قهوة الأحد: وجوه من الإبداع: نوال سكندراني: فلسطين، الرقص المعاصر والرفض في قلب الإبداع

تعتقد جازما انك تعرف اصدقاءك حق المعرفة.فكم قضيت من الوقت في الحديث معهم عن امالهم واحلامهم.تسافر معهم بعيدا في احزانهم وانتكاساتهم .

وتحاول مهما ابتعدت المسافات ان نبقي ونسقي حبل الود الذي يجمعنا بهم كوردة تخشى عليها ان تذبل او يجف رحيقها.
ولكن وبالرغم من هذه المحبة وخيط العشق الذي يربطك بالاخر الصديق فما من مرة تكتشف أنه غابت عنك أشياء وأن لاصدقائك حدائق سرية ينفون فيها الكثير من ذواتهم ليحافظوا على حميميتها وتبقى في خانة المحظور وحكرا على صاحبها.
كم من مرة تفاجات مع أصدقاء كثيرين كنت خبرتهم لسنوات طوال بوجود هذه الملاذات السرية التي تشق أخاديد مساراتهم.ولعل فتح هذه الحدائق معي زاد الخيط الرابط بيننا عمقا ومحبة.
عشت هذه التجربة مؤخرا مع ايقونة الرقص المعاصر في بلادنا نوال سكندراني.عرفت الفنانة وتابعت اكثر أعمالها واهتممت بمصيرها لما لها من الابتكار والتجديد وفي نفس الوقت ثورتها على المجتمع الابوي حيث جعلت من الجسد ،احد الممنوعات في الثقافة العربية والاسلامية ،اداة ووسيلة الابداع.
لكني كنت اجهل ان لنوال سكندراني حديقتها السرية وهي القضية الفسطينية.لم تجاهر يوما بهذا الانتماء لأنها تعتبر أن هذه العلاثة وجدانية وتحاول الابتعاد بها عن عالم السياسة ألا انه بالقوة والمتانة التي جعلت منها هاجسا كبيراً في ابداعاتها والسؤال الذي يطرح نفسه كيف لهذه الفنانة الرفيعة والمنغمسة في فنها ان تنتصر لهذا الانتماء والقضية الفلسطينية.ويعود هذا الشغف الوجداني بفلسطين وكل التونسيين الى المحيط العائلي والى الأم السويدية الاصل والوالد التونسي واللذين غرسا فيها هذا الانتصار بقضية العرب الاولى.
ستتدعم هذه العلاقة مع وصول الفلسطنيين الى تونس في 1982 بعد صمودهم البطولي في بيروت حيث سيلتقي الكثير من التونسيين في مواقع مختلفة مع المناضلين الفلسطنيين.وسيكون لعائلة سكندراني اللقاء الأهم مع مبدع الثورة الفلسطينية الأول الشاعر محمود درويش والذي سيصبح الصديق المقرب للعائلة الى درجة انه تولى تسمية قطتي العائلة ورقة وزيتون.وستطلق نوال سنكدراني هذه التسمية على احد عروضها لتكريم درويش بعد رحيله.
إلا أن هذا الانتماء والدعم لفلسطين لن يتوقف عند جانبه الوجداني بل سيتحول الى مساهمة فعلية وعملية لدعم الابداع الفلسطيني وبصفة خاصة الرقص المعاصر. فقد قدمت نوال سكندراني كل اعمالها في رام الله وقامت بتنشيط عديد التربصات التكوينية لبعث نواتات الرقص المعاصر في الساحة الفلسطينية.وقامت الى جانب خالد عليان ببعث المهرجان الفلسطيني للرقص المعاصر في رام الله.
ولعل من اهم تجاربها في هذا المجال الانتاح المشترك التونسي الفلسطيني لعرض « إلى حد ما» في سنة 2013 والذي كان عرض الافتتاح لمهرجان الحمامات واختتام مهرجان رام الله.
