اليسار وضرورة المساهمة في إنجاح مسار حكومة الوحدة الوطنية

حبيب القزدغلي: أستاذ جامعي
بالرغم من حدوثه في وقت بدأ فيه الجميع يتهيأ لشهر رمضان بما يقترن فيه هذا الشهر في المخيال العام من تخمة الأطباق الشهية والمسلسلات الهزلية والسهرات التي لا تنتهي، شكل الحديث التلفزي الذي أجراه رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي مساء يوم 02 جوان

الماضي - بما احتواه من معلومات وطرحه من أفكار- منعطفا في مجرى الحياة السياسية الوطنية . لقد أصبح النقاش حول ما أطلق عليه لاحقا «مبادرة حكومة وحدة وطنية» محورا من محاور الاهتمام - سواء بالدعم أو بالرفض أو بالتشكيك أو القبول المشروط - لا فقط من قبل النخب السياسية والفكرية بل امتد الى شرائح واسعة من الرأي العام . لقد أعادت المبادرة الأخيرة النقاش في «السياسة « الى المقاهي والأماكن العامة والسهرات العائلية بما تعنية تلك الممارسة من تساؤل مشروع ومن تفكير في مستقبل الوطن وأفراده بعد أن تحولت النقاشات في كثير من الأحيان الى ردود أفعال عاطفية وحماسية تعقب كل عملية ارهابية سرعان ما تخفت وتغيب تحت وطأة صعوبات الحياة اليومية من نقل وغلاء أسعار وتوتر يومي ...
دفع جديد لمسار الانتقال الديمقراطي وتحصينه بالمحتوى الاقتصادي و الاجتماعي

لقد أعادت المبادرة الرئاسية الى السطح وأعطت شرعية لما تم التقدم به من طرف العديد من الأحزاب والمنظمات الاجتماعية ومنها حزب المسار من مبادرات تم الاصداع بها تارة في ندوات صحفية أو في شكل اقتراحات سياسية تم التقدم بها مباشرة الى رئيس الجمهورية باعتباره الضمان لحرمة الوطن ولوحدته . فرغم ما تم انجازه على طريق انجاز مهمات الانتقال الديمقراطي من دستور وانتخابات عامة ناجحة وتشكيل حكومة دائمة فقد أبرزت ألاحتجاجات الاجتماعية التي جدت في العديد من الجهات في أواخر شهر جانفي الماضي هشاشة الوضع الاقتصادي وما يتطلبه من مبادرات جذرية لتلبية رغبات الشباب العاطل وخاصة أصحاب الشهادات العليا. كما أبرزت العملية الارهابية التي استهدفت صبيحة يوم 07 مارس الماضي مدينة بن قردان المناضلة حيث تكاتفت جهود المواطنين مع قوات الأمن وقوات الجيش الوطنين لإفشالها والقضاء على أبرز منفذيها. ولكن رغم هذا الانتصار الميداني ورغم إحباط المخطط الارهابي فقد أحدثت هذه الواقعة رجة في نفوس المواطنين ولدى الطبقة السياسية خاصة وقد تبين أنها لم تكن مجرد عملية ارباك واستهداف للأمن أو الاقتصاد كما كان الأمر في الهجوم الغادر على ضيوف تونس من السياح في متحف بارد و أو في شاطئ سوسة بل كانت تهدف الى احتلال جزء من التراب الوطني وهو ما يجعل من الانخراط في الدفاع عن الوطن والذود عنه مسؤولية مشاعة بين الجميع.

