منبر: مقاصد الدستور الحقيقية الحرية لا العبادة

بقلم حاتم مراد
اعتقد مانح الدستور أنه يحسن صنعا في تعديله الثاني للمشروع بادعاء الحد من مقاصد الإسلام، التي أثارت الجدل، عبر إضافة المبادئ الديمقراطية. أصبح الفصل الخامس الذي حافظ على إشكاليات الغموض

واستتباعاته السياسية نفسها، مع ما يحمله من لسان شعري سلطاني غير مناسب للنص الدستوري كما يلي:»تونس جزء من الأمة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل، في ظل نظام ديمقراطي، على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النّفس والعرض والمال والدين والحرية’’. وذلك حتى يمنع، حسب ادعاء واضعه، ظهور تأويلات مجحفة تكرس مقاصد الإسلام، خاصة من قبل المحكمة الدستورية أو غيرها من المحاكم.
جميع الدساتير التونسية منذ القرن التاسع عشر (بالإضافة إلى الدساتير العربية) تحتوي، كل على طريقتها الخاصة، على هذر عن الإسلام. لكن لن نعرف ما إذا كانت الديمقراطية هي التي تقترح تصحيح ضوابط الإسلام أم أن الإسلام هو الذي يجب أن يراقب المعنى «المصرح به» للديمقراطية، كما يصوره الإسلام ويفسره علماءه.

سبق لعياض بن عاشور، في كتابه الإسلام والديمقراطية: ثورة من الداخل (غاليمار، 2021)، أن هاجم ما يسمى بالديمقراطية الإسلامية موضحا استحالتها المنطقية والعملية. يؤكد هذا الكاتب أن فكرة الديمقراطية الإسلامية يروج لها كتاب مختلفون لكن أغلبهم من الوسط الإسلامي. نتحدث عن ديمقراطية تؤطر الإسلام لكن يُنظر لها من شخص ينتمي للثقافة الإسلامية. من يتأتى هذا الوهم القاتل؟ إنه يرجع إلى الإصلاحيين في القرن التاسع عشر أنفسهم، الذين اعتبروا أن انحطاط الحضارة الإسلامية مرتبط بالقيم الإسلامية، خاصة عند نقلها إلى المستوى السياسي. عندها يكون كافيا، وهنا الأسطورة التي يشير إليها هؤلاء الإصلاحيون، لإدخال القيم الديمقراطية في إطار إسلامي ثابت، للحاق بالغرب. يصبح إذن الإدراج الشكلي والمؤسسي لقيم ديمقراطية وليبرالية في إطار دستوري مشحون أصلا بالشريعة ضامنا لولادة الحرية من الرماد. إلا أن المفارقة، التي تبلغ حد النفاق، أن مسعى الحد من استبداد السلطة يطغى على تكريس الحرية. ذلك أن الديمقراطية والحرية والدستورانية تتناغم فلسفيا وتاريخيا مع الحرية والحريات الفردية. الفرد في مقابل السلطة، في مقابل الدولة، في مقابل الدين وفي مقابل احتكار الإقتصاد والأخلاق السائدة وفي مقابل الرأي العام نفسه. هنا بالذات أساس قيام فكرة الدستور. وبالتالي، فإن الديمقراطية ليست حقيقة سياسية بقدر ما هي حقيقة اجتماعية. إنها تأتي من ثقافة التقدم والأفكار الإنسانية.هذه هي الفلسفة الحقيقية التي أخفاها الإصلاحيون العرب، وما زالت تهيمن عليها الأسطورة الإسلامية وأسطورة الخلط بين الإسلام والديمقراطية. الجميع أصلوا لها، بدء بالأفغاني والكواكبي وعبده ورضا وصولا إلى راشد الغنوشي، الذي طالب بحكومة إسلامية ديمقراطية عبر إعادة تأويل الاجتهاد ، مستندا إلى المفكرين الدينيين الإيرانيين كعلي شريعتي وعبد الكريم سروش.

لكن دون جدوى حيث لا يوجد إسلام قد طُهر بالديمقراطية أو الحرية، لم نُعاينه قط. من الواضح أن نية الكتاب والمشرعين المسلمين لا يمكن أن تسير في هذا الاتجاه. فلا يوجد إسلام ديمقراطي أو ليبرالي يحترم الحرية الفردية، وحقوق المرأة، والمهمشين، والأقليات، خارج رؤية الإصلاحيين أو المؤسسين المحافظين. الإسلام فعليا يتعارض بشكل أساسي على الحرية: نصا وممارسة.
لن يغير الفصل الخامس المقترح في هذا الدستور التسلطي شكلا ومضمونا، والذي يبدو كميثاق أعلنه ملك دون حق إلهي، منبهر بالأنظمة العربية الاستبدادية والطابع المحافظ لدول الخليج، والذي سيعرض للإستفتاء يوم 25 جويلية. هو لن يغير أي شيء بمجرد إضافة كلمة «ديمقراطية».

