قراءة في آيات المواريث وفي دلالاتها (الجزء الثاني) في الوصية ومعانيها

1ـ في الوصيّة:
استنتجنا في مقالنا السابق سيّدي المفتي الأستاذ أنّ الأصل في المواريث في القرى هو الوصيّة. بعد أن أكّد عليها في أوّل كلّ فرضية حكمية، واستنتجنا أنّ ما اعتبر فرائض فيما بعد ليس سوى حالة يمكن أن تفرض نفسها إذا ترك الموصي شيئا من ماله. واستفدنا أيضا

أنّ القرآن لم يحدّد مقدارا معيّنا في الوصية، وإنّما ترك للمرأة والرجل بالتساوي الحرية والحقّ في التصّرف فيما يمتلكان من مال. وعلى هذا الأساس لا حرج إن أوصى/ اوصت بجميع ما يملك الموصي لشخص: امرأة كانت أو رجلا، ابنة كانت او ابنا، قريبا كان أو قريبة.... فيكون القرآن قد يسّر من حيث سيسعى بعده من نصّبوا أنفسهم أولياء على القرآن إلى محاربة الوصية وإقصائها عن الممارسة الاجتماعية.

يعرّف ابن العربي الوصيّة فيقول: «هي القول المبين لما يستأنف عمله والقيام به، وهي ها هنا مخصوصة بما بعد الموت، وكذلك في الإطلاق والعرف»، واعتبرها المفسّرون والفقهاء بابا من أبواب التّشريع في المواريث رغم الاختلاف الّذي ساد مقالاتهم في اعتبار أحكامها إن كانت واجبة أو منسوخة. ولعلّ أسباب الاختلاف ترجع إلى السّياقات المعنويّة الّتي ورد فيها لفظ الوصيّة في النّص القرآني، ممّا دفع بالمفسّرين إلى تمييز السياق التشريعيّ عن بقيّة السّياقات التي نزلت لتوضيح أحكام الوصايا وشروطها.

وانطلقوا في بيان العلاقة الفقهيّة بين هذه الآيات من اعتبار قوله « كُتِب عليكُم إذا حَضَرَ أحَدَكم الموتُ إنْ ترَكَ خيْرًا الوصيّةُ للوالِدَيْن الأقْرَبِينَ بالمعروفِ حقّاً على المتَّقينَ (البقرة2 /180) نواةً قامت عليها أحكام المواريث في الوصيّة، وحاوروها بمعان شتّى تفصّل ما ورد مجملا؛ فذهب الشّافعي وأكثر المالكيين وجماعة من أهل العلم إلى أنّها أوّل ما نزل في الميراث، وقال الطّبري رواية عن السّدي: « يوم نزلت هذه الآية كان النّاس ليس لهم ميراث معلوم، إنّما يوصي الرّجل لوالده ولأهله فيقسم بينهم حتّى نسختها «النّساء» فقال « يوصِيكُم الّلهُ في أولادِكم « (النساء4/11)». لكن غابت من المصنّفات الإشارة إلى تاريخ نزول الآية حتى وإن كانت قولا قائما على الظنّ، وفي هذا السياق التشريعيّ العامّ أجبر المفسّرون على استحضار جميع الآيات التي تشير إلى الوصيّة من قريب أو من بعيد:

فألحقوا قوله «والّذين يُتَوفَّوْن منكُم ويَذَرونَ أزواجًا وصيّةً لأزواجِهِم متاعًا إلى الحَولِ غيْرَ إِخْراجٍ» (البقرة 2 /240) بالأحكام الخاصّة بالنّفقة على المعتدّة عدّة وفاة، ذهب إلى هذا الرأي جماعة من الصّحابة والتابعين، وعنهم اعتمد الطبري في الاستشهادبتاريخ بداية العمل بها : «كان من قبل أن تنزل آية الميراث، فكانت المرأة إذا توفيّ عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولا إن شاءت، فنسخ ذلك في «سورة النّساء» فجعل لها فريضة معلومة».

