وأخطر حادث هو العادة الذي شهده مسرح الهواء الطلق بصفاقس يوم 8 أوت بين الفنان» لطفي العبدلي» وعناصر من الأمن لم يرق لها الأسلوب الذي تعرض الممثل إلى سلك الأمن خلال أدائه لمسرحيته .
في الحقيقة هذه الحادثة ليست الوحيدة لقد تكرّرت أكثر من مرّة خلال هذه الصائفة، البداية كانت انسحاب جمهور صفاقس من عرض الممثلة جميلة بسبب اتّهامها باستخدام «عبارات خادشه للحياء وإيحاءات جنسية» والحملة الشعواء التي استهدفت الممثل الأمين النهدي وحوّلت انسحاب جزء من الجمهور خلال عرضه لمسرحيته «نموت عليك» بمهرجان قرطاج إلى قضيّة رأي عام وحملة تشكيك في تاريخ وقيمة الفنان، والاحتجاجات التي صدرت عن بعض الأطراف على عرض الفنانة وجيهة الجندوبي، التي رأت في الصورة التي قدمتها عن بعض النواب استهزاء وتحقيرا خدمة لموقف سياسي معين.
لكن يبقى الممثل «لطفي العبدلي»، الظاهرة التي طغت على الساحة منذ عدة مواسم ، فهو بمشاكساته وحروبه التي لا تتوقف كان الأكثر إثارة للجدل وللتعاليق طيلة العشرية الفائتة، فقد دخل في معارك مفتوحة على جميع الواجهات ألإعلاميّة والركحية مع أطراف وازنة في المجتمع ، معركته الأولى كانت مع السلفيين الذين كانوا قدهدّدوا بمنع عروضه في عدة جهات بالبلاد بعد أن أتّهموه بمسّ المقدّسات والمعتقدات الإسلاميّة وقد انتهى ذلك الخلاف بتسوية بينه وبينهم، ثمّ أثار عاصفة من ردود الفعل الغاضبة لتعرّضه لزعيمة الحر الدستوري بما اعتبره أنصارها وقطاع هام من الرأي العام تدنيا أخلاقيا وقيميا لا علاقة له بالفن ولا بالمسرح، وكانت معركته الأخيرة مع الأمن التي تحوّلت إلى ملاسنة مباشرة على الهواء كادت تأخذ منعرجا خطيرا .
حادثة مسرح صفاقس لم تقتصر على مواجهة بين الفنان والسلك الأمني بل كشفت عن التناقض العميق بين مختلف الشرائح الاجتماعية بالبلاد وبالأساس بين شقّين ، شق يرى في لطفي العبدلي نتاجا لتردّي الوضع الثقافي بالبلاد وتراجع مستوى المسرح بعد سيطرة «الوان مان شو» الذي أضعف النص مقابل الحضور الركحي للممثل الواحد وقدرته على الارتجال لشد انتباه الجمهور إلى أخر العرض، ومثل ذلك النوع من المسرح حسب رأيهم يدفع الممثل للانفلات والبحث عن الإثارة ونيل إعجاب الجمهور بكلّ الوسائل، وهنالك من هذا الشق من يطالب بتدخّل الدّولة عن طريق وزارة الثقافة بفرض نوع من الرّقابة بوضع ضوابط تحفظ قيم المجتمع وجودة المنتوج الثقافي باعتبار أنّ الدّولة هي الداعم الرئيسي لمثل هذه الاعمال، في حين يرى شق آخر أنّ ما يأتيه لطفي العبدلي فن له أصوله وله رموزه ويعبر عن شرائح من المجتمع ، تلك الشرائح التي اختارت أنماطا أخرى من التعبير غير السائدة لتعبر به عن وجودها وعن همومها ولطفي العبدلي لم يأت بالجديد وأنّ مؤسس مدرسة «الوان مان شو» بتونس هو الفنان القدير «لمين النهدي» وقد فتح الطريق بمسرحيته الشهيرة» المكي وزكية» التي لاقت نجاحا منقطع النّظير مع الفارق في الجيلي والزمني بما يقدّمه « لطفي العبدلي شكلا ومضمونا وهناك نجوم عالميون أشعوا وأبدعوا
بمثل تلك العروض مثل «جمال دبوز» و»محمد فلاق» و» ميشال بوجناح» وكانوا يتعرضون للمجتمع بالنقد والتجريح أحيانا دون أن يعترض عليهم أحد أو يطالب بفرض قيود على أعمالهم.
ويبدو أنّ الزوابع الصيفية التي عصفت على المجتمع خلال هذا الموسم لم تستثن الحياة الثقافية وأنّ ما يحصل على بعض منصّات المهرجانات ليست على خلفيّات فنّية وثقافيّة، فالمواجهات التي تدورعلى الصفحات الفايسبوكية تفوح منها رائحة السياسة وما يعدّ في المطابخ السياسية وتكشف أنّ ليس كلّ من يناصر «لطفي العبدلي» يقوم بذلك دفاعا عن حرّية التعبير والإبداع بل الأكثر بسبب الموقف السياسي للفنان وتموقعه والعكس أيضا صحيح فمن يرفضه وينزع عنه صفة الفنان ليس ذلك إلاّ بسبب اختلافه معه في الموقف، وهذه الصورة تطرح بقوة إشكالية الانتماء السياسي للفنان ودوره الفني والثقافي الذي من المفترض أن يكون منفتحا على كلّ الفرقاء بمختلف انتماءاتهم ، وكما أنّ السياسة مصدر إلهام للفنان ومادة ثرية يشتغل عليها فهي تشكّل خطرا على حيادية رسائله الفنية إذا ما وقع في كماشة بعض القوى التي تستخدمه كوسيلة من وسائل الدعاية وسلاحا في الصراعات الإيديولوجية والحزبية.
قد يكون هناك وجه قبيح في هذه الصراعات بسبب تغذيتها لأجواء الحقد والكراهية السائدة بالبلاد من مدّة ، لكنّها في جانب أخر لها وجوه إيجابية، فقد أعادت إلى الأذهان قوّة الثقافة في الـتأثير على المزاج العام وبينت أنّ الخلل في الثقافة في السنوات الأخيرة سببه ليس الجمهور وأنّ هنالك طلبا كبيرا بما أنّ أغلب العروض تمت أمام مدارج مكتملة، وأنّ الأمر يحتاج لمراجعة عميقة من طرف أهل الاختصاص وخروج تلك المراجع والعلامات التي رفعت راية المسرح التونسي عن صمتها واحترازها واقتناع أهل الحل والعقد بأنّ الثقافة إحدى مفاتيح حل الأزمة الخانقة التي طالت أكثر من اللزوم.