هل سيحمينا التخطيط من المخاطر الكبرى ؟ من أجل رؤيا للإنقاذ والانعاش الاقتصادي

يعود التخطيط الى واجهة الأضواء في السياسات الاقتصادية لأغلب الدول .فبعد سنوات من التهميش وحتى الاقصاء تعود عديد الدول

لإعطاء هذه المسالة اولوية كبرى في تحديد سياساتها العمومية. ولعل اخر دليل على ذلك هو تكوين سكرتارية للتخطيط تابعة لرئيسة الحكومة في الحكومة الفرنسية الجديدة.
وتطرح عودة التخطيط الى واجهة السياسات العمومية عديد الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها في هذه المقال. فما هي اسباب هذه العودة القوية الى الية خلناها قد رحلت بدون رجعة مع سقوط جدار برلين في 1989 ونهاية الاتحاد السوفياتي سنة 1991؟ ثم هل يختلف التخطيط الذي تنادي به الدول اليوم مع الذي كان سائدا في اغلب بلدان العالم طول القرن العشرين ؟
تطرح عودة التخطيط ومحاولة الدول قراءة الواقع واستشراف المستقبل لضبط سياسات عمومية قادرة على التقليص في الغموض الذي يحيط بالعالم عديد التساؤلات. الان أن الواضح من التجارب التاريخية ان العودة إلى التخطيط ومحاولة التحكم والسيطرة في التقلبات الكبرى ارتبطت بفترات الازمات الكبرى وحتى الانهيارات الكبرى للاقتصاديات والبلدان من خلال الحروب او الازمات والتحولات الكبرى.
• في جذور التخطيط:
قبل ان يتحول التخطيط الى الية أساسية في السياسات العمومية منذ بداية القرن التاسع عشر وخاصة اثر الحرب العالمية الأولى كانت هذه الفكرة محل جدل كبير بين اهم المفكرين الاقتصاديين في نهاية القرن التاسع عشر .
وقد نادى الاقتصاديون منذ منتصف القرن التاسع عشر بضرورة وجود قيادة او سلطة عليا قادرة على تنظيم الاقتصاد بطريقة ناجعة وتفادي الازمات خاصة مع التطور الكبير الذي عرفته الاقتصاديات الرأسمالية في النصف الثاني للقرن التاسع عشر وسيتفق الاقتصاديون في تلك الفترة على ان هذه السلطة او الهيئة يجب ان تجسد الإرادة الجماعية .
ولئن اتفق الاقتصاديون على ضرورة واهمية هذا التنظيم الافقي للاقتصاد فإن الاختلاف والجدل سيدور حول طبيعة هذه الالية او السلطة المركزية .
ولئن اكد الاقتصاديون الليبراليين مثل ليون فلراس (Léon Walras) والذي يعتبره الكثيرون اب المدرسة النيوليبرالية الحديثة وفلفريدو باريتو(wilfredo Pareto) ان السوق قادرة على القيام بهذه المهمة التنسيقية فإن عددا كبيرا من الاقتصاديين يرون ان مؤسسات الدولة التي تمثل الصالح العام هي التي يجب ان تتحمل ههذه المسؤولية وتوجه الاقتصاد نحو خلق الثروة وبناء القوى الاقتصادية الوطنية .
وسيتواصل هذا الجدل بين الاقتصاديين لسنوات طويلة الا ان النتائج الكارثية للحرب العالمية الأولى والانهيار الذي عرفته اغلب بلدان الأوروبية وبصفة خاصة المانيا وفرنسا سيضع حدا لهذا الجدل ليتدخل التخطيط مجال السياسات العمومية من بابه الكبير.وقد بدا التخطيط منذ السنوات الأولى للحرب فقد شكلت الحكومة الألمانية والحكومة الفرنسية لجانا قطاعية وجهوية مشتركة بين كبراء المسؤولين في الدولة ومؤسسات القطاع العمومي والقطاع الخاص لتامين حاجيات الجيش في الحرب وكذلك تغطية الحاجيات الاساسية للمواطنين .وكانت هذه الهيئات واللجان نقطة الانطلاق لالة التخطيط حيث وضعت الأسس الأولى لجمع المعطيات حول المواد الأولية والتمويل للمؤسسات والتجارة الخارجية .
وسيتدعم ويتأكد دور التخطيط اثر نهاية الحرب العالمية الأولى حيث ستلعب هذه الالية دورا أساسيا في إعادة بناء الاقتصاديات الأوروبية التي انهارت خلال سنوات الحرب.
