كلاي بين اللكمات والكلمات

(1)

لم تبدأ الملاكمة في تاريخ البشرية مع محمد علي كلاي ، ولكن كلاي شكّل علامة فارقة بين محطتين في تاريخ الملاكمة : ما قبل كلاي ، وما بعد كلاي .

من اهتمّ بالملاكمة فهو متابع لمقابلاته على الحلبة ، ومن لم يهتمّ بها صار منجذبا الى هذا البطل الأسطوري الذي عدَّ أيقونة الملاكمة الخالدة في القرن العشرين .

(2)

ولا اعرف : هل عرفت الأجيال الجديدة في القرن الحالي ،في العالم العربي كما في العالم ، أم لم تعرف بطلا عالميا من الوزن الثقل في الملاكمة بحجم محمد علي كلاي ، ولكن الأجيال الكهلة الآن عرفته ، و جيلي من أطفال ستينات العشرين وشبابه ،كان يستفيق فجرا ، أو يسهر حتى الفجر لرؤية مباراة مصارعة بين محمد علي كلاي وبين منافسيْه الابرزيْن فريزر وفورمان .
وكانت وسائل الاعلام الامريكية تتولى توزيع هذه البضاعة الإعلامية مباشرة على التلفزيونات في العالم ، وأتذكّر ان حرص الأمريكان على ان يرى العالم هذه الأحداث ، كان خطة ضمن الحرب الباردة التي كانت بين الروس والامريكان .و كان بث مثل هذا المقابلة نتيجة حرص خاص على بث اخبار النجاح الامريكي ، و مقابلات محمد علي كلاي مصنّفة. في مستوى واحد من التسويق الذي نال اليوم التاريخي والانساني الكبير حين خطَا الانسان لويس ارمسترونغ اول مرة على سطح القمر في سبتمبر / أيلول ١٩٦٩ .
واذكر أنّ توقيت بثّ مقابلات كلاي كان فجرا ، وفارق التوقيت بين الولايات المتحدة الامريكية والعالم العربي ، هو اكثر من ستّ ساعات .

(3)

لم يكن كلاي محتاجا الى أنصار من فصيلتنا نحن الصبيان ، وكنا أنصارا متطوّعين ، وغير مرئيين مع هذا الملاكم الأسود المسلم الذي يكره التمييز العنصري . ولم نكن وحيدين من اجل كلاي ، وكم كان يسهر غيرُنا : من المعذبين فوق الكرة الارضيّة.!
هذا هو العاطفي والوجداني والديني والشعبي والثقافي والشاعريّ الذي كان يرمي عيوننا الطفلةَ على تحركات الملاكم ، وذلك لأننا نرى في هذا الشاب الأسود أنفسنا ،ونرى ذراعنا موصولة من خلال قبضته وهي تتحقق اللكمة من خلال المهارة والجدارة والشطارة.
لقد كانت قلوبنا الصغيرة العربية تتقافز فرحا رغم انها مقهورة بمشاعر الهزيمة بعد حرب حزيران ذات الأيام الستة ١٩٦٧ ، ولكن القلوب ذاتها تخفق من اجل الفرح وعدالة اللكمات التي يوجهها محمد علي كلاي لخصمه على الحلبة ، وكأَنَّ خصم كلاي هو خصمنا الشخصيّ والمعلن .

(4)

كان كلاي علامة فارقة بين عهديْن في الملاكمة ، فلم نسمع بملاكم بعده يسهر من اجله الناس ويفتتنون ، بل اننا لم نسمع بخصومه الا لأنهم خصوم كلاي .
كان ملاكما وراقصا وهو الذي اشتهر بالرقص في لحظة الملاكمة :
« يرفرف مثل فراشة»
ومنافسه لا يتمكن من تشخيص سليم لحالته النفسية من خلال الحركات الراقصة التي قد توحي للخصم بالتخاذل والارتخاء ولكنها نوع من المراوغة
و « يلسع مثل نحلة».

(5)

رقصة محمد علي ليستْ لعبا على اعصاب المنافس وتسلية لمليارات البشر من المتابعين وحسب ، ولكنها شغل وتعب وتمارين لا تنتهي ، وهذا ما آمن به كلاي ، وأشار اليه اكثر من مرة حين أكد على ان الملاكمة موهبة ولكنها لا تكفي لعمل الرياضي ، فلا بد من التقنيات ، ولا مناص من التمارين حتى يتمكن ، لا من الملاكمة وحسب وتقنياتها ، بل ومن الرقص كما هو حال الشاعر الناجح مع الجمهور فهو لا يكتب قصيدته وحسب بل يصقلها بالصناعة و يسعى الى إيصالها بتمكن واقتدار ، ويحفظها عن ظهر قلب و يلجأ الى إنشادها ان أمكن الإنشاد .

