أنا والسرطان

تفاجأنا في «المغرب» بنبإ المرض الذي ألمّ بأخينا وصديقنا وعزيزنا الأستاذ شيحة قحّة.. مرض دون سابق إنذار.. وسوف تقرؤون هنا شهادة نادرة لا في الصحافة التونسية فقط بل والعربية كذلك لأننا لم نتعوّد أن نتحدث عن هذا المرض، السرطان، أو حتى أن

نسميه... ولكن شيحة قحّة الذي يواجه الحياة دون عقد بفكر حرّ وبسؤال مستمر ها هو يخوض حربا جديدة ضد المرض... حرب نعتقد جازمين بأنه سينتصر فيها... ففي شهادته هذه النادرة والحارقة ينبغي أن نقرأ في كل سطر منها.. شهادة الإرادة والحرية والحياة...

في «المغرب» كلّنا شيحة اليوم وهذا النص يمثل بالنسبة لنا شهادة نادرة وقوية على جزء من واقع بلادنا اليوم وكل ما نتمناه هو أن يجد فيه الجميع عناصر إضافية للإيمان بالحياة. كان الله في عونك وفي عون كل التونسيين.

• اللوحة الأولى
ها أنا وزوجتي في الطائرة نعود الى تونس. الرحلة من مونريال الكنديّة الى تونس العاصمة طويلة، شاقّة. يتعبني السفر الطويل. أصبحت ألقى في السفر الى كندا وغيرها من الأقطار عسرا وضيقا. أنا أكره السفر ولكني أتجشم مشقته حتّى أرى ابنتي خديجة وابني محمّد وهما في كندا مستقرّين منذ سنين من أجلهما يجب عليّ أن أسافر وأقطع المسافات. كانت الطائرة تعجّ بشرا جاؤوا من كلّ الأصقاع. كلّ في مكانه ينتظر متى تهبط الطائرة. تدوم الرحلة سبع ساعات. سبع ساعات في نفس المكان وأنا جالس فوق كرسيّ ضيّق. السفر في البقاع الاقتصاديّة مصيبة. ما كنت سافرت يوما في غير البقاع الاقتصاديّة. لعن الله الفقر. أنا ولا شكّ مازلت فقيرا. الى يوم الناس هذا لا أقدر على السفر في البقاع الأولى تلك التي جاءت في الأمام وفيها رفاه. سبع ساعات فوق كرسيّ مكلّس للجسم، خانق للأنفس. سبع ساعات من التقلّب، من العذاب. كنت في ضيق، في عسر ولا خيار لي غير الصبر والتحمّل. في القسم الاقتصادي، على طائرة الخطوط الفرنسيّة، كنّا كالدواب متراصّين، متلاصقين حتّى تتمكّن الشركة من تحقيق الجدوى، من الزيادة في الأرباح والأجور. ما كانت تذكرة البقاع الاقتصاديّة بخسة الثمن ولكن سعر البقاع الأخرى كان باهظا، مشطّا أو هكذا كنت أرى. كنت أنظر في الوجوه الجالسة من حولي وقد بدت شاحبة، منهكة، تشكو الارهاق والعسر...

أنا طويل القامة. أعرف ذلك. لي جسم مكتمل ممتلئ لحما لعل فيه بعض زيادة. أعلم ذلك، أيضا. أنا لست بدينا ولكن كراسي القسم الاقتصادي لا يهمّها من كان نحيفا أو به بعض بدانة. طوال السفر، كانت ركبتاي قبالة وجهي وألقى عسرا في مدّ يديّ وتحريك رجليّ. قلت في نفسي «هذه آخر مرّة أسافر الى كندا، في القسم الاقتصاديّ». من حين لآخر أمشي في الممرّات، أتحرّك قليلا. أرفّه عن الجسم حتّى لا ينكمش وان لبضع دقائق. طريقتي في التفريج عن النفس هي زيارة المراحيض. عديد المرّات. حينها أخطو بعض الخطوات فأريح الأعضاء ممّا أصابها من انكماش والنفس ممّا أنهكها من عياء.

