهد: بين إرضاء الوطن وإرضاء الشيخين

ما زال بعض السياسيين في تونس يعطون الأولوية المطلقة لأشخاصهم أو لذويهم أو لأحزابهم أو لأيديولوجياتهم على حساب المصلحة الوطنية العليا رغم أن الوضع وصل إلى الحضيض في بلدنا على عديد الأصعدة، وهو وضع أصبح يُنذر بإفلاس الدولة وتعميم الفوضى والفساد والنهب والتهريب والإرهاب

وضع لم نعش في تونس أسوأ منه على الإطلاق، ويستوجب وقفة حازمة وعاجلة في اتجاه الإنقاذ السريع، إنقاذ إن تأخّر بضعة أشهر أخرى ستُصبح بلادنا، لا سمح الله، غير قابلة للحكم، بل قابلة للاستعمار.
في هذا الوضع، قام يوسف الشاهد بتشكيل حكومة يُفترض أن تكون حكومة آخر أمل، حكومة ما قبل الانطلاقة الجديدة في اتجاه التقدم، أو ما قبل الانهيار التام. وهو ما يجعلنا ننظر إليها بتمعّن كما ينظر المصاب بمرض خطير إلى وصفة دواء الطبيب.
قيل الكثير عن يوسف الشاهد من حيث انتماؤه إلى حزب النداء أو شبهة قرابته العائلية من رئيس الجمهورية وما إلى ذلك من محاولات التقليل من الأمل في نجاحه في أصعب المهامّ التي يُمكن لتونسي أن يتحمّلها اليوم. ولكنّي أُنزّهه عن كل المآخذ المذكورة لما عرفته فيه شخصيا من نزاهة ووطنية، وذلك خلال الفترة القصيرة التي عملنا خلالها جنبا إلى جنب من أجل تأسيس وإنجاح القطب الديمقراطي الحداثي في انتخابات أكتوبر 2011.
التشكيلة الحكومية التي اقترحها الشاهد تدلّ، في قراءة أولى، على جهد مشكور في جمع كفاءات للحد من تدهور الأوضاع في البلاد ولِم لا، لوضعها على سكة التقدم، رغم النقائص والشبهات التي ننتظر منه تبريرها.

كفاءات لا غبار عليها
فعلاوة عن التشبيب والتأنيث الواضحين، يُحسب للشاهد اختيار كفاءات لا غبار عليها في مواقع حساسة تشكو من الفوضى العارمة التي أصبحت عليها بفعل عدم كفاءة الذين أشرفوا عليها في السنوات القليلة الماضية، إن لم نقل قلّة نزاهة بعضهم، نذكر منهم:

- غازي الجريبي في وزارة العدل، وهو الرجل المستقيم بدليل تجربته القصيرة في أكثر حكومات ما بعد الثورة استقامة، علما وأن العدالة في تونس أصبحت في السنوات الأخيرة محل شكوك وانتقادات مثل تلك المقولة الشهيرة "الشرطة تشد والعدالة تسيّب".

- لمياء الزريبي في وزارة المالية، وهي من أبرز الكفاءات التونسية في هذا المجال الذي ما انفكت تتجاذبه التقييمات المتضاربة.

- سمير الطيب في وزارة الفلاحة، ذلك السياسي المحنك والوطني حدّ النخاع، وسيُشرف على قطاع لعبت به شخصيات وأحزاب بشكل فظيع حوّلت فلاحتنا التي كانت مفخرة البلاد إلى أكثر القطاعات عبثا.

- محمد الطرابلسي في وزارة الشؤون الاجتماعية، وهي في اعتقادي تسمية ناجحة لما عُرف عن هذا النقابي الأصيل من وطنية وحنكة، ويُنتظر منه تعديل التوازن المنخرم بين الإدارة واتحاد الشغل للحد من تجاوزات هؤلاء وأولئك.

- نزيهة العبيدي في شؤون المرأة، وهي المشهود لها بالكفاءة العالية في مجالها الذي عملت فيه طيلة عقود. وأما ما يُشاع عنها من انتماء سابق للتجمع الدستوري فإننا نُذكّر بأنها ليست أول دستورية تُشارك في الحكم بعد الثورة.

- ماجدولين الشارني في وزارة الشباب، وهي الشابة الصلبة ذات الثقافة الواسعة. ولقد كانت لها تجربة حكومية قصيرة استكملت خلالها المهمة التي أنيطت بعهدتها.