مقاصد الإسلام أو ضمنيا مقاصد الشريعة تمزج حداثة العصر الرقمي بظلامية العصور الوسطى. لطالما اعتبر العالم العربي والإسلامي، خاصة حكامه التسلطيون والعنيفون، الدستور مجرد «نص»، ’’شكلا’’ أو’’إجراء’’ بينما هو فكرة وفلسفة حرية. لا يمكن أن يكون الدين إلا دخيلا في هذا المستوى. إن الدستور مرتبط بشكل عميق وجذري بفكرة الضمانات ضد التعسف وإساءة استخدام السلطة الممنوحة للأفراد. وبهذه الصفة وحدها، وليس بفضل أي إحتفاء شعبي، يكون الدستور عنوانا لشرعية السلطة. تكفي العودة إلى تاريخ الأفكار السياسية (مونتسكيو، لوك، بينامين كونستنت، ماديسون، جيفرسون، إيمانويال جوزيف سياس)، وتكفي العودة للتاريخ وحده. سواء عندما هاجمت البرجوازية الصاعدة امتيازات الأرستقراطيين، وحاربت النخب الاستبداد السياسي والطبقي والديني وانتهاك الحريات الفردية والعامة أو عندما أراد الشعب المساواة، في كلتا الحالتين، لم تتقاطع الدستورانية أبدا مع الأفكار الدينية أو الظلامية. فعليا الدستورانية كانت فكرة حرية بصدد التحول إلى حالة حرية. إنها فكرة علمانية بالأساس.فمنذ نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، ولدت حضارة جديدة مرتبطة بالتقدم الأخلاقي والمادي: حضارة الفرد. لم تعد هذه الحضارة تسمح بالتفكير في السياسة وفقًا للنماذج التقليدية والدينية والمحافظة التي عفا عليها الزمن. الإنسان بالنسبة لها مشروع حرية وليس هوية. أما هويته فهو من يبنيها بنفسه شخصيا عبر ممارسة حريته. لم يطالب الفرد لذلك بالدستور كضمانة حتى تصبح الدولة مسؤولة على هويته ودينه وحقوقه وحرياته، وتفرض عليه ’’مقاصد الإسلام’’ غير محددة المعنى والآثار. هذا مع استحالة أن يكون لإنسان واحد أو لمشرع منفرد المشروعية الكافية، حتى لو انتخب 99 بالمائة من الشعب، ليُعرف في الدستور الشخصية القاعدية أو هوية بلد كامل بقفزة ميتافيزيقية. بل سيصبح حينها الدستور إلا إعتداء من قبل معتدي.

وعليه يصبح القول أن مقاصد الإسلام التي من المفترض أن الدولة ستضمنها، يجب أن تتناغم مع النظام الديمقراطي (كما في الفصل 5 المعدل) ليس إلا قولا دون معنى قد نفاه التاريخ والممارسة السياسية. ما يجعل النية الحقيقية من وراءه هي أن يصبح الإسلام ضمانة عدم تكريس الديمقراطية للحريات والحقوق الفردية. يمكن فهم ذلك بما في الدين الإسلامي من طابع محافظ. فيما النظام الديمقراطي مجرد حجة مُحافظ ديني مُعادي للكونية وللأنوار. بل إن استعمال عبارة النظام الديمقراطي لا قيم الديمقراطية إنما كان إضافة مُضطر أمام النقد الموجه له من قبل فقهاء القانون وغيرهم من المتابعين. ما يعني أن الديمقراطية حجة زائدة عن اللزوم وغير أساسية. هي طريقته للتخلص من الرأي الحداثي دون وجود اقتناع به.

إذا كنا نريد فعلا في تونس، كما هو الحال في أي بلد عربي مسلم آخر، أن نسير في اتجاه دستور حرية، خال من غبار تلميحات الماضي الدينية، يجب أن نطلق على الدستور، بشكل رسمي صريح، «الدستور المدني للدولة». تلك التسمية التي تسم الدولة بالجمهورية وتجعلها كذلك، كجمهورية للجميع لا خلافة مقنعة، أي كجمهورية مدنية لا ثيوقراطية، حرة تقوم هدفا للدستور وضامنة للمساواة (رجال - نساء - أقليات). فالمقصد الحقيقي للدستور هو حرية الإنسان لا عبادة الله.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115