وسّعوا في تفسيرها من حقل الاستنجاد بالآيات التي في المائدة 5/106ـ108 ، وهي الآيات التالية: «ياأيّها الّذين آمنُوا شهادَةُ بَيْنِكُمْ إذا حضَر أحدُكُم الموتُ حينَ الوصيّةِ اثنانِ ذَوَا عَدْلٍ منكم أو آخرَانِ من غيرِكُم إن أَنْتُم ضرَبْتُم في الأرْضِ فأصابَتكُم مصيبةُ الموتِ تحبِسونَهما بعد الصّلاةِ فيُقسِمان بالّلهِ إن ارتَبْتُم لا نَشتَري به ثمنًا ولو كان ذَا قُربَى ولا نَكْتُمُ شهادةَ الّله إنّا إذنْ لَمِنَ الآثمينَ (106) فإن عُثِر على أنّهما استحقَّا إثمًا فآخرانِ يقومان مقامَهُما من الّذينَ استحقّ عليهِمُ الأوْلَيانِ فيُقسمان بالّله لشهادَتُنا أحقُّ من شهادَتِهما وما اعتَدَيْنا إنّا إذاً لمن الظالمينَ (107) ذلك أدنَى أن يأتُوا بالشّهادةِ على وجْهِها أوْ يخافوا أن تُردّ أيمانٌ بعد أيمانِهم.. (108). غير أنّهم رووا لنزول هذه الآيات روايات مختلفة وكلّ واحدة منها تتصل بظرف تاريخيّ مختلف.

قدّم ابن العربي عرضا شاملا لأشهر المواقف في تأويل هذه الآيات، فقال: « وفيه روايات مختلفة من طرق كثيرة لو سردناها بطرقها، وسطّرناها بنصوصها، وكشفنا عن أحوال رواتها بالتجريح والتعديل لاتّسع الشرح، وطال على القارئ البرح، فلذا نذكر لكم من ذلك أيسره وورد في الكتاب الكبير أكثره، فنقول: روى الترمذيّ عن محمّد بن إسحاق، عن ابي النّضر، عن باذان مولى أمّ هانئ، عن ابن عبّاس، عن تميم الدّاري في هذه الآية (..) برئ منها الناس غيري وغير عديّ بن بداء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشّام قبل الإسلام، فأتيا الشّام لتجارتهما، وقدم عليهم مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة ومعه جام فضّة يريد به الملك، وهو عظم تجارته، فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلّغا ما ترك أهله.

قال تميم: فلمّا مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم، ثمّ اقتسمناه أنا وعديّ بن بدّاء، فلمّا قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام، فسألونا عنه ، فقلنا: ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره.

قال تميم: فلمّا أسلمت بعد قدومي النبيّ(ص) المدينة تأثّمت من ذلك، فأتيت أهله، فأخبرتهم الخبر، وأديت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أنّ عند صاحبي مثلها، فأتوا به رسول الّله (ص)، فسألهم البيّنة، فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يقطع به على أهل دينه، فحلف فأنزل اللّه عزّ وجلّ: (الآية)».

تفيدنا هذه المواقف أنّها أجمعت على أنّ تاريخ نزول آية الوصيّة كان بعد إسلام تميم أي بعد السنة التاسعة للهجرة، أي أنّ التفصيل في أحكام الوصيّة قد تمّ في أواخر العهد النّبويّ. وإذا استقام هذا لايمكن بأيّ حال الإقرار بما ذهب إليه أغلب المفسّرين من أنّ الوصيّة كانت عملا أمر به التنزيل في بداية الوحي ثمّ رفع بالمواريث. وبما أنّ هذا الموقف يدحض مقالتهم ويسقطها في الماء عمل بعض العلماء على الطعن في الرّواية ، ونتبيّن ذلك مثلا فيما رواه ابن العربي من أنّ البخاري خرّج هذه الرواية من أصناف الأحاديث الحسنة الغريبة. ورغم ذلك ظلّت هذه الآيات سندا نصيّا يجمع بين المذاهب رغم اختلافها في اعتبار حكمها واجبا أم مرفوعا ، فأفادت كلَّ مذهب بالدّليل النصّي، وعليها ركّز العلماء في بيان وظيفتها التّشريعيّة، لكن كانوا دوما حريصين على إقصاء التعامل مع الفاصلة التي تكرّرت في الآيات التي في النّساء4/11 ـ12، وهي «من بعد وصيّة يوصي بها أو دين» وإخراجها من السياق القرآني حتى كأنّها ليست من تركيبة هذين الآيتين ، ولم ينبّه إلى وظيفة هذه الفاصلة سوى الرّازي في سياق التّعليل بأنّها منسوخة ، فيقول «وأمّا الجمهور القائلون بأنّ هذه الآية صارت منسوخة في حقّ القريب الّذي لا يكون وارثا فأجود ما لهم التّمسّك بقوله تعالى» من بعد وصيّة يوصي بها أو دين».