في مرّة من المرّات، داخل المرحاض، نظرت فوجدتني أتبوّل دما. لم أصدّق ما رأيت وقلت لعلّه الظلام وفي الظلام يستوي الأصفر والأحمر. عدت مجدّدا الى المرحاض لأتثبّت، لأنظر في البول وان كان أصفر أم أحمر اللون. أتثبّت. هو الدم يجري. لا شكّ ولا ريبة في ما أرى. لماذا أنا أتبوّل الدم؟ ما الذي اصابني حتّى أتبوّل دما أحمر؟ لعلّه الكرسيّ المتعوس وضيقه البائس. لعل ما كنّا أكلنا من طعام وما شربنا من شراب هو السبب. لم افهم شيئا. قلت لزوجتي ما كان لي في المرحاض من بول دمويّ.

• اللوحة الثانيّة
ما هذا البول الأحمر؟ هل هو مؤشّر لمرض دفين أم هو ظاهرة عرضيّة، جاءت نتيجة عذاب السفر؟ لا أدري. أنا لا أفهم في الطبّ شيئا. كنت في بعض حيرة... هذه مشكلة أخرى تنضاف لما في رأسي من مشاكل. كنت أنتظر نهاية الرحلة ومتى الوصول الى الدار. أحسب الدقائق تمضي بطيئة وها أنا الآن أواجه مسألة أخرى محيّرة. في رأسي اضطراب. يسكنني سؤال ملحّ. ما هو مصدر الدم؟ لم أتبوّل يوما من قبل دما. ما من شكّ هو السفر الطويل أو ربّما ما كنت تناولت من شراب... دعك من هذا يا رجل واضحك للدنيا ولا تقنط. قريبا سوف تصل الى تونس وتنتهي من عذاب الطائرة. كن متفائلا وتذكّر من العيش أحلاه. ألم تكن في مونريال حيث قضّيت أكثر من أسبوعين في نعيم ومرح؟ ألم تسرّ بما كنت عشت مع ابنيك وزوجيهما من أيّام حلوة؟ دع عنك كلّ هذا ولسوف ينتهي السفر ولسوف يزول الدم. بضع ساعات وتعود المياه الى مجراها. قد تطرأ مثل هذه الأشياء. ثم هل أنت تشتكي من وجع، من ألم؟ لا. اذا امش يا رأسي وانظر في بحر المحيط وفي الشمس في الأفق تنبعث. انس كلّ هذا الآن...

صحيح، عشت في الكيباك أيّاما بهيّة والتقيت في مدينة مونريال بأخلّة عرفتهم من قبل فعادت بيّ الذكرى يوم كنت أدرس في الكيباك. كانت تلك السنين جميلة رغم ما فيها من عسر وبعد عن الأهل والوطن. أيّامها، تعوّدت العيش وأصبحت محبّا للحياة في الكيباك. أنا أحب العيش في كندا. بل لعلّ شغفي بكندا قد ازداد منذ عرفنا ثورة وما كان مع الثورة من فوضى ومن مصائب. أنا أكره الفوضى ولا أقدر على العيش حيث الهيج والعنف والخروقات. أنا أحبّ العيش المطمئنّ حيث يلقى كلّ مكانه دون مجون أو تجاوز. أنا أودّ العيش شتاء وصيفا في كندا حيث يحيا ولداي وحيث العيش هنيئا، مستقيما. أحيانا، تخامرني فكرة. أن أبيع كلّ ما أملك في تونس وأرحل الى هناك وأحيا ما تبقّى من الأيّام. ما المانع في ذلك؟ أنا لست ممّن يعتقدون أن مسقط الرأس واحد لا يتغيّر وأنّ الحيّ لا بدّ له أن يعود يوما الى موطنه. أنا أومن أن أرض الله جعلت لخلق الله جميعا وأن حيث تلقى حرّيتك ورفاهك فاذهب وعش هناك. الأرض جميعا أرض الناس جميعا وان اختلفوا... ثمّ، تونس تتصحّر. صيفها مفزع وشتاؤها بلا مطر. مثل هذه الأحوال مفسدة للحياة ولسوف تصبح الحياة فيها أمرا عصيّا...