وزراء مُسقطون
مقابل ذلك نجد الشاهد ينقاد إلى شكل من أشكال المحاصصة الحزبية التي طالما صرّح بأنه لن يخضع لها. وإلا كيف نُفسّر بعض التسميات الفاشلة بكل المقاييس مثل:

- زياد العذاري في وزارة الصناعة والتجارة. وللتذكير فإن العذاري هو الذي كُلّف برئاسة اللجنة البرلمانية للتحقيق في أحداث 9 أفريل 2012، تلك الأحداث التي تمّت خلالها تجاوزات أمنية فظيعة وعبثت فيها ميليشيا النهضة كما شاءت دون محاسبة، ولم يُقّدم العذاري إلى اليوم تقريره حول القضية، مُبجّلا مصلحة حزبه على مصلحة الوطن وعلى الحقيقة عملا بمبدإ «انصر أخاك ولو كان ظالما». زد على ذلك أن عدد العاطلين عن العمل قد ازداد بشكل مُفزع عندما أوكلت إليه وزارة التشغيل. وما تعيينه اليوم على وزارتين كبريين وحساستين مندمجتين في واحدة إلا مجازفة كبرى من قبل الشاهد، يبدو أنها جاءت نتيجة ضغط غير مسبوق من راشد الغنوشي الذي قد يكون لوّح بعدم التصويت له من قبل نواب النهضة عند عرضه لحكومته على ثقة المجلس.

- عماد الحمامي في وزارة التشغيل والتكوين المهني، وهو تعيين جاء أيضا بكل وضوح رضوخا إلى ضغط حركة النهضة. ولا أخال الشاهد مرتاحا لتسمية الحمامي في حكومته، وهو الذي دافع عن إبقاء الإمام المتطرف لجامع اللخمي بصفاقس وعن زارعي الفوضى بسبب تنحيته، مدافعا عن ذلك "المبدأ" الغريب الذي سمّاه "بالحق في الأمن الروحي".

- عبد الجليل بن سالم في وزارة الشؤون الدينية، وقد نُشر في المواقع الاجتماعية هذه الأيام مرارا عديدة شريط يدعو فيه صراحة بأن «الإسلام السياسي هو مستقبلنا» وهو موقف من أخطر ما يكون على الدولة وعلى الجمهورية وعلى المجتمع. ولست أدري لماذا يُبقي يوسف الشاهد أصلا على هذه الوزارة، علما بأن زين العابدين بن علي أنشأها لغرض ديماغوجي ظرفي لا مُبرر له اليوم.

أما عن الوزراء الباقين من الحكومة المتخلية، ولئن تمّ التخلص من عدد كبير منهم ممّن أظهروا فشلا واضحا، فإننا لا نعتقد أنه تمّ الإبقاء على أفضلهم. فلو استثنينا سميرة المرعي وناجي جلول اللذين قاما بمجهود واضح في حكومة الصيد، فإن الباقين لا يُفسّر إعادة تكليفهم بحقائب وزارية غير التلبية لرغبة ملحّة لأحزابهم القوية على غرار سلمى اللومي وأنيس غديرة.

وكما خضع الشاهد للدعوة إلى الإبقاء على وزراء لم يكونوا مقنعين، يبدو أنه خضع أيضا للدعوة إلى التخلّي عن كفاءات لا غبار عليها مثل محمود بن رمضان وسعيد العايدي عقابا لهما لعدم رضوخهما لحركة النهضة أو للاتحاد العام التونسي للشغل أو لإدارة نداء تونس. كما أنه لم يدعُ شخصيات من ذوي الصيت العالمي والكفاءة العالية والتجربة الواسعة على غرار مصطفى كمال النابلي وعفيف شلبي والياس الجويني علما بأن الوضع الاقتصادي المنهار يحتاج إلى سداد الرأي وعمق النظر أكثر من اعتبارات أخرى مثل التشبيب أو الانتماءات الحزبية.

وأما عن بقية الأعضاء غير المعروفين في الساحة السياسية، وخاصة منهم كتاب الدولة، فالخوف كل الخوف أن يكون من بينهم مندسّون من أحزاب مُعيّنة وتم تقديمهم على أنهم مستقلّون. وما زلنا نذكر منح وزارة العدل في حكومة العريض إلى نذير بن عمّو على أنه مستقل، وما راعنا في الانتخابات الموالية إلا أن نجده رئيسا لإحدى قائمات حركة النهضة.

ويبقى السؤال هل سيسير الشاهد في النهج الذي رسمه لإنقاذ البلاد اعتمادا على وثيقة قرطاج وعلى تقديم مصلحة البلاد على مصلحة الأحزاب والأشخاص حتى إذا اقتضى الأمر إغضاب سياسيين فاعلين في البلاد، أم سينقاد إلى التنازلات التي ستحاول الأحزاب فرضها بدءا بالتعديل في التشكيلة المقدمة ووصولا إلى ثنيه عن اتخاذ إجراءات تضرّ بمصالحها السياسية أو الشخصية، وعندها على تونس السلام.

إجمالا، يمكن القول بأن الحكومة المقترحة لن تكون طيّعة بين أيدي رئيسها الشاب الذي من الواضح أنه قام بمجهود للحد من الابتزاز الحزبي دون النجاح في التخلّص منه صراحة. حتّى أن المجلس النيابي بتشكيلته الحالية ليس مضمونا بالنظر إلى أن إرضاء الحزبين الأغلبيين لم يكن إلا بشكل جزئي.

منير الشرفي

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115