فما هو حكم الوصيّة في نظر العلماء؟
لا شكّ أنّ مواقف العلماء لا تتضح إلاّ إذا اقتفيناها عبر العصور ورصدنا الفترات الّتي حصل فيها اختلاف فيمكننا بذلك معرفة مدى التكامل بين الرّؤية الفقهيّة والرّؤية التفسيريّة.
ولبلوغ هذه الغاية آثرنا الفصل بين مقالة الفقه ومقالة التفسير ، بالرّغم من أنّ مشغل الفقه هو المجال التّطبيقيّ الّذي به نستطيع تقدير مدى ملاءمة النّظريّة للواقع، وهو أيضا المجال الأسبق في التاريخ، لأنّ الفقيه مطالب بأن يسعف بالحلول لمختلف القضايا. وإن اخترنا تقديم مقالة المفسّر فلأنّها متحرّرة من قيود النّازلة وتعتبر أنّ النّصّ المنزّل يحتوي الإجابة عن جميع النّوازل، وما وظيفة العالم سوى الاهتداء إلى مراتب الخطاب القرآنيّ لإظهار الخفيّ من المعاني التشريعيّة المناسبة للنّازلة.

والسّؤال هو هل تمكّن المفسّرون من الاهتداء موقف واحد في حكم الوصيّة؟
مزيّة الطبري تقوم في جمعه لمواقف من سبقه ومن عاصره وحصرها في ثلاثة أوّلها:

1 ـ موقف الضحّاك ومسروق والشعبيّ و جميعهم قالوا «هي محكمة غير منسوخة. وإذا كان في نسخ ذلك تنازع بين أهل العلم، لم يكن لنا القضاء عليه بأنّه منسوخ إلاّ بحجّة يجب التّسليم لها».

2 ـ وثانيها عن قتادة وعكرمة وابن أبي طلحة والرّبيع «بل هي آية قد كان الحكم بها واجبا وعُمل به برهة، ثمّ نسخ الّله منها بآية المواريث الوصيّة لوالدي الموصي وأقربائه الّذين يرثونه، وأقرّ فرض الوصيّة لمن كان منهم لا يرث».

3 ـ و ثالث هذه المواقف قالهابن زيد وابن عبّاس وابن عمر وقتادة في قوله الآخر.» بل نسخ الّله ذلك كلّه وفرض الفرائض والمواريث، فلا وصيّة تجب لأحد على أحد قريب ولا بعيد».
ومن هذه المواقف يتبيّن أنّ البحث في تاريخ «الوصيّة» إنّما كان حاجة ألحّت على التّابعين ، بينما توقفنا مصنّفات التفسير على أنّ الصّحابة ظلّوا على العمل بها، فقد أوصى أبو بكر وعمر. وأُثِرَ عن عليّ أنّه كان يجيزها ، ويروي الطّبري عن ابراهيم النّخعي أنّه لمّا ذُكر له أنّ زيدا وطلحة كانا يشدّدان في الوصيّة قال: « ما كان عليهما أن يفعلا، مات النّبيّ(ص)ولم يوص، وأوصى أبو بكر: أيّ ذلك فعلت فحسن».