مبادرة ايجابية في جوهرها لأن السياسة تقاس بالنتائج
وبقطع النظر عما تمت الاشارة اليه بالتصريح تارة أو التلميح تارة أخرى حول الأسباب الجانبية التي قد تكون دفعت برئيس الجمهورية للتصريح بأفكاره فلا بد من التأكيد أن كل فعل تاريخي له عوامل متعددة يتحتم على القارئ العاقل والرصين أن يقوم بعملية الفرز بين إمكانية التوظيف الظرفي والأسباب ا الحقيقية ويقر بكل تجرد أن المبادرة الرئاسية في جوهرها ايجابية وهي استجابة ولو جزئية لمطالب سبق أن تقدمت بها في الفترة الأخيرة أحزاب سياسية ومنظمات المجتمع المدني وشخصيات مستقلة . انها افراز نوعي لطبيعة العلاقات التي يجب أن توجد بين مختلف مكونات المشهد السياسي في بلادنا بقطع النظر عن الموقع الحالي لأي طرف كان في الحكم أو في المعارضة. وهي تدل على المناخ الجديد المبني على التواصل الضروري الذي أصبح يميز العلاقة بين رئيس لدولة منتخب فعلا ومباشرة من

الشعب والدور الذي يتحتم عليه القيام به ليكون رئيسا لكل التونسيين بحيث لم يعد ممكنا تسيير البلاد بالاستناد فقط إلى الأغلبية البرلمانية مهما كانت مريحة عدديا. لقد أصبح واضحا من خلال التمشي الذي تسير وفقه المشاورات والحوارات الجارية أن الهدف الأساسي للمبادرة الرئاسية هو الحرص على ان تستند الحياة السياسية اضافة للمحامل الانتخابية على دعائم سياسية متجددة توفر مشاركة قوى شعبية ومجتمعية ومدنية يتم الأخذ بعين الاعتبار بمطالبها وحاجياتها بما يسمح بتوضيح الرؤيا ويضمن حضور المضمون الاجتماعي في توجهات الحكومة . ان هذا التعامل البراغماتي مع الأوضاع يؤكد الحرص على توجه استباقي يقوم على الوعي بأن أوضاع البلاد رغم كل ما حققته من انجازات جعلتها استثناء في بلدان الربيع العربي فهي تتميز بالهشاشة ولا تزال تشق طريقها وسط صعوبات داخلية

مرتبطة بخصوصيات المرحلة الانتقالية ليس من السهل تجاوزها في وقت قصير ولا بعصا سحرية مهما صدقت النوايا ورغم ما تم بذله من مجهود من طرف الحكومة المشرفة على الأمور منذ سنة ونصف. ففي مثل الظروف المتقلبة التي تمر بها بلادنا خاصة و أن الوضع الاقليمي المحيط بها لم يشهد أي تحسن يذكر رغم المحاولات التي تمت في الشقيقة ليبيا لحلحلة الأوضاع وتجاوز الأخطار على الأوضاع الأمنية والاقتصادية لبلادنا. كل هذه العوامل الداخلية والإقليمية والدولية يجعل من اعادة التقييم و القيام بتدقيق جدي للأوضاع مسألة حيوية لا بد من القيام بها بقطع النظر عن الأشخاص ونواياهم ولا بد من الاقرار هنا أن التغيير الحكومي الجزئي المعلن يوم 06 جانفي الماضي لم يكن له الدفع الايجابي ولم تنجر عنه النتائج المأمولة والسياسة تقوم على النتائج أولا مهما صدقت النوايا.

تجديد في الشكل والتأكيد على المضامين والتحديد الجماعي للأهداف والأولويات
ومهما يكن من أمر لن تبنى المرحلة الجديدة التي دعت المبادرة الرئاسية الى دخولها على فراغ أو على فشل ذريع ادعى البعض تنبؤه بحصوله حتى قبل أن تنطلق الحكومة في عملها في فيفري 2015. لقد أنجزت حكومة الحبيب الصيد ثلث المدة النيابية بنجاحات محدودة لكنها حقيقية. فإلى جانب التوغل الملموس في مكافحة الارهاب وتفكيك خلاياه واستعادة السيطرة على الأوضاع سيحسب لحكومة الصيد أنها أبعدت شبح التغول الحزبي وعودة الحكم الفردي الذي تم التخويف به مباشرة اثر اعلان نتائج الانتخابات التشريعية ثم الرئاسية وسيحسب لها أنها قامت بتكريس امكانية التعايش بين قوى مختلفة المشارب فرضت عليها نتائج الانتخابات البحث علي سبل التشارك الحكومي لتفادي منزلقات الحقد والتقاتل المسيطرة في كل البلدان العربية التي عرفت تغييرا في أنظمتها السياسية في سنة 2011.