ما هو يا ترى ذاك البول الدمويّ؟ ما سببه وما أصله؟ لا أدري. أنا محتار. ها أنا أعود الى نقطة البداية. فكري منشغل. دعك الآن من هذا وانظر في الدنيا وكيف هي زاهيّة، بهيّة فلا تيأس واذكر نعمة ربّك وتذكّر دائما أنّ الله بعباده رحيم، كريم. تذكّر ما رأيت في مونريال من حدائق غنّاء وخضرة ممتدّة وأنهار وبحيرات ووديان تجري. تذكّر كيف سوّيت الأرض والسماء وكيف جاءت كلّها جمال وبهاء. خلال الزيارة، كان الطقس لطيفا، رحيما. كانت الشمس مشرقة يوما وكان المطر النافع في الغد يسقي الشجر والزرع والحقول. تذكّر تلك الغابة البهيّة حيث مشيت وكلّ أفراد العائلة، في جبل عليّ تحت أشجار عاتيّة. كانت السواقي تجري من كلّ فجّ وهذه بحيرات وشلالات من حولك جميلة.

• اللوحة الثالثة
ها أنا وزوجتي في قاعة الانتظار. من حولنا مرضى. أنا آخر من سوف يرى الطبيب. يجب أن أنتظر كلّ هؤلاء. أنظر في وجوه المرضى فألقاها تعبة، شاحبة، تتوجّع. أنا أيضا تعب. كنت في ريبة، في ارتباك. سوف ألتقي مع الطبيب حتّى أعلم ما جاءت به التحاليل من نبإ. ليس من اليسير أن تعلم ما يحمله البول الدموي. منذ أسبوع وأنا بين طبيب وطبيب، بين تحليل وتصوير. الكلّ منكبّ، ينظر في سبب البول الدمويّ. كم تطوّر الطبّ وكم هو اليوم متشعّب، متفرّع. كثرت الاختصاصات وتعدّدت زوايا الفحص والمناهج. أصبح الطبّ صناعة ثقيلة. وبقدر تطوّر الطبّ وأدواته تطوّر المرض واتسعت رقعته ومشى في كلّ صوب ومنحى. أنا لا أعرف هذا العالم المتطوّر. ما كان لي عهد بالطبّ، بأهله، بأدواته. عشت دوما في صحّة وعافيّة. أحيانا، أزور الطبيب من أجل مراقبة داء السكّري وقد سكنني منذ زمن. انتهى ذاك الزمن البهيّ. في ليلة وعشيّة، ها أنا في دوّامة مفزعة. منذ أسبوع وأنا أدور بين مختلف الاختصاصات. في كلّ يوم، لي أمر جديد. في كلّ يوم، أعرض على الفحص، آتي تحاليل اضافيّة، ألتقي بطبيب، أصوّر ما في الأحشاء. ما كنت أحسب أن ذلك البول سوف يكلّفني كلّ هذا العناء.

ما كنت قلقا بما سوف يعلمني به الطبيب. أنا لا أشتكي شيئا. انا آكل وأنام وأمشي في الأرض مرحا، منذ أوّل الزمن. لم الخوف؟ هل أشتكي وجعا؟ كلّ شيء فيّ عاديّ. لكن من عادة الأطبّاء أن ينظروا في كلّ الزوايا. أمّا اذا انفرد الأطبّاء بواحد فتراهم يدوّرونه على كلّ الاختصاصات، يبحثون في كلّ الأعضاء، يفتّشون في كلّ الزوايا...

ضاق بيّ الكرسيّ الذي فوقه أجلس. طال الانتظار. ها أنا أمشي وأجيء في البهو. ماذا سوف يقول لي الطبيب؟ عرفت الطبيب هذا وكانت لي معه منذ يومين أو ثلاثة عمليّة جراحيّة للاستطلاع. قال الطبيب يجب التثبّت في ما جاء في الورم. هو الآخر لا يدري ان كان الورم خبيثا أم عاديّا. يقول الطبيب ان رآه سوف يعلم خبره. لم التحليل اذا والنظر يكفي لمعرفة ما في الورم من ماهيّة؟ هل يخفي الطبيب سرّا أم هو يريد التأكّد قبل التكلّم؟ حسب الطبيب، ذاك الدم أفرزه ورم في الأحشاء، في كيس البول. قبل تحديد العلاج يجب التثبّت في خصوصيّة الورم... لحظات عصيبة، مريرة. بعد قليل سوف يخبرني الطبيب عنّ سرّ الورم. لحظات وأعلم ما سوف يكون وان سوف أبقى على قيد الحياة أو أدخل نفق الأدويّة والهبوط من السماء.