ويتخيّر جمهور الفقهاء التأويل الثاني لأنّه يوفّق بين جميع الأقوال، لكن تتفرّع مقالاتهم عبر العصور ولا سيما بعد الطبري ليتواصل الجدل في قضية نسخها، وهو في نظرنا دليل على عدم استقرار المقالة على رأي واحد يجمع إليه مختلف المذاهب.
حاول ابن العربي أن يختصرها في نصّ نعتبره شاهدا على أنّ التأريخ للحكم إنّما يتغيّر بسيرورة التاريخ، وهو أيضا شاهد على كيفيّة تعامل الفقيه مع مثل هذه القضايا، فيقول:

« قال علماؤنا وابن القاسم عن مالك : هذه الآية نزلت قبل الفرائض ثمّ أنزل الّله الفرائض في المواريث فنسخت الوصيّة للوالدين ولكلّ وارث إلاّ أن تأذن الورثة في شيء فيجوز».
اتّفق الكلّ على أنّها منسوخة واختلفوا في ناسخها على أربعة أقوال:

- الأوّل: أنّ ناسخها آية المواريث.

- الثاني: أنّ ناسخها قوله تعالى: « وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا « ( النّساء4/8).

- الثالث: أنّه نسخها أنّ الّله أعطى كلّ ذي حقّ حقّه لا وصيّة لوارث.

- الرّابع: أنّه نسخها بإجماع الأمّة على إبطالها وأنّ الوصيّة لاتجوز لأحد ممّن سمّى الّله له فرضا معروفا أو جعل له النّبيّ (ص) حقّا مفروضا « .

فيتبيّن المنحى الجديد الّذي سلكه العلماء بعد القرن الرّابع للهجرة، ومّما لا شكّ فيه أنّ أسبابا وراء كثرة القائلين بنسخها، وأهمّها المأزق الّذي نتج عن تعارض أحكام الوصيّة مع المواريث. ثمّ إنّ ابن العربي يجمل ما استقرّ عليه القول في عصره، معتمدا منهجا استدلاليّا يجلّي الحجّة التي بنى عليها الأصوليون شرعيّة الحدّ من وظيفة الوصيّة، وهو منهج قام على سلطة النّقل في رواية حديث عن الرّسول « لاوصيّة لوارث «.

صار لهذا الحديث دور في توجيه فهم المفسّرين والفقهاء في مسألة الوصية، وكان بمثابة حبل النجاة حتى يتّقوا به لهيب مواجهة المعنى الصارخ في الآيتين 4: 11 ، 12. بل ذهب بهم الأمر أن تخلّوا عن مقاربة هذين الآيتين بالآيات التي تضمنت لفظ الوصيّة. وأمكنهم ذلك أن يصدّروا الفرائض، واعتبارها قاعدة عامّة يقوم عليها مشغل المواريث.

فإن كان لهذا الحديث المرويّ عن الرسول دور محوريّ في مقالات المواريث فإنّ البحث الرصين يفرض علينا أن نقلّب بدورنا حجّية هذا الحديث والبحث عن تاريخيّة التّعامل معه عسى أن تتبيّن المسافة التاريخيّة بين النّصّ المنزّل والنّص التأويليّ:
في حجّية الحديث «لا وصيّة لوارث »؟
صحيح أنّ هذا الحديث كان أصلا في اعتبار نسخ آية الوصيّة لكن، كان أيضا أصلا دار عليه الاختلاف بين المفسّرين.

