خفايا ومرايا: الورطة

إحدى مناصرات الرئيس كتبت على صفحتها «يجب أن نفعل المستحيل كي يمرّ الدّستور لأنّه إذ لم يمرّ ستعود النهضة ويؤول الحكم إلى راشد الغنوشي»،

هذا التعليق يعكس حجم الأكاذيب والمغالطات التي تعيش على وقعها البلاد منذ أن كشف العميد الصادق بلعيد والأستاذ أمين محفوظ عن خدعة «الحوار الوطني وكتابة الدستور»، هؤلاء الشخصان اللذان حظيا بهالة من التعظيم والتبجيل من طرف أنصار الرئيس كادت تضعهما في مقام الأولياء الصالحين، لكن ما إن كشفا عن الخديعة التي جرت عليهما في كتابة الدستور حتّى انهالت عليهما سهام التكذيب والتخوين من كلّ حدب وصوب، الذي جرى على الأستاذين مع الرئيس ليس بجديد، فلقد جرى على العشرات غيرهما من أولئك ا اللذين ظنوا أنّهم شركاء للرئيس في بعد 25 جويلية بعد أن دعّموه وساندوه مساندة مطلقة، لكن لمجرّد قيامهم ببعض المبادرات من تلقاء أنفسهم وتسجيلهم لبعض الاعتراضات على مواقف الرئيس حتى وجدوا أنفسهم مبعدين عن دوائره وهدفا لانتقاداته اللاّذعة، .

تلك هي مأساة البعض من النخب التونسية بمختلف توجهاتها الحداثية والليبرالية واليسارية، نخب وضعت نفسها في أسر الخطاب الشعوبي وساهمت في تزييف تاريخ المرحلة التي لهم فيها دور متقدّم، لقد ذهب في ظنّ تلك النخب أنّها بمسايرة المزاج الشعبي العدائي لكلّ شيء وفي تخلّيها عن الموضوعية والعقلانية في اتخاذ مواقفها قد تضمن لها مكانا في المسار الجديد، لكنّ الذي حصل هو أنّ ذلك الصنف من الشعب المحيط بالرئيس ازداد ارتيابه منها وشكّه فيها ولم يعفها من تحميلها المسؤولية عن ما يسمّيه «عشرية الخراب،.
لقد فوّتت تلك النخب الفرصة على نفسها للعب دورها في أن تكون قوة التوزان والتعديل كي لا ينحرف مسار25، جويلية ومن أجل التموقع فضلت الصمت عن الانحراف بالسلطة نحو الحكم الفردي المطلق ومخاطر عودة الإستبداد

- صمتت على المرسوم 117 والذي بموجبه فوض الرئيس لنفسه كل السلطات
-صمتت على الانقلاب على المجلس الأعلى للقضاء بغاية وضع اليد على السلطة القضائية
- صمتت عن إخضاع هيئة الانتخابات وإعادة تركيبها وفق مبدإ الموالاة والإخراط في مشروع الرئيس.
- صمتت عن التدخل المكشوف في الشأن الداخلي لاتحاد الفلاحين والانقلاب على رئيسه بذرائع فئوية وإيديولوجية، والغريب أنّه بعد كلّ هذه التجاوزات الخطيرة تلك النخب كانت تطمع في يكون مآل ما سمّي بالحوار الوطني أفضل ويقبل بدستور بعيدا عن أفكاره.
يمكن الإشادة والتنويه بشجاعة وصدق العميد الصادق بلعيد وأمين محفوظ لمّا صدعا بكلّ الحيثيات والتفاصيل التي حفت بعملي كتابة الدستور، لكن ذلك لا يعفيهما من المسؤولية الخطيرة في تعبيد الطريق للرئيس لتمرير الدستور الذي يريد ، فمن التوطئة تظهر نية نسف جزء من الذاكرة الوطنية وخصوصا مرحلة تأسيس الدولة ودستور الاستقلال 1959

حيث تم الاستشهاد بدستور 1861 بالرغم من أنّه موضوع خلاف بين المؤرخين وينسبه بعضهم مجيئه إلى ضغوطات القناصل الأوربيين وواضح أنّ المقصود من ذلك تقزيم دور الآباء المؤسسين وطمس ا الأعياد الوطنية الكبرى كعيد الاستقلال وعيد الشهداء وعيد النصر بالتركيز على ذكرى اجراءات 25 جويلية وكأنّ تونس ولدت مع تطبيق الفصل 80 من الدستور.

