منبــــر: تونس السعيدة بحلولها السهلة

يحكى أن تاجرا زار صديقا له، وكان فلاّحا. فوجد عنده حمارا قوّيا أعجبه. لكن الفلاّح أخبره بأنه أشدّ الأحمرة كسلا.

ولمّا أبدى الفلاّح تضايقه ممّا يعانيه من عناء بسبب اضطراره اليومي لإكراه الحمار على العمل، اقترح التاجر أن يشتري الحيوان، قائلا، «إنه حمار قويّ. ولا بأس عندي أن يكون كسولا. فما عليه إلا أن يحمل متاعي صباحا إلى السوق، كي يعود بما بقي منها مساء إلى البيت. وله أن يرتاح بين هذا وذاك ما أراد.»
فرح الحمار كثيرا للثورة التي شهدتها حياته. فقد أصبح مع التاجر يقضي أكثر وقته في الراحة والاستجمام. ولكنه سرعان ما بدأ يشعر بالحزن والغمّ. ذلك أن عيش المدينة بدا له مضجرا وهواءها ملوّث وطاعمها آسن وصخبها مزعج. حتى الراحة في المدينة، لم تكن رائقة. وأسوأ ما كان يعانيه الحمار اضطراره لحمل أمتعة صاحبه صباحا. فهي كانت تعيي ظهره، خاصة عند عبور النهر الصغير الذي كان يفصل مقرّ سكن التاجر عن وسط المدينة حيث السوق.
لقد كان التاجر يبيع الملح. ولذا، فقد كان حريصا كل الحرص على أن لا يتعثّر الحمار عند عبور النهر. ولكن في يوم من الأيام وقع المحضور. إذ زلّت قدم الحمار، فوقع في الماء. حين نهض الحمار فوجئ بزوال الثقل من فوق ظهره. ثم لا تسل عن فرحته حين أمره صاحبه بأن يعود أدراجه إلى البيت.
في الغد، وبينما كان التاجر والحمار يعبران النهر، خطرت في خاطر الحيوان فكرة. فجلس، ثم استقام، فإذا الثقل يختفي من فوقه، وإذا صاحبه يقرّر مرة أخرى عدم الذهاب إلى وسط المدينة. فرح الحمار بما اكتشف. وراح يتعمّد الجلوس في النهر في كل يوم. فساءت حال التاجر، ولم يعد قادرا على إعالة أولاده، فضلا عن توفير الطعام لحماره. فأصبح يتضوّر جوعا، وهو يتّهم صاحبه بالتقصير في حقّه.

في يوم من الأيام، قرّر التاجر أن يتخلّى عن بيع الملح. فاقتنى أكياسا من القطن، حمّلها ظهر الحمار الذي كان فقد جانبا من قوته بسبب الجوع. كان الحمار ينتظر بفارغ الصبر لحظة الخلاص عند عبور النهر. ولكنه حين أراد أن يقوم من جلسه، وجد أن العبء الذي كان يحمله قد تضاعف. حيث تشبّع القطن بالماء، فأصبح أثقل من الحجارة. وتحت السياط، لم يجد الحمار بدّا من التقدّم. ولكن ما هي إلا خطوات حتى انكسر ظهره بحكم ما كان فقده من سالف قوّته. فأنهى حياته مهملا، لا يعمل ولا يأكل إلا من قشّ لا يسمن ولا يغني من جوع.

ألا يذكّركم مثل الحمار بأحد البلدان؟ ألم يعتقد أحد الشعوب (بعد 2011) أن خلاصه من حاكمه القديم يكفي لتحقيق سعادته؟ ألم يكتشف ذلك الشعب العظيم، تماما كما اكتشف الحمار، أن تغيير الحاكم لا يكفي لضمان السعادة؟ ألم يخطئ ذلك الشعب الكريم حين لم يكلّف نفسه السؤال عن مسؤوليته في ما وصلت إليه أحواله بعد ذلك؟ ألم يتعسّف حين حمّل تلك المسؤولية كاملة لمن يسوسه؟

أهم من ذلك: ألم يتّبع الشعب المقصود الطريق الأسهل حين تبنّى شعار «عليّ وعلى أعدائي»؟ ألم يعطّل جزء من أفراده وجماعاته وسائل الإنتاج دون وعي بتكاليف ذلك الأسلوب الابتزازي؟ ألم يخطئ الحمار حين حمّل مسؤولية جوعه للتاجر، في حين أنه هو من كان السبب في انهيار تجارة صاحبه؟ ألم يعلم ذلك الحمار أن ما كان يعانيه من عسر في العمل لم يكن بالضرورة مناقضا لمصلحته في الحياة؟ ألم يجرم حين اعتقد أن التاجر كان عدوا له، وأن مصلحة تجارته تناقض راحته، في حين أنهما كانا يشربان من نفس المنبع؟