• والسؤال متى ظهر هذا الحديث في المصنّفات؟
فإذا اعتمدنا التسلسل التاريخيّ يتبين لنا ما يلي:

1 ـ لم يرد في الموطّإ ذكر لهذا الحديث بل على العكس شمل « باب الوصيّة « أحاديث في الحثّ عليها وتفصيل أحكامها، ولا نجد إلاّ إشارة عابرة إلى معنى هذا الحديث في رواية يحيى عن مالك قال: «وسمعت مالكا يقول: إنّ السنّة الثابتة عندنا الّتي لا اختلاف فيها أنّه لا تجوز وصيّة لوارث إلاّ أن يجيز ذلك ورثة الميّت. وأنّه إن أجاز له بعضهم، وأبى بعض، جاز له حقّ ما أجاز منهم. ومن أبى أخذ حقّه من ذلك «.وفي هذه المسألة نتساءل: هل عني مالك بالسنّة الثابتة عملَ الرّسول أم العادة التي ترك عليها الرّسول المسلمين ؟

2ـ بحثنا عن هذا الحديث في صحيح مسلم فلم نجده؛ بالرّغم من أنّ الرجل خصّ الوصيّة بباب جمع فيه الأحاديث « الصّحيحة « في نظره، وتؤكّد جميعها أنّها تشريع ثابت.

3 ـ إن صحّ افتراضنا أنّ «الأمّ « و» الرّسالة» للشّافعي ومسند أحمد هي جميعها مصنّفات قد دوّنت في أواخر القرن الثّالث للهجرة فإنّنا نعتبر أنّ بوادر هذا الحديث نشأت في أواخر القرن3هـ/9م. وسبب ما ذهبنا إليه يرجع إلى أنّ آثارالشّافعي جمعها من بعده تلميذه

الرّبيع المرادي إملاء، وصنّف روايات أحمد بن حنبل ابنه عبد الّله من بعده. ولا يفوتنا التذكيربأنّ الرّواية كائن حيّ يظلّ وهو ساكن في الذّاكرة يتغذّى بمشاغل المجتمعات، فينمو بحسب ما يغذوه، ولذلك لا نجد إجماعا على صحّة هذا الحديث:
• فقد رواه الشّافعي مختصرا، وسايره جمهور العلماء.

• بينما يرويه عبد الّله بن أحمد بن حنبل مكتمل الشّروط والحيثيات، حتى كأنّه حديث ولد مكتملا وكهلا، لكن علّته الوحيدة هي أنّه برواية الواحد، رواه عمرو بن خارجة والغريب أنّه لم يُحفظ عنه غيرهذه الرواية، فيقول:» حدّثنا عبد الّله حدثني أبي حدثنا عفّان قال: حدثنا أبو عوانة قال: حدثنا قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرّحمن بن غنم عن عمرو بن خارجة قال:

« كنت آخذا بزمام ناقة رسول الّله (ص) وهي تقصع بجرّتها ولعابها يسيل بين كتفيّ ، / فقال: إنّ الّله عزّ وجلّ أعطى لكلّ ذي حقّ حقّه، وليس لوارث وصيّة، الولد للفراش وللعاهر الحجر، ومن ادّعى إلى غير أبيه وانتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الّله والملائكة والنّاس أجمعين». قال عفّان: وزاد فيه همّام بهذا الإسناد ولم يذكر عبد الرّحمن بن غنم، وإنّي لتحت جرّان راحلته، وزاد فيه: لا يُقبل منه عدل ولا صرف، وفي حديث همّام: أنّ رسول الّله(ص) خطب وقال: رغبة عنهم».

تقتضي منّا هذه الرواية أن نقف عندها بالتقليب والتمحيص، وأن نجرّح راويها: فيفيدنا العسقلاني في تعريف عمرو بن خارجة بموقف العسكري من شهر بن حوشب، يقول « لا يصحّ سماع شهر منه في حديث آخر عند الطّبراني».

تجلّي هذه المواقف أنّ علماء الحديث اضطربوا في مدى صحّة هذه الرّواية، وقد يكون هذا سببا لأن يسكت الطّبري عن ذكره، وإن كان قد استحضر معناه في بيان الموقف الثّالث، فهل غيبه لأنّه يجهله؟ أو لكثرة الجدل حول صحّته فآثر الاستناد إلى العلاقة التاريخيّة بين الآيات معتمدا قول المفسّرين بأنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا؟ واكتفى بالقول إنّ آية المواريث نسخت الوصيّة للوالدين.