وستكون الازمة العامة للنظام الرأسمالي سنة 1929 وراء تدعيم موقع التخطيط في السياسات العمومية في اغلب البلدان الرأسمالية .فقد اثبتت هذه الازمة هشاشة السوق وعدم نجاعتها في إدارة الاضطرابات والتقلبات الكبرى التي عرفها النظام الرأسمالي اثر نهاية الازمة الكبرى .
وستكون الحرب العالمية الثانية والدمار الذي عرفته اغلب البلدان المتقدمة دافعا جديدا لآلية التخطيط وجعله احد الأسس الفاعلة السياسات العمومية .وسيتدعم دور ومكانة التخطيط مع خلق مراكز الاحصاء في اغلب بلدان العامل والتي ستعطي هذه الالية المعولمات الضرورية لبناء وتصور المشاريع الكبرى .
وقد لعب تطور الفكر الاقتصادي دورا مركزيا في تنامي التخطيط وفي إعطائه جانبا علميا مهما. ومن ضمن الاقتصاديين الذين لعبوا دورا مهما في تطور التخطيط على قواعد علمية قوية يمكن ان نذكر نيكولاي كونتراتياف (Nicolas kondratief) وفاسيلي ليوتياف ( wassili Leontief) وليوند كانتوفيتش (Leonid kantovish) والذي ينتمون للمدرسة الروسية والذين اضطر الكثيرون منهم للهروب واللجوء في بلدان أخرى وخاصة الولايات المتحدة الامريكية لتفادي الاستبداد الستاليني .
الا انه وبالرغم من التطور الكبير للتخطيط وشيوعه في اغلب بلدان العامل فانه سيتبع منهجيات وتصورات مختلفة وفي بعض الأحيان متناقضة .
• في تطورات التخطيط:
شكّل التخطيط الملجأ والملاذ للدول في بناء السياسات العمومية في فترات الانهيارات الكبرى .وكانت أزمات بداية القرن والحروب التي عرفها العالم نقطة تحول كبرى في السياسات والاختيارات الاقتصادية الكبرى ليضبح التخطيط قاعدة بناء هذه الرؤى والتصورات المستقبلية. ولئن اعتمدت اغلب البدان المتقدمة على هذه الآلية فقد اختلف المناهج والتصورات .ويمكن لنا ان نشير الى وجود ثلاث مدارس كبرى في هذا المجال .
المدرسة الاولى هي المدرسة الروسية والتي تسمى غالبا بالمنهج السلطوي والقسري والذي بدا العمل به في بداية ثلاثينات القرن الماضي حيث تحدد الهيئة المركزية للتخطيط كميات الإنتاج التي يجب للمؤسسات انتاجها في كل القطاعات بأسعار ثابتة ومحددة .وتهتم هذه الهيئة بتنظيم حركة التبادل بين المؤسسات الى ان يصل المنتوج النهائي للأسواق ّ.
اما المدرسية الثانية فهي مدرسة التخطيط التحفيزي(incitative) والتي اتبعتها فرنسا منذ سنة 1947 والتي تختلف بطريقة جذرية عن التخطيط القسري .وتحدد الدولة في هذه المدرسة مسارا تنمويا واهدافا مرقمة للتنمية المستقبلية .اثر تحديد هذه الأهداف تفتح الدولة مجال المفاوضات مع المؤسسات الصناعية والنقابات من اجل ترجمتها الى برامج انتاج.كما تعمل الدولة في هذه المدرسة على ضمان تناغم التوازنات الكبرى مثل ميزانية الدولة والتجارة الخارجية والتمويل مع اهداف النمو التي رسمتها .
اما المدرسة الثالثة فهي المدرسة الانقلوسكسونية او البراقماتية او الليبرالية والتي انطلقت في الولايات المتحدة الامريكية في 1942 مع برنامج Victory program او برنامج الانتصار للرئيس روزفلت لتتواصل في بريطانيا. وتعتمد هذه المنهجية على مفاوضات ونقاشات تجمع الإدارة الامريكية من ضبط كميات الإنتاج والاسعار والأجور دون ان تكون هذه الأرقام قسرية لتبقى في اغلب الأحيان تقديرية لتفادي الازمات الكبرى .
وبالرغم من اختلاف المناهج والتصورات فقد نجت آلية التخطيط في دعم الاقتصاديات الأوروبية وإعادة بنائها وابتعاد شبح الازمات الكبرى. وساهمت الى حد كبير في الفترة الهبية التي عرفها الاقتصاد العالمي الى منتصف سبعينات القرن الماضي .