(6)

لم يكن الطريق مفروشا ولا ورديا في أمريكا امام هذا الطفل الأسود الذي سرقوا دراجته فذهب الى الشرطي ليستردّها في بلد الملكية الفردية ،فما كان من الشرطي الا ان نصحه بتعلم الملاكمة في مجتمع يعاني من سيطرة القويّ ، وكان التمييز العنصري في أوجه في ستينات العشرين في أمريكا ( الولايات المتحدة الامريكية).

(7)

وانطلقت رحلة البطل الموهوب الذي أبهج جمهوره واذلَّ خصومه ، و تعددت بطولاته العالمية في الملاكمة من الوزن الثقيل، ولكن العالم ليس ملاكمة فقط .
لا بدّ للسياسة من ان تلاحق الناجحين و تحشر انفها في مسيرة هذا النجم الذي عليه ان يجيب عن سوْال الحرب التي ارتأتْ أمريكا ان تخوضها ضد الفيتنام.
- إنّ الملاكمة سياسة ايضا وإكراهات ،
- والنجومية نار تضيء طريق الفن
- وتحرق الفراشات السياسة .

(8)

في سنوات صعوده الاولى ، كانت أمريكا تخوض حربا ضد فيتنام ، وكان لا بد ان تدعو كل مواطن أمريكي لأداء واجبه الوطني والموت في سبيل الوطن ،
غير ان المواطن الامريكي الزنجي الذي عاني من العنصرية كان له رأي اخر ، وسوف يصير وجها معارضا لمصلحة الوطن في هذه الحرب، وبدل السجن ، عوقب بالحرمان من الملاكمة والصراع على الحلبة لانه قال :
«لن اذهب لمحاربة الفيتكونج ، فهم لم يمارسوا ضدي التمييز العنصري
وقال موضحا الفرق بين الملاكمة والحرب :

في حلبة الملاكمة حَكَمٌ يتدخل اذا أحسّ بخطر إصابة احد المتنافسيْن او كليهما ، اما الحرب فإنها رشاشات وبازوكات ومفرقعات «
وحين افرجوا عنه بالعودة الى الحلبة قال:
« اعرف الى اين اذهب ، واعرف الحقيقة ، وعليَّ ان لا اكون ما يريدون ، أنا حرّ في ان أكون ما اريد».

(9)

- هل كان لزاما على قوة في حجم الادارة الامريكية ان تخضع لهذه القوة الجديدة الممثلة في هذا الملاكم الأسود الذي اختار الاسلام دينا ؟
- في تلك السنوات لم يكن الاسلام ذَا سمعة مشوبة بالارهاب ، ولم يكن دينا مخيفا في ستينات وسبعينات العشرين ، كما هو حاله اليوم مع موجات الاٍرهاب والتكفير، فهذا البطل الأفريقي الاصل لا يملك قبضة ذهبية وحسب ، بل ومواقف ذهبية جعلته يشع في العيون والقلوب .

لقد عرف كلاي ان ينتصر للإنسان المسلم حين وجه كلماته / لكماته في ديسمبر ٢٠١٥ الى دونالد ترامب الذي أعلن كلاي في بيانات عنصرية انه ضد خطة ترامب لحظر المسلمين من دخول الولايات المتحدة، إذ قال:
«نحن كمسلمين يجب أن نقف في وجه أولئك الذين يستخدمون الإسلام لدفع أجندتهم الشخصية الخاصة بهم،» وفي تصريح لشبكة «ان بي سي نيوز،» قال محمد علي متابعا : «لقد نفروا العديد من التعرف على الإسلام. المسلمون الأحقاء يعرفون أو ينبغي أن يعلموا أن محاولة إجبار الإسلام على أي شخص. هو امر مخالف للإسلام «
وأضاف : «أنا أتحدث كشخص لم يكن متهما باللياقة السياسية، وأعتقد أن قادتنا السياسيين يجب أن يستخدموا مواقفهم لتحقيق التفاهم حول دين الإسلام وتوضيح أن هؤلاء القتلة المضللين يحرفون وجهات نظر الناس عما هي حقيقة الاسلام «.
كما شن كلاي هجوما على المتشددين، قائلا: «أنا مسلم ولا يوجد شيء يمت للإسلام في قتل أناس أبرياء في باريس وسان برناردينو أو أي مكان آخر في العالم

(10)

لم ينجُ محمد علي كلاي من السياسيين الذين أرادوا ان يتمسحوا على أعتابه ميتا فهذا المرشح الجمهوري الامريكي ترامب ( المعروف عنه ولعه بالصور مع المشاهير ) ينشر صورتين له مع محمد علي كلاي
واما الرئيس التركي رجب طيب اردوغان فقد وجد في جنازة محمد علي كلاي فرصة لاسترجاع بريق من الملاكم الميت، ولكي يستقطر ضوءا وأنوارا من جنازة ملاكم لم يدخل الى الاسلام على يد اردوغان.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115