هذا الانتماء الوجداني لفلسطين جزء من مشروع ثقافي همه الاساسي رفض السائد والثورة على الانماط الاجتماعية التقليدية.وقد انطلقت هذه المسيرة منذ سنوات الطفولة
• حكاية البدايات
بدأت نوال سكندراني الرقص بالصدفة في سن الخمس سنوات.فقد صاحبت اختها وصديقتها الى مدرسة خاصة لتعلم الرقص.صم ستلتحق بالمعهد الوطني للرقص في سن السابعة اين ستقضي سبع سنوات
وستمكنها هذه التجربة من اكتشاف هذا العالم والشغف به الى حد انها قررت التخصص فيه بعد حصولها على الباكالوريا في سن 18 سنة . إلا أن هذا الاختيار كان محل تخوف كبير من العائلة التي لم تكن لها تقاليد في مجال الرقص المعاصر.
ومصدر هذا التخوف هو الوقوف على الامكانيات الحقيقية لنوال وامكانية نجاحها من عدمه في هذا المجال الفني الجديد والذي يتطلب قدرة جسدية كبيرة وامكانيات تقنية هامة الى جانب حس فني رهيف.
لأخذ القرار اتصلت العائلة بصديقة فرنسية تشتغل في مجال الرقص المعاصر لتقف على الامكانيات الحقيقية لنوال اسكندراني.وتابعت صديقة العائلة هذه الشابة المولعة بالرقص واكدت للعائلة انها تتمتع بموهبة حقيقية يمكن صقلها من خلال التحاقها بمدرسة الرقص في فرنسا.
وكان القرار بتسجيلها في مدرسة للرقص المعاصر في باريس اين ستمضي ثلاث سنوات في التكوين.
وكان الوالد يحلم سرا بأن ابنته ستعود الى تونس عند نهاية تكوينها لتفتح مدرسة خاصة للرقص.
وقد قام بتجهيز هذه المدرسة في انتظار عودة الابنة.الا أنه لم يكن يعلم انها خططت لرحلة بدون رجعة لتخوص في العالم السحري للرقص المعاصر.
• الرحلة دون أمل في العودة
ستتخرج نوال سكندراني من معهد الرقص في سن الحادية والعشرين لتبدا حياة الترحال بين المدن من باريس الى ميلانو الى نيويورك وستنطلق في عالم الاختبارات الصعب والقاسي للحصول على ادوار في الجاليهات العالمية.
وستقدوها حياة الترحال الى الولايات المتحدة الامريكية حيث ستتعرف على التصورات والاتجاهات الجديدة لفنها. وستتمكن من خلال وجودها في أمريكا من دخول احدى أهم الفرق العالمية في الرقص المعاصر وهي فرقة Berkley Ballet theater في سان فرنسسكو في كاليفورنيا. وستقضي نوال سكندراني خمس سنوات في هذه الفرقة والتي ستكون هامة في تجربتها حيث ستتمكن من بلورة اسلوب ونمط خاص بها من اللقاءات العديدة التي عاشتها في المجموعة وكذلك السفر الى الكثير من بلدان العالم.
ساهمت هذه التجربة في تكوينها ونحت شخصيتها ولم تكن تتصور يوما انها ستقطع مع هذه التجربة وقد وضعت ساقها بثبات في هذا المجال الفني الصعب والمضني. الا انه كان للقدر رأي مخالف.فعرفت نوال سكندراني اصابة منعتها من الرقص وتطلبت منها التوقف عن الرقص لمدة ثلاثة اشهر.فقررت العودة الى تونس للبقاء بعض الوقت مع العائلة وقد أخذ منها الحنين والاشتياق ماخذا.
• رحلة العودة بالرغم منها
عند عودتها الى تونس سنة 1985 ستحاول نوال سكندراني الاطلاع على الساحة الفنية التي لم تكن تعرف منها الكثير.
وستلتقي مع آن ماري السلامي (Anne Marie Sellemi) التي كونت اول فرقة بالي خاصة وقامت باعداد عرض «ايقاع» والذي جلبت له كل الراقصين التونسيين الذين يشتغلون بالخارج. وزار هذا العرض 72 مهرجان في تلك الصائفة.