الا ان الازمات التي ستعرفها اغلب البلدان بداية في منتصف السبعينات ستجهز على أدوات السياسات العمومية ومن ضمنها آلية التخطيط.
• التخطيط والعودة من بعيد:
لقد كان للتطورات الكبرى التي عرفها الاقتصاد العالمي وبصفة خاصة التنامي والتطور الكبير للعولمة تأثير كبير على التخطيط وفي تراجع الاهتمام به .
ويمكن ان نشير إلى ثلاثة أسباب أساسية وراء ازمة التخطيط وتراجع قدرة الدولة على التخطيط.
يهم السبب الأول الجانب السياسي مع انتصار اليمين في أغلب البلدان المتقدمة منذ بداية ثمانينات القرن الماضي والذي قام بنقد راديكالي لتدخل الدولة وطالب بإعطاء الأولوية لآليات السوق لتنظيم الاقتصاد.
وقد اعتبرت اغلب الاحزاب النيويبرالية ان آلية التخطيط ليست ناجعة من الناحية الاقتصادية وتشكل آلية استبداد في يد الدولة على الفرد .
ويعود السبب الثاني في تراجع التخطيط الى تطور العولمة وخاصة التجارة الدولية والاستثمارات المالية والشركات العالمية . وفي هذا الاقتصاد المعولم أصبحت قدرة الدولة والمخطط على رسم السياسات والتخطيط بها ضعيفة .
أما السبب الثالث وراء تراجع وأزمة التخطيط فانها تعود إلى انهيار الاتحاد السوفياتي والذي شكل القلعة الأخيرة للتخطيط في العالم. وكان سقوطه اكبر تبرير للنيوليبراليين بفشل التخطيط.
وستبدأ في تسعينات القرن الماضي أزمة التخطيط وانهياره آخرها إلغاء المخطط في فرنسا سنة 1993.
الا ان الأزمات التي سيعرفها الاقتصاد العالمي منذ بداية القرن ستكون وراء عودة التخطيط في آليات مختلفة ليأخذ منحى الاستشراف الاستراتيجي الذي يحاول فهم وقراءة آهم التطورات المستقبلية.
• أي تخطيط في بلادنا:
انخرطت بلادنا كاغلب بلدان العالم في محاولة فهم والإعداد للمستقبل وجعلت من التخطيط الالية الأساسية في هذا المجال. وكانت لنا تجربة مهمة في هذا المجال حيث قامت دولة الاستقلال ببناء المؤسسات الضرورية للقيام بهذا العمل. وجعلت من هذه المهمة مسألة اساسية حيث بعثت وزارة كاملة للتخطيط. وقامت هذه المؤسسات بعمل هام في هذا المجال وانجزت في وقت مجال عديد الوثائق الأساسية كالافاق للعشرية (perspectives décennales) وعديد المخططات الخماسية.
و سيصبح المخطط الذي سيأخذ منحى تحفيزيا أداة اساسية في بناء السياسات العمومية والاستثمارات الكبرى في البنية التحتية. ونجحت بلادنا في ظرف قصير في القطع مع التبعية الاستعمارية وتنويع النسيج الاقتصادي مما مكننا من دعم الاستقلال السياسي وبناء سيادتنا الوطنية في المجال الاقتصادي.
الا ان بلادنا عرفت أزمة التخطيط كما كان الشأن لمختلف بلدان العالم منذ منتصف التسعينات.
ولئن كانت بلادنا من البلدان الوحيدة في العالم التي حافظت على وجود مؤسسات مختصة في هذا المجال فإن التخطيط خسر تأثيره المباشر على السياسات العمومية ويغيب المخطط تحديدا بعد الثورة.
ولئن شهد التخطيط عودة تدريجية في السنوات الأخيرة تأثيره محدودا ان لم نقل مفقودا في السياسات العمومية لتبقى الأولوية والهيمنة للاتفاقات المبرمة مع المؤسسات الدولية.
ان الإنقاذ الاقتصادي والتنشيط الاقتصادي يمر حتما عبر عودة التخطيط لبناء الرؤى والتصورات الكبرى لبلادنا. الا ان هذه العودة يجب أن تقطع مع الآليات القديمة والتي تجاوزها الدهر لكي يصبح التخطيط استشرافا استراتيجيا للعالم القادم لا يدور في مكاتب مغلقة بل يساهم في نحته بطريقة تشاركية كل الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين و كل منظمات المجتمع ليكون اللبنة الأساسية للعقد الاجتماعي الذي نزمع تشييده.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115