أن أكبر دليل على التحول الحاصل بين عهدين أننا نقارن بين الفترة الحالية وسابقاتها -اذ بضدها تتمايز الأشياء-. حيث أصبحنا نذكر فترة حكم «الترويكا» باغتيالاتها السياسية ولجان العنف وروابط الترويع التي نشطت خلالها بمخاطرها على النموذج المجتمعي باعتبارها شبحا مخيفا ومروعا في حين أننا أصبحنا نطالب منذ تولي الحكومة الحالية بالإسراع في الانجاز وبالإقناع في التواصل ومزيد توضيح الرؤى.. ان المبادرة الجديدة تعني المرور الى مرحلة جديدة في مسار طويل تم اقراره بواسطة الانتخابات لكن تبين أن انجازه يتطلب تعبئة أوسع القوى اضافة لتلك التي شاركت لحد الآن في مقود التسيير.الحكومي سيتم المرور الى الحلقة الجديدة في هذه المسيرة التاريخية من عهد الى آخر انطلاقا من تشخيص حصل التوافق حوله من قبل كل الذين طرحوا مبادرات وزادت في تأكيده الورقة الرئاسية التي

جمعت مختلف ما جاء في الأوراق المقدمة ودعمته بالأرقام المقدمة اعتماد على مؤسسات الدولة في مجال الاحصاء. ومن المفيد التنويه بما رافق انطلاق العملية من حرص على تشريك بدون اقصاء كل من رحب بالفكرة وعبر عن استعداده للاسهام قي انجاحها وحتى من تراجع بعد الموافقة فقد تركت له امكانية الالتحاق متى تحلى بالواقعية وغادر مواقع الرفض والطهرية. واليوم وقد دخلت العملية مرحلة التوافق على الأولويات المستقبلية لا بد أن يحرص جميع الذين قبلوا طواعية الانخراط فيها بالشكل الذي ارادوه على تفادي التلويح بالحلول السحرية فالمهم هو اقرار جماعي عقلاني لأولويات بات الجميع يؤكد عليها تحديد الآليات الموصلة الى تحقيقها ويوكل الى الحكومة مسالة تحديد البرامج القطاعية الكفيلة بالوصول الى تحقيق النتائج المرتقبة والمقنعة.

حكومة الوحدة الوطنية : تعبئة سياسية موحدة لتوفير أفضل الكفاءات القادرة على الانجاز
بعد دخول القوى السياسية والمنظمات الاجتماعية للبلاد منذ حوالي الشهر في لحظة مراجعة النفس كل من موقعه بفعل الرجة الايجابية التي أحدثتها المبادرة بات من الضروري توفير الفرصة لكل العزائم الوطنية الصادقة على اختلاف توجهاتها السياسية وتتعدد مواقعها في الانتاج فالبلاد في حاجة ملحة لتوفير قوة دفع اضافي ونوعي تتكثف ضمن ارادة وطنية موحدة يجمع بينها الحرص على انجاز المهمات التي طرحت في البلاد منذ دخولها في مسار ثوري انتقالي وتوافقي من أجل بناء أسس الجمهورية الثانية. لقد اصبح واضحا أن المرحلة الانتقالية لا تتوقف على المستحقات السياسية على أهميتها فلا بد من تجسيدها في الواقع عبر القوانين والنصوص المؤسسة التي يتبين كل يوم أن الطريق لا تزال طويلة ولكن لابد من الشروع الفعلي في بداية التجسيد. لا بد من استصدار النصوص المؤسسة والمكرسة