و نشير إلى أنّ الجدل بين العلماء في صحّة الحديث قد بلغ ذروته في عصر ابن العربي، وعادوا إلى تقليبه والبحث عن السّند الأصليّ الّذي بني عليه الحكم بأنّ الآية في الوصيّة منسوخة بالحديث . فيقول ابن العربي:» وأمّا من قال إنّه نسخها «لاوصيّة لوارث « فنقول بذلك لو كان خبرا صحيحا متواترا حتّى يماثل النّاسخ المنسوخ في العلم والعمل كما شرطناه بيد أنّه ليس له في الصّحة أصل، وأمّا من قال نسخها إجماع الأمّة، فقد اتّفق علماؤنا على أنّ الإجماع لا ينسخ لأنّه ينعقد بموت النّبيّ (ص)، وتجديد شرع بعده لا

يتصوّر. وهذا الظّاهر على الجملة، بيد أنّ فيه تفصيلا بديعا: وذلك أنّ الإجماع ينعقد على أَثَرٍ ونَظَرٍ، فإن كان الإجماع ينعقد على نظر لم يجز أن ينسخ وإن انعقد على أثر جاز أن يكون ناسخا، ويكون النّاسخ الخبر الّذي انبنى عليه الإجماع، وهذه مسألتنا بعينها، فإنّ الأمّة إنّما جمعت رأيها على إسقاط الوصيّة للوالدين لقول رسول الّله (ص) لكنّه درس وبقي الإجماع الممهّد المقطوع بصحّته. أمّا أنّه قد بقي ما يدلّ عليه في الحديث الصّحيح وهو قول النّبيّ (ص) « ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت القسمة فهو لأولى عصبة ذكر».

يبدي هذا الموقف حيرة العالم عندما يواجه التباين بين الأصول النظريّة التي أقرّها السلف شروطا في فهم النّص القرآنيّ وعلوما وسائلَ لترجمة معانيه ، وحقيقة ما يحصل عندما يواجه اللاّحق صعوبة الالتزام بظاهرالنّص أو الاكتفاء بتلك الآليات الأصوليّة القائمة حجابا بينه وبين نصّه . فالنّص بذلك تحليل أصوليّ أدرك انعدام التّناسق بين الحكم المنزّل وطبيعة النّص التشريعيّ الّذي نسخه، فكان محاولة في استبدال المرجعيّة التي أقرّها السّلف بأخرى تستمدّ شرعيتها من الحديث لكن على الشّروط التي أقرّها العلماء. لأجل ذلك واجه الّلاحق مرجعيات نصّية تبدو في الظّاهر متنوّعة غير أنّ محاورتها متعذّرة، والجمع بينها عزيز لأنّ كلّ مرجعيّة منها نشأت نتيجة ظرف نسبيّ. وإن اشتهرالحديث « لا وصيّة لوارث « فللحدّ من تزايد الحلول المتكاثرة الّتي أوجدها المجتمع حتّى يوسّع من ضيق الأحكام.

ولا يفوتنا التنبيه، استنادا إلى ما توفّر لنا من نصوص، أنّ جرأة تقليب هذا الحديث إنّما بدأت منذ أواخرالقرن 5هـ/11م، وذلك لما حصل للعلماء من الآليات المعرفيّة لنقد منهج أسلافهم من الفقهاء ،ومحاورتها بالأصول الّتي وضعت لأن تقوم عليها الأحكام. فكان الكيا الهرّاسي، على سبيل المثال، منشغلا بالبحث عن تعليل توفيقيّ بين التزامه بتأكيد صحّة نظريّة الشّافعي في أنّ نسخ القرآن بأخبار الآحاد لا يصحّ هذا من جهة، ومن جهة ثانية كيف تكون مواجهة حقيقة ما حصل، لذلك احتمى بالجواب التالي: «بأنّ ذلك لا يمتنع من طريق النّظر في الأصول، فإنّ بقاء الحكم مظنون فيجوز أن ينسخ بمثله».