وقد ساهمت هذه العروض في التعريف بنوال سكندراني فاتصل بها محمد ادريس وتوفيق الجبالي للمشاركة في عرض افتتاح مهرجان قرطاج لسنة 1986.
ولئن سافرت اثر هذا العرض من جديد إلا أن قرار العودة النهائية والعمل في تونس كان جاهزا وكانت نوال سكندراني مهياة لهذه التجربة الجديدة.
وعندما تم تعيين محمد ادريس على رأس المسرح الوطني سنة 1988 لم تتردد لحظة عندما دعاها للالتحاق به وتكوين وحدة الرقص المعاصر في اطار المسرح الوطني.وستشتغل نوال بهذه الوحدة لمدة اربع سنوات من 1988 الى 1992 وستهتم بالتكوين والانتاج.
وستعمل هذه الوحدة على تكوين الممثلين في التعامل مع الجسد.وشارك في تربصات التكوين لهذه الوحدة العديد من الممثلين الكبار ومن ضمنهم زهيرة بن عمار وصلاح مصدق وجليلة بكار وفاطمة سعيدان وفتحي الهداوي وكمال التواتي وغيرهم.
كما شاركت نوال سكندراني في العديد من اعمال المسرح الوطني واخراجات محمد ادريس مثل «وناس القلوب»و»يعيشوا شكسبير».
وستعرف تجربة نوال سكندراني منحى جديدا مع قرار رئيس الدولة في 1990 تكوين البالي الوطني ليتم تعيينها على راسه سنة 1991 وهي في بداية الثلاثينات من عمرها من طرف وزير الثقافة انذاك منصر الرويسي. وستكون بلادنا أول بلد عربي واسلامي يقوم ببعث بالي وطني وقد شكل هذا القرار مواصلة في مسار الحداثة الثقافية التي انطلقت فيه دولة الاستقلال منذ البدايات.
وستبقى نوال سكندراني على راس الباليه الوطني اربع سنوات لتساهم في تطويره وجعله مؤسسة فنية مهمة.وفي هذه الفترة مر عدد الراقصين من 6 الى 12 راقصا كما تمت دعوة عديد الراقصين من عديد البلدان الاوروبية والعربية وخاصة من الجزائر في فترة الحرب الاهلية لتصبح تونس ملجا لعديد الراقصين الهاربين من الارهاب.وسيتمكن الباليه من انتاح 23 عرضا قصيرا بين 15 و30 دقيقة ليشكل في فترة قصيرة سجلا مهما من الانتاجات ولن تدوم هذه الفترة طويلاً.اذ سرعان ما ستجد نوال سكندراني نفسها محل العديد من الضغوطات السياسية لاخذ بطاقة انخراط في الحزب الحاكم ثم لدعم ترشح الرئيس للانتخابات 1994 إلى جانب التعطيلات الادارية اليومية التي اصبحت تواجهها من المؤسسة الثقافية الرسمية والتي لم تكن مقتنعة برسالة واهمية الرقص المعاصر في المجال الفني.
وستقرر نوال سكندراني اثر هذه الصعوبات الانسحاب بصمت والابحار باكثر حدية في مجال الرقص المعاصر.
• الإبحار منفردة في الرقص المعاصر
ستنطلق نوال سكندراني في تجربة جديدة كاستاذة في الرقص مع انتاج عديد الاعمال والعروض وستشهد هذه المسيرة الفنية عديد التجارب التي ستعرف تحولات كبرى في عملها الفني.
وستنطلق هذه التجربة مع عرض «البحث عن المركز المفقود» سنة 1999 وستقدم العرض على مدارج جامعة بيرزيت.
ثم ستنتج سنة 2003 عرض « اجساد» والذي سيشكل تحولا كبيرا في تجربتها مع اعطاء الرقص ابعاد فنية أخرى من خلال الخروج من وجدانية النص و ادخال فنون أخرى مثل الموسيقى مع أنور براهم والمسرح مع فاضل الجعايبي والرسم مع الطاهر المقدميني.