للمبادئ المثبتة في الدستور الذي تم تبنيه من الأغلبية وضمان انتقال جماعي يتخد من البعد الاقتصادي والاجتماعي أقفا عاجلا و على المدى المتوسط. صحيح أن للتحولات السياسية ثمنا اجتماعيا لذلك تفهم الجميع المطالب الاجتماعية التي عبر عنها الاتحاد العام التونسي للشغل ولكن علينا ألا ننسى أن هناك مهمة وطنية تتأتى في نفس مرتبة الدفاع عن المقدرة الشرائية للعاملين وهي ايجاد فرص العمل لآلاف العاطلين الذين نرى من باب المصلحة الوطنية ادخالهم في دورة الانتاج وتوفير الأرباح والخيرات والاقتناع الحاصل لدى مختلف القوى الوطنية والذي يجب تأكيده هو ان هذا لا يتعارض مع ذاك .كما تجب الاشارة الى انه من باب الأولويات الوطنية أيضا التوصل الى شكل من أشكال المصالحة التاريخية دون المساس بالمصالح العليا للوطن ولثرواته يكون هدفها التوجه نحو المستقبل وتعبئة كل

الموارد المالية العامة والخاصة وضمان حكمة الادارة وعزم الارادة من أجل انقاذ الوطن من أخطار الانهيار أو الافلاس او العودة الى مربع الشك في المستقبل بعد كل ما تتحقق من انجازات على محدودياتها. وإذا كان امر الانجاز والتجسيد موكولا للجميع طبقات وشرائح اجتماعية وقوى سياسية فان المسألة تبدو أكثر الزامية بالنسبة لقوى التقدم والديمقراطية.

أهمية انخراط قوى اليسار في مبادرة حكومة الوحدة الوطنية
فإذا كانت المسؤولية التاريخية للقوى ذات المرجعية اليسارية تقوم على العمل على ضمان أوفر الشروط لإقامة المجتمع العادل في الوطن الحر ومادام الأمر يتعلق باتقاذ الوطن الذي بات مهددا في حرمة ترابه وسيادته الوطنية ونظامه المدني والدستوري الذي ارتضاه أبناؤه على الرغم من اختلاف مشاربهم وأهدافهم فان الواجب الوطني يقتضي أن ينخرط اليسار في كل ما من شأنه الاسهام في وضع البلاد وقواها الحية في مدار تحقيق الأهداف العاجلة والمتوسطة لشعب تونس. وبما أن الحكمة تقتضي قراءة واعية ورصينة للمرحلة التاريخية ودراسة لموازين القوى الاجتماعية والسياسية على اختلافاتها وتبايناتها فلا بد أن يتخلص اليسار من أحلامه الطوباوية التي كثيرا ما كانت سببا في انكساراته العديدة رغم التضحيات الجسام التي قدمتها اجيال متعاقبة من أبنائه. ان الانخراط في تحقيق الأهداف الوطنية ذات

المردود الايجابي على الجميع تعني التماهي والتنسيق مع القوى الأقرب الى بعضها في تركيزها على المضمون الاجتماعي للمسار الثوري وتعني أيضا ضرورة التحالف والتقاطع مع القوى الاجتماعية والاقتصادية التي تريد العيش في مجتمع مدني حر وعصري وديمقراطي كما تعني ضرورة التشارك في الوطن والتنافس السلمي مع القوى التي نتقاسم وإياها الوطن وتتنافس وإياها في حبه وان اختلفت المنطلقات والمراجع والتقييمات لبعض المراحل من التاريخ القريب.
ان المرحلة الدقيقة التي تمر بها بلادنا ومسارها الثوري تقتضي من الجميع مهما كانت المواقع والمرجعيات والقراءات الحرص على تقديم الأهم على المهم والحفاظ على مكتسبات بلادنا والسعي الى التوجه الجدي والثابت نحو تحقيق المزيد من الانجازات والذود عن الوطن من الأخطار المحدقة به والسير به نحو مستقبل أفضل.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115