ومهما اختلفت الرؤى فإنّ أغلب الخبراء أجمعوا على أنّ ا هذا الدستور يعتبر خطوة إلى الوراء ويحمل مخاطر على وحدة المجتمع التونسي وتماسكه بسبب إحيائه للجدل «الهوياتي» وفتحه الباب من جديد للخلط بين المفاهيم الدينية والسياسة ، والدليل على ذلك استبشار قوى عروبية تستبطن العداء لدولة الاستقلال وقد اعتبرت هذا الدستور بمثابة الثأر من البورقيبية وانتصارا على « اللوبي الفرنكو - صهيوني ، والغريب أنّها تشير إلى موقف النهضة والإسلام السياسي في الدستور لأنّه من الوارد جدا أن تشكل قواعد التيار الإسلامي مع تلك القوى الحزام الداعم لقيس السعيد لإدخال ذلك الدستور حيز التنفيذ
اليوم الجميع يغرقون في الورطة خاصّة تلك الأحزاب والفعاليات والشخصيات التي انساقت طويلا وراء مشروع هلامي ولم تتفطن لذلك إلا بعد أن صدمت بما حصل مع العميد الصادق بلعيد والأستاذ أمين محفوظ، ذلك سيجعل مجال تحرّكها ضيقا ويقلّص من دورها في إيجاد الحلول لأنّ لا أحد سيعذر جهلها بنوايا من سارت وراءه ومنحته صكا على بياض في العديد من المسائل الحساسة.

والرّئيس كذلك في ورطة لأنّه لا يمكن أن يستمرّ اكثر في سياسة الهروب إلى الأمام والاعتماد فقط على ولاء قواعد التفّت حوله وانخرطت في مشروعه من منطلقات وأهداف متناقضة أحيانا ولا يربط بينها إلاّ العداء للمنظومة السابقة، فذلك النوع من القواعد عادة ما يكون سهل الاختراق، ولذا لا شيء يمنع النهضة التي خرجت من بوابة المجلس أن تعود من نافذة الفصل الخامس من الدستور الجديد, والقاعدة العريضة للرئيس والتي لا تعر أهمّية كبرى لنصوص الدساتير والقوانين وتنتظر انتهاء هذه «الحضيرة» كي تتحقق لها تطلّعاتها في تحسين ظروف عيشها الشيء غير المؤكد في ظلّ استمرار الأزمة السياسة والعجز المتفاقم في إيجاد الحلول الاقتصادية والاجتماعية.
ولذا لا يمكن لأي طرف حسم الموقف من خلال الاستفاء، لأنّه من جهة وضعه الرئيس بطريقة تجعل نتيجته محسومة سلفا فلا يمكن إسقاطه لا بتدني نسبة المشاركة ولا حتى بتفوق «اللا» فالفصل 139 من هذا الدستور لا يتضمّن حتى فرضيّة للرفض ولا كيفية للتعامل مع أي حالة خارج المصادقة .
في المقابل من السذاجة الاعتقاد أنّ مجرّد حصول الاستفتاء وإعلان «الانتصار» سيفرض أمرا واقعا يخضع له الجميع، ففي ظلّ اتساع رقعة المعارضة للمسار والقطيعة الحاصلة بين النخب والرئيس سيعمّق ذلك من الأزمة ويجعلها مفتوحة على كلّ أنواع التطوّرات ....،

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115