كم هو قاتل مرض السرطان. تذكّرت من صحبي من مات بالورم الخبيث. تذكّرت مختار وما كان عاناه لعدّة سنوات. تذكّرت عبد الرحمان وما كان له من عذاب. تذكّرت المهدي وكيف خطفه المرض بين عشيّة وضحاها. تذكّرت برنيّة وكيف هي الأخرى رغم حبّها للحياة، في بضعة أشهر، غادرت الحياة. تذكّرت أمّي ورايتها في السماء تنحب حظّي المنكود. تذكّرت العديد من صحبي. كلّ يظهر، أراه بسرعة ثم يختفي وراء السحب. هل بدأ العدّ التنازلي؟ هل عليّ أن أستعدّ لأغادر؟ أرى الدنيا بساطا يسحب من تحت قدميّ. أرى النور يتلاشى، يغرب في السماء. أرى أنفاسي تتقطّع. تغيّر الحسّ فيّ. أنا لا أرى، لا أسمع، لآ اتبيّن. في شبه غيب. في شبه موت، شدّني صداع تامّ. أنا الآن شخص آخر. أرى الدنيا مختلفة. انظر في زوجتي فأراها هي الأخرى مختلفة. أنظر في البشر حولي فأراهم أشباحا. أنا في وحدة مفزعة. أنا في حالة اضطراب قصوى. كلّ شيء من حولي امّحت ملامحه. كلّ شيء من حولي تافه، لا كنه فيه ولا غاية. في الليل، لا أغمض عيني. على الطاولة، لا آكل شيئا. دوما، في زاويّة. يشدّني صداع دائم... انّ الحياة لعبث، لمجون. لعبة سخيفة. سراب. فكيف المسك بالسراب؟ ما أقول هو كلام فارغ. أنا دوما أحبّ الحياة وأعشق ما في الحياة من عبث، من سخافة...

• اللوحة الرابعة
لا يتكلّم الأطبّاء كما يتكلّم البشر. لغة الأطبّاء غير لغة الناس. أمّا وجوههم فهي دوما كالحة، لا ترى في ملامح الأطبّاء ما تراه في الوجوه من فرح ومن ترح. يعلو وجوه الأطبّاء لوح من خشب. تنظر اليهم مليّا. تلتقط ما يأتون من كلمات. تتثبّت في سرائرهم ولكنك لن تفهم ما يقوله الأطبّاء من كلمات ولن تتبيّن ما تحمل وجوههم من علامة. بعد كلّ لقاء مع الطبيب أبقى وزوجتي نعيد الجمل وننظر في المفردات واحدة واحدة، نسعى الى فحص ما أتاه الطبيب من حركة ومن مفردة... أحيانا كثيرة، لا نفهم المعنى وأبقى وزوجتي في اختلاف حول ما كان مع الطبيب من كلم.

أخيرا، دخلت وزوجتي مكتب الطبيب فوجدناه جالسا وأمامه أوراق وملفّات. «أهلا دكتور. هل جاءت النتائج؟» قال الطبيب «تفضّلا، اجلسا لنرى ما جاء في التحليل من نتائج». أمام الطبيب ورقة صفراء وحيدة. في الورقة نبأ مهمّ. نبأ جلل. انطلق الطبيب يعيد على مسامعنا ما كنّا أتينا من جراحة ومن صور. ها هو يصف الورم اللاصق في كيس البول. هو ورم بنحو ثلاث سنتمترات، لاصق في الأسفل على الجانب الأيسر. يقول الطبيب «في ما كنت عاينت يوم العمليّة لمّا نزعته وكيف كان لونه وأين ارتمت عروقه وأليافه، أدركت كنهه وتبيّنت ماهيته ... على كلّ، ها هي التحاليل بين أيدينا ومع التحاليل تتّضح الرؤية. ان شئتم أقرأ لكم ما جاء في التحليل من خبر. يقول التقرير: هناك مادّة وفيرة متكوّنة من عديد الألياف القماشيّة. كلّ الألياف هي سرطانيّة وقد انغمست الألياف السرطانيّة بل وأصبح لها عروق ضاربة في العضلات...» سكت الطبيب لحظة. لم افهم الكلام ولا ما جاءت به التحاليل من معلومة. في الحين، كالعادة، نظرت لزوجتي حتّى أرى ما يحمل وجهها من معنى. تغيّر وجه زوجتي. في وجه زوجتي لوعة وحرقة. أدركت عندها أن خطرا جللا يحدّق. أدركت أن ما قاله الطبيب فيه خطب عظيم. تصبّب العرق. أزيز قويّ ينفخ في أذنيّ. ارتعدت مفاصلي. انسدّ سمعي. أصبحت لا أرى، لا أسمع. كنت في ذهول، في صمت، مصدوما وهذه زوجتي في ارتباك جليّ تسأل عن سبل العلاج وما كان علينا أن نأتي. تسأل زوجتي الطبيب ان سوف نضع كيسا معوّضا خارج الجسم أم داخله وان كان هناك تبعات وكيمياء. لا أفهم ما تقول زوجتي. تركتها تقول ما تشاء. أنا في غيب مطلق. أنا لا أفهم شيئا. ما هذه الحكاية؟ ما الذي يجري؟ هل هذا حلم مزعج؟ هل حقّا أنا الآن أمام الطبيب ومع زوجتي ننظر في ما أتت به التحاليل من نبا؟ هل أنا حيّ يرزق؟...