بالتأكيد، أخطأ التاجر أيضا. أخطأ أولا حين لم يعتبر بصديقه الفلاّح. أخطأ ثانيا حين لم يدرك في الوقت المناسب لعبة الحمار وتكاليفها، فلم يسع إلى إيجاد حلّ سريع للخطر الذي كان يداهم تجارته. أخطأ أخيرا حين لم يستبق نتائج ما أصاب الحمار من ضعف. فحمّله ما لا طاقة له به. ولذا خسر حماره بعد أن كان قد خسر تجارته. خسر التاجر. ولكنّ خسارة الحمار كانت أعظم. فقد خسر ظهره قبل أن يخسر حياته.

حاشا لله أن نقصد الإساءة من خلال هذه الأمثولة. ولكننا نقصد بالتأكيد استخلاص العبرة. فالسعيد من اعتبر بغيره، والشقيّ من اعتبر بنفسه.

ألم يحن -في تونس- وقت السؤال الحاسم: لماذا نميل في هذا البلد إلى أن نكون من الأشقياء الذين يعتبرون بأنفسهم، ولا نسعى إلى أن نكون من السعداء الذين يعتبرون بغيرهم؟ لعل الجواب يكمن في حلولنا السهلة وسعادتنا بها وقصورنا عن استبيان نقائصها ومواطن الخلل فيها. فالشعب دائما في تونس بريء. والمجرم دائما في تونس معلوم. والحلّ دائما في تونس سهل. كيف لا، والتخلّص من المجرم، يكفي في تونس لحلّ جميع المشاكل. جرّبنا هذه الوصفة مرارا وتكرارا. ولم يؤد فشلها في كل مرّة إلا إلى تعزيز قناعتنا بها.

قد يقال: ما فائدة تحميل الشعب المسؤولية ما دام لا يمكن التخلّص من الشعب؟ أليس من الأنجع التخلص من السياسيين أو الدساتير؟ أليس من الأيسر لعن الخارج وشياطينه الشريرة؟ والجواب أن هذا التساؤل يعدّ في حدّ ذاته دليلا على قصور الفكر. ذلك أنه يفترض مسبقا أن الحلّ لا يمكن أن يكون إلا بالتخلّص من شيء ما. ولذا، فما دام لا يمكن التخلّص من الشعب، فالأولى التركيز على النخب أو على قواعد العيش المشترك. وذلك ما يفسّر رواج تجارة الشعبوية.

لقد ولّى عهد الحلول السهلة القائمة على تبرئة الشعب وتخديره بعذوبة لعب دور الضحية. وحان الوقت لوصف المشكل الذي ينخر تونس ويقطّع أوصالها. وعنوانه اعتقادنا بأن للمشاكل العميقة حلولا سهلة، وللمآزق الهيكلية إجابات ظرفية. والحقيقة أن تونس بلد فقير رغم أنف من يقول العكس، وأن مشكلته ليست الفساد والنهب رغم ضرورة محاربتهما بجدية. المشكل في تونس أننا فقدنا قيم العمل والجدارة. فمن يدرس، يحبّ الشهادات أكثر مما يحرص على اكتساب الكفاءات. ومن يعمل، يفكّر في الامتيازات دون التفكير في إفادة المجتمع. أمّا من يستثمر، فهو ممزّق بين الاستكانة للريع والرغبة في المغادرة. أمّا من يمارس السلطة أو من يطلبها، فإنه يكتفي باتهام خصومه وباتهام الشياطين الشريرة دون الاعتراف بالواقع أو الاستعداد لمواجهته.

رغم كل ذلك، يمكن حلّ مشاكل تونس بسهولة نسبية. ولكن بشرط أن نعتبر بمثال الحمار والتاجر. صحيح أننا قد خطونا أشواطا طويلة على دربهما المدمّر. وقد أصابنا الضعف بالفعل. ولكنّ ظهرنا لم ينكسر بعد. أو على الأقل: ذلك ما يجب أن نؤمن به ونعمل على أساسه. أما من يعتقد أن المشكل سينتهي بوضع الدساتير والنصوص القانونية، فنقول له: إن التكلفة ستكون عالية. ورجاؤنا فقط أن لا نقصم ظهر الحمار!

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115