كان الجسد نقطة الالتقاء بين هؤلاء الفنانين.وستصبح فكرة الفن الشامل (art Total)الهاجس الكبير لنوال سكندراني من خلال ادخال كل اشكال التعبير الفنية في الرقص المعاصر واخرها الفيديو مع الفنان سرجيو قازيو (Sergio Gazzio) في عرض « نجوم» سنة 2005.
الى جانب اعمالها الخاصة ستساهم نوال سكندراني في عديد الأعمال الاخرى مثل «جنون»و»خمسون» لفاضل الجعايبي .
وستواصل أعمالها الخاصة مثل «ورقة زيتون « سنة 2010 وهي بمثابة تكريم واشادة بالصديق الكبير وشاعر الثورة الفلسطينية محمود درويش.
بعد الثورة ستقوم نوال سكندراني بانتاج عرض «هرسلة» سنة 2011 الذي سيقع اعداده في 21 يوم والذي ستنتقد فيه بقوة كل انواع الهرسلة التي يعيشها الفرد في مجتمعاتنا من البوليس والعائلة والمجتمع.
ثم ستنتقل نوال سكندراني الى تجربة العروض الضخمة لاسعاد الجمهور من خلال ابداعات تؤكد فيها على جمال التجربة الانسانية امام رداءة الواقع.
وستنتج من خلال هذا التمشي ثلاثة عروض كبيرة وهي «Récapitulation» سنة 2015 و»حيا على الحياة» سنة 2018 و»اسود وابيض سنة 2021 والذي جالت به في عديد المدن الى جانب تونس العاصمة ومن بينها تطاوين وباجة وجندوبة ومدنين وتوزر.
لقد ساهمت هذه التجارب اامختلفة في مسيرة نوال سكندراني وفي بناء رؤيتها للرقص المعاصر لتجعل منه فنا شاملا تلتقي فيه كل الفنون الاخرى كالمسرح والفديو والموسيقى والفن التشكيلي والسرك لتشكل سمفونية متناسقة ومنسجمة للاحتفاء بالجسد.
• فلسطين الرقص المعاصر والتحرر من السائد
تعبر مسيرة نوال سكندراني كاحسن تعبير على خصوصية التجربة الفنية التونسية بل كذلك على مساهمتها في خصوصية تجربتنا السياسية.فكان شعار هذه التجربة هي التحرر من همينة وسيطرة الآخر.فاهتمامها بالجسد كان لتحريره من هيمنة المجتمع التي ليست نتيجة الدين بل هي نتيجة لسيطرة العلاقات الاجتماعية للمجتمع الابوي والذي جعل من الجسد أحد المحرمات الكبرى.
كما عملت نوال سكندراني في أعمالها على الدعوة إلى تحرير الطبيعة من سيطرة الانسان لحمايتها والحفاظ عليها من الضياع والاندثار لفائدة الاجيال القادمة.
وقد شكل الرقص المعاصر اداتها لرفع مشروع التحرر والانعتاق من همينة الآخر. وان التوجه إلى آلة الرقص المعاصر ارفع برنامج للتحرر الذي هو في ذاته تحد كبير في مجتمعنا كيف لا وقد قال لها أحد وزراء الثقافة السابقين ان «الرقص لا يتطابق مع ثقاقتنا العربية الاسلامية» وللخروج من وحدة الراقص وعزلته الفنية جعلت نوال سكندراني من التقاء كل الفنون وجعلها للرقص مجال الفن الشامل (art Total)سلاحها للخروج من هذه الغربة.
وتبقى فلسطين البوصلة التي تدفع نوال سكندراني هذه المرأة الرقيقة لمواصلة معركتها الفنية كع كل ما انتابها من القلق أو حتى بعض الانهزام. وييقى التحدي الاهم لهذه التجربة ولكل التجارب الفنية الاخرى قدرة مؤسسات الدولة عل. حمايتها ودعمها والتخلص من شيء من البيروقراطية التي تعيق عمل المبدعين ومساهمتهم في تغذية خصوصية تجربتنا السياسية .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115