كان الطبيب يتكلّم ببطء، يشرح، يقول كلاما لا أفقهه. كنت أسمع ولا أتبيّن. يقول الطبيب وهذا أدركته «أنت محظوظ نسبيّا. لو أتيت من قبل لنزعنا الورم بيسر أمّا وقد أتيت بعد أن تمكّن منك الورم فمن الضروريّ اجراء عمليّة جراحيّة أخرى ننزع فيها الورم وكيس البول وننتهي مع الخطر القائم. يجب أن تسرع وتنتهي من الكيس المصاب وتضع محلّه آخر يؤدّي نفس المهمّة. هي عمليّة ثقيلة ولكنّها جليّة ممكنة والمختصّون على دراية منها وبتقنياتها...» أضاف الطبيب «قبل العمليّة، يجب أن نتأكّد ان باقي الجسم سليم وأن الورم لم يصب أعضاء أخرى. يجب أن تجري فحص سكانار حتّى نرى كلّ هذا».

• اللوحة الخامسة
أنا عقلاني منذ أول الزمن. أعتقد راسخا أن لكلّ شيء سببا وأن هناك صلات بيّنة بين الأسباب والمسبّبات. لا أومن بالخرافة ولا بالخوارق ولا بالمعجزات. جاءت الخوارق والغيبيّات لتملأ فراغا، لمّا كان الانسان عقله في البدايات. في نظري، ما كانت الدنيا فوضى تمشي كما شاءت الأيّام ولا هي اعتباطيّة تسير في كلّ اتّجاه ولا هي صدف أو أقدار تأتي بلا سبب. أنا أومن بوجود الله ولكن بعد خلقه الأرض والسماء وبعث الحياة، تنحّت يد السماء وما يحصل بين الناس هو من تبعات ما كان بينهم من تجاذب، من تعاضد. حراك المجتمع هو المفسّر لما يحصل. كنت أرفض الغيب رفضا تامّا. كنت أومن ايمانا كاملا أن بما أوتي الانسان من عقل هو قادر على تحديد الفعل وعلى التحكّم في تبعاته...

أين عقلي ليشرح لي ما أنا أحياه من لوعة، من عذاب؟ أين عقلي ليقول لي ماهيّة الأسباب وكيف هي التبعات؟ أنا في ضبابيّة مطلقة. أنا في اضطراب دائم. سكنني السؤال ولا ألقى للسؤال جوابا. لماذا ضربني السرطان؟ ماذا أتيت؟ ماذا فعلت حتّى يشدّني هذا المرض العضال؟ لم السماء تريد أن تميتني؟ الموت قضاء وقدر ولكن للموت أسبابا وعلاّت. لا اعتباطيّة في الأرض... لماذا يريد السرطان حتفي؟ كم بقي لي في العمر من زمن؟ ماذا أتيت ليسكنني الورم؟ أنا أحبّ الحياة رغم ما في الحياة من سخافات، من تفاهة. سألت الطبيب عن سبب السرطان فقال «أسباب كثيرة ولكن لا يعلمها الأطبّاء تحديدا «. أنا لا أدخّن، لا أشرب خمرا، لا أفسق في الأرض، في عيشيّ دوما اعتدال. فمن أين جاء السرطان؟

