رسالة الى السيد يوسف الشاهد المكلف بتشكيل الحكومة: حول مسألة السياسة الثقافية في تونس

كنت اتوقع ان تكون المسألة الثقافية من بين الأولويات الاستراتيجية التي تضمنتها وثيقة قرطاج وتصريحكم والذي ذكرتم فيه خمسة ملفات استراتجية تجتمع كلها حول حماية الانتقال الديمقراطي والتميز الاقتصادي والاجتماعي.

وقد استثنت هذه الأولويات المسألة الثقافية كركيزة أساسية لإنجاح هذه المرحلة.

فمن المعلوم أن انجاح أي انتقال ديمقراطي يمر ضرورة بترسيخ ونشر قيم الثقافة الديمقراطية وقد بينت التجارب ذلك ومنها التجربة الاسبانية والبرتغالية، فقد كان «فليبي غونزالس» يصرح لمناضلي الحزب الاشتراكي الاسباني ان دوام هذا الحزب هو رهين ترسيخ الثقافة الديمقراطية في اسبانيا وكانت هذه المسألة محورية في التجربة الاسبانية وتلخص ذلك في تنظيم حملات مجتمعية بغرض توعية العموم بالالتزام بمكونات الثقافة الديمقراطية وقد انتجت هذه المجهودات نهضة ثقافية ديمقراطية اتسعت لجميع الطبقات والفئات بما ساهم في تغذية الحس المدني لدى الاسبان تجسّد في بروز روح المبادرة واحترام الاختلاف واحترام القانون والتخلي عن العصبيات بكل أشكالها، فظهرت حركات مجتمعية تعمل من أجل تجميل المدن والمحافظة على التراث المادي واللامادي وتقديم صورة ديمقراطية لاسبانيا مخالفة تماما لاسبانيا فرانكو.

اعتبارا انني من الذين يمتلكون المعرفة والتجربة في اعداد السياسات الثقافية وخبرة طويلة في منظمة اليونسكو والعديد من المؤسسات الدولية رأيت انه من واجبي ان اتدخل في هذا الميدان في صالح المجتمع التونسي وقد كاتبت في هذا الشأن رؤساء الحكومات الثلاثة السابقة دون أي تجاوب.

واقتناعا مني بهذا التصور، ومن اجل اقناع السلطة التنفيذية بضرورة اتخاذ قرارات جريئة من اجل ارساء سياسة ثقافية فاعلة ومنتجة تعتمد قيم الثقافة الديمقراطية والقيم الانسانية الكونية التي تضمنها الدستور وسعيا لتوضيح هذه الرؤية أوافيكم بالأفكار التالية:
• أولا: إن الثقافة الديمقراطية لا يمكن استيرادها من الخارج ويمكن تمثيلها ببذرة يغرسها أهلها ويعتني بها أهلها لتصير شجرة يستفيد من ثمارها أهلها.

• ثانيا: بينت البحوث والدراسات منذ الثمانينات ان السياسة الثقافية هي في الواقع امتداد لثقافة الدولة وهي مرآة تعكس المرجعية الثقافية والممارسات السياسية والاجتماعية وقد ثبتت هذه الرؤية من خلال عديد المفكرين من بينهم ارنستو كردينال الذي ذهب الى اعتبار ان السياسة الثقافية وعي اولا وضمير ثانيا لتصور العمل السياسي في دولة ما ...

• ثالثا: تبين ايضا من خلال التجارب والدراسات التي قمت او ساهمت في انجازها انه لا يمكن بناء سياسة ثقافية دون معرفة مكوناتها من خلال ما هو كائن وما ينبغي ان يكون، الامر الذي يفرض قبل اي تخطيط او تصور وإعداد استراتجيات، القيام بجرد وطني للممتلكات الثقافية (القدرات البشرية ونسيج الصناعات الثقافية).Inventaire national des biens culturels.
ومن المعلوم انه الى يومنا هذا لا يوجد اي جرد شامل للممتلكات الثقافية في تونس –رغم توفر الامكانيات التقنية لتحقيق ذلك- وغيابه يجعل كل الابواب مفتوحة للمغالطة والارتجال والتحيل والتفويت الاعتباطي في التراث والتنكر لاجزاء هامة من مكونات الهوية والتلاعب بالتاريخ وغياب الشفافية وكل هذه النقائص تقف سدا أمام نشر وترسيخ قيم الثقافة الديمقراطية وقد تؤدي كذلك إلى اتلاف احدى اهم ثروات الشعب التونسي.

• رابعا: في غياب هذا الجرد الوطني للممتلكات الثقافية من المستحيل بناء سياسة ثقافية تهدف إلى دمقرطة التراث الثقافي بكل أنواعه على عكس تجارب الدول الديمقراطية التي جعلت من هذا التصور مشروعا استراتيجيا في صلب نظرتها الشاملة إلى التنمية. على عكس بلادنا التي تشير بعض المعطيات إلى أن الاستثمار في المجال الثقافي لا يتجاوز 10 %:

•خامسا: إن التعلات الإديولوجية أو السياسوية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تجعل من نشر قيم الثقافة الديمقراطية كهدف أساسي من أهداف الثورة، مسألة هامشية، فبدون ثقافة ديمقراطية لا يمكن الحديث أصلا عن سياسة ثقافية أو انتقال ديمقراطي بمفهومه السياسي والاجتماعي.

• خامسا: وبغرض إنارتكم ببعض التجارب النموذجية التي يمكن الاستئناس بها أتقدم إليكم بالأمثلة التالية:
توسيع شبكة المكتبات العمومية وتعصيرها لتصبح النواة القاعدية لنشر قيم الثقافة الديمقراطية وهي تجربة تبنتها العديد من الدول خاصة منها الدول الاسكندنافية.
ونذكر في نفس السياق دور السينما كفضاء يمثل اهم المدارس العمومية للتثقيف الديمقراطي ومن واجب الدولة الديمقراطية ان تجهز كل المدن وكل الاحياء بدور سينما عصرية تقدم فيها الاشرطة التي تفتح للشباب افق ثقافة المواطنة والمعرفة و الحرية.

• سادسا: تعيش كل الثقافات يوميا تقاطعا وتنافسا وتجانسا وتبادلا، فبات من الضروري تبني دبلوماسية ثقافية تعتمد على تفعيل كل الاتفاقيات حول هذا القطاع وتأسيس شبكات جديدة من اجل التنمية الثقافية التقليدية والرقمية المشتركة بالاستعانة بالجمعيات لتغيير موقع الفعل الثقافي من الجمود إلى الخلق والإبداع وصناعة المعرفة الثقافية الى غير ذلك حتى نجعل من تونس عاصمة ثقافية بأتم معنى هذا المفهوم وتحقيق ذلك ممكن اذا توفرت الارادة والفعل السياسي في كل الميادين الثقافية.
هذه بعض الافكار التي أردت المساهمة بها في تأسيس رؤية ثقافية تنموية ديمقراطية (إعادة تفعيل مفهوم التنمية الثقافية) وهي أفكار يشاركني فيها العديد من الباحثين والمهتمين بالسياسة الثقافية على أمل التفاعل الإيجابي معها وانتهاج سياسة ثقافية تتيح نشر قيم الثقافة الديمقراطية كضلع أساسي من هيكل البناء الديمقراطي.

رضا التليلي
مدير مؤسسة أحمد التليلي من أجل الثقافة الديمقراطية وخبير سابق لدى اليونسكو في السياسات الثقافية مكتب الرباط ومدير سابق لمركز الدراسات للتنمية الثقافية

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115