فما اعتُبِر أصولا في التّشريع الإسلاميّ إنّما كان في الحقيقة مرجعيات نصّية أسهم الشّافعي بقسط وافر في إخضاعها لقوانين وتصنيفها إلى أبواب، لكنّها ظلّت تتنامى بتنامي الجدل بين العلماء، ولذلك تحوّلت إلى مفاهيم فضفاضة تسعى إلى احتواء الحلول وتخشى القطيعة مع المسائل لما في ذلك من إقالة الفقيه عن سلطته في المجتمع.

لذلك خالف القرطبي جميع من سبقه في تفسير آية الوصيّة، وانشغل باستنباط أحكام الوصّية، وهو في رأينا دليل على استقرار رؤية العلماء على الوجه الّذي أثبته خبر عمرو بن خارجة لا كما أبانه النّص القرآنيّ في ظاهره.

والنتيجة: أنّ الوصية في القرآن هي الأصل والمنطلق في التشريع، إن لم نقل هي الكافية الشافية. وما احتوى عليه من أحكام غيرها، وحملت على أنّها الفرائض ليست في الحقيقة سوى إجابات نزلت في حالات خاصّة جدّا طلب المسلمون زمن الوحي أن يجيبهم الله فيها، ولهذا السبب فأنت تجد جزءا من الجواب لا الحديث كاملا في قسمة التركة.. ولهذا السبب احتار الفقهاء في النظر في بقية التركة التي سكت عنها النصّ كما ورد في الآيتين 4 / 11 و12.. وللسبب ذاته اعتبروا الآية في الكلالة مغلقة.. لأنّهم نظروا إلى النص القرآني من خارج منظومة الوحي، وحتى الأدبيات التي أنشأوها واعتبروها سندا نصيّا يوضّح الدلالة وينسّق بين المعاني القرآنية لم تفِ بحاجة المشرّع. وجميع ما ذكرنا يؤول بنا إلى حقيقة هامّة، وتتمثّل في أنّ ما أنشأه القدامى من فرائض أدرجوها تحت باب « العلم» هي ملجأ أحدثوه حتى يتّقوا من نار « الوصية» ، وتحميهم من ردّة محتملة عن النصّ الأصلي.

• وننظر في مقالنا الثلث في الفرائض كيف قرأها المفسّرون؟ وكيف صنّفها الفقهاء وورثها من بعدهم أباعهم حتى تصير هي الأصل والقرآن فرعا؟
ومرّة أخرى أنتظر من سيدي المفتي الأستاذ أن يجيبني بآليات النص القرآني لا غير.

------------

1 - J. Schacht ,Wasiya , EI¹ , pp : 1194 -1192.

2 - ابن العربي، أحكام القرآن،ج1 ، ص70.

3 - الطبري، جامع البيان،ج2 ، ص25.

4 - نفسه، ص 594.

5 - ابن العربي، أحكام القرآن،ج2 ، ص713.

6 - نفسه، ص714.

7 - الرّازي، مفاتيح الغيب، ج5 ،ص54.

8 - الطبري، جامع البيان، ج2 ،ص121.

9 - نفسه، ص122

10 - نفسه ، ص 124.

11 - نفسه، ص126.

12 - الطبري، جامع البيان، ج2، ص125.

13 - ابن العربي، النّاسخ والمنسوخ، ج2 ،ص ص17 ـ 18.

14 - الإمام أحمد، مسند أحمد، « حديث عمرو بن خارجة « ، ج5 ، ص 204.

15 - مالك، الموطّإ ،ج2 ، ص 765.

16 - و صحيح مسلم ، كتاب الوصيّة ، ج11، ص ص 74 ـ 95.

17 - و الشافعي، الأمّ ، ج4 ، ص33.

18 - عبد الّله بن احمد، مسند أحمد، ج5، ص 204.

19 - العسقلاني، الإصابة، ج4 ، ص627.

20 - وابن العربي، الناسخ والمنسوخ ، ج2 ،ص ص18ـ 19.

21 - الكيا الهرّاسي، أحكام القرآن،ج1 ،ص58.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115