لا أحد في الأرض قادر على شرح ما أنا فيه من عذاب. لا أحد في الأرض قادر على ادراك ما أنا فيه من لوعة، من حيرة، من احباط. كلّ الناس من حولي ينظرون اليّ في عطف ثم يعودون الى الحياة. كلّ في شأنه، يمشي الى عاداته. البنيّة دوما في المطبخ، تطبخ. زوجتي بين الدار والسوق تشتري. أخوتي وصحبي كلّ في داره، في شأنه يسعى، يجتهد ولا يلتفت... لا وجود في الأرض لبشر يحمل معك الأعباء. لا أحد الى جانبك تلقى لمّا تصاب بالسرطان. في السراء وفي الضراء، كلّ يحمل أوزاره، كلّ يحياه منفردا... في بيتي، كنت في غربة مطلقة. في الليل، في النهار، لا أعرف نوما ولا راحة بال. انزويت لوحدي. أنظر فلا أرى غير الورم الخبيث منذرا، ماسكا. لجأت الى الصمت. لا ينفع الكلام. لجأت الى أعماق نفسي، أنظر في ما تبقّى من الأيّام. كذلك نولد فرادى ونموت فرادى. كذلك، لن تتقاسم الهمّ الذي تحمل مع أيّ كان. يولد الانسان وحيدا ويموت وحيدا...

أنا الوهن. أنا الضعف. أنا عقل معطّب. لا شيء في الدنيا ألقاه مستقيما. لا ألقى في الأرض لي مناصرا، معاضدا. يحمل معي ثقل الوزر. لا أحد في الدنيا يمدّ لك يد العون، ينتشلك ممّا أنت فيه من عسر عسير. لا أحد من الخلق حريص، يساعدني على تجاوز اللوعة. من حولي، كلّ في مكانه يسعى، يجري كما كان يجري منذ أوّل الزمن. كلّ لحياته يتدبّر. لم يتوقّف العالم. امّا الأخلّة والأهل والبنون والزوجة ورغم ما قد يحملون من عطف ومناصرة، تراهم في شؤونهم، يواجهون مشاغل الحياة. أنا اليوم وحيد. لا أرى في الأرض بشرا. لا أحد في الأرض يحمل معي ما أحمل من مرض، من توجّع. اقفرّت عندي الأرض. لم يبق لجانبي غير الواحد القهّار. هو من بعثني في الأرض حيّا. هو وحده الناظر اليّ بعين الرحمة. هو وحده المدرك ما أنا فيه من عسر ويأس. هو وحده القادر على شدّ ازري، على التفريج عن كربي.

ها أنا ألتجى الى السماء. أرتّل الآيات في الليل وفي النهار. ها أنا أستغفر الله كثيرا، في الصباح، في الظهيرة ومع طلوع الفجر. ها أنا أتذكّر ما كان لي من آيات حفظتها صغيرا لطلب العون من السماء. ها أنا أعيد مرارا تلك الآية الكريمة التي حفّظني ايّاها أخي الأكبر لمّا كنت صبيّا: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليكم ما عندتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فان تولّوا فقل حسبي الله لا اله الا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم». عند كلّ امتحان، عند كل عسر، عند كلّ شدّة، كنت أعيد مئات المرّات هذه الآيات، مؤمنا أن في اعادتها نصرة من الله العزيز... انتهى النوم. مئات المرّات، آلاف المرّات أعيد «يا ربّي عفوك وسترك ورضاك». أنا لا أصلّي ولكن يرشح قلبي ايمانا وغفرانا. فتحت المصحف. أقرأ سورة الحديد وسورة الجمعة وغيرهما من السور والآيات. في كلّ سورة ألقى بيانا. في كلّ آية ألقى وجه ربّ العزّة ذا الجلال... أنا أتغيّر. ما كان الدين أفيونا. الدين عندي مناصر. يشدّ يدي. أنا في وهن، في تفرّد وفي القرآن ألقى طمأنينة... لمّا يعجز العقل على الفهم تمشي الى غير العقل لتلقى جوابا وسكينة. للعقل حدود أدركتها اليوم. في الإنسان عجز أصليّ وحتّى يطمئنّ قلبه يلزمه ايمان بالغيب والتحام بالوجود.

يتبع

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115