منبر: الحرب هناك و شبح الجوع هنا

تتواتر التحذيرات من انعكاسات الحرب الروسية -الاوكرانية على منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا ، فقد حذّر البنك العالمي ،

منذ ايام،من اضطرابات اجتماعية في هذه المنطقة نتيجة الارتفاع المطرد للطاقة والنقص في التزود بالمواد الغذائية ، وقالت نائبة رئيسه، كارمن لينهارت ، ان الانتفاضات الاجتماعية يمكن أن تعيد المنطقة الى انتفاضة سنتي 2010 و2011، التي كان من أسبابها الرئيسية حينذاك ارتفاع سعر الحبوب في العالم ، محذرة من ان «شبح انعدام الأمن الغذائي يهدد عديد الدول « هناك، وأن من مظاهر عدم الاستقرار ان «الانقلابات الناجحة والفاشلة قد ازدادت خلال السنتين الأخيرتين» في المنطقة.
للأزمة الغذائية أسبابها ، اذ حسب اخر الاحصائيات، تستورد المنطقة العربية، التي تعد تقريبا 435 مليون نسمة ، أي حوالي 5.5 ٪ من سكان العالم ، 25 ٪ من صادرات القمح العالمي ، تأتي بلدان شمال افريقيا والشرق الاوسط في مقدمتها ، خاصة بالنسبة للتوريد من روسيا وأوكرانيا ، حيث تستورد مصر أكثر من 75 ٪ من الحبوب من الدولتين ، وكذلك الشأن بالنسبة لدول شمال إفريقيا ، تونس والجزائر والمغرب، اذ تعاني كل هذه الدول صعوبات في امنها الغذائي تهدد استقرارها ، لا فقط بسبب ارتهانها الى التوريد الخارجي وعدم قدرتها على الحد من تبعيتها الغذائية (تونس ، مثلا ، تستورد 85 ٪ من القمح اللين و35 ٪ من القمح الصلب وحوالي 75 ٪ من الشعير)، بل كذلك نتيجة ازمة هيكلية في اقتصادها وأخرى اجتماعية نتيجة لتفاقم مظاهر الفقر والحيف الاجتماعي والمحسوبية والفساد المالي ... أزمة عمقها الافتقار الدائم للحوكمة السياسية وغياب المساءلة...
وسبب الخشية التي يعبّر عنها عديد المختصين والخبراء ان الدعم الذي كانت تقدمه الحكومات على المواد الغذائية الاساسية (خاصة الغذاء) في هذه المنطقة قد ساهم في ادامة بعض الاستقرار حتى وان ضحت شعوب المنطقة بالعديد من الحقوق الاخرى ، لكن ماذا لو لم تعد هذه الدول قادرة على توفير الدعم ، نتيجة لازماتها المتتالية وشح موازانتها والارتفاع المطرد لاسعار الحبوب في العالم ، الذي تجاوز في المدة الاخيرة ال35 ٪، خاصة اذا ما ادركنا ان سعر القمح الصلب ، على سبيل المثال ، قد ارتفع من 300 دولار في جانفي 2021 الى أكثر من 700 دولار الان؟ هل ستزيد هذه الدول ، وخاصة غير النفطية ، من الاقتراض؟ بعض الدول ومنها تونس التي وصلت ديونها الى مستويات غير مسبوقة ، بلغت أكثر من حوالي من 90 ٪ من الناتج الداخلي الخام ، لا يمكنها الاقتراض من المؤسسات الدولية الا بشروط مجحفة ، منها الرفع التدريجي للدعم على المواد الغذائية ، وذلك في مناخ الازمة الخانقة على جل المستويات.

وبين مطرقة ازمة الغذاء العالمي وارتفاع أسعار الحبوب وسندان مطالب المؤسسات المالية المانحة، تقف الحكومات عاجزة عن ايجاد الحلول ، اذ تنحصر بدائلها في مزيد التقوقع على نفسها والتوجس من المعارضة والاضطرابات و الاستعداد الى الحل الأمني في مواجهة الاحتجاجات...
ورغم أن بلدان جنوب المتوسط تظل دوما سلبية في كل الأزمات والحروب ، تتأثر ولا تؤثر ،و هي دائما مصدر تخويف من التطرف والارهاب والهجرة غير النظامية ، فان المتغيرات ستطالها بأشكال متفاوتة ، اذ بينما تستفيد (نسبيا)دول مثل السعودية وقطر والكويت والجزائر من ارتفاع اسعار الطاقة ، فان دولا اخرى ، تعيش اوضاعا اقتصادية صعبة ، مثل لبنان وتونس ومصر ستفاقم من ازمتها لسببين رئيسين : تعويلها على الاستيراد الغذائي والطاقي والازمة الهيكلية التي يعانيها اقتصادها.

• تونس وبوادر الازمة الغذائية:
تعيش تونس منذ مدة على وقع نقص كبير في المواد الغذائية لم تعشه منذ عشرات السنين ، يتمثل في تقلص في المواد الغذائية ، مثل الخبز والسكر والزيت النباتي ، وان يسعى الخطاب الرسمي لربطه بالاحتكار ، الا ان عديد الخبراء الاقتصاديين ينظرون الى عوامل اخرى مهمة مثل ارتفاع الأسعار العالمي في الطاقة والمواد الغذائية وصعوبات التوريد، ارتفاع ستكون له ارتدادات سلبية على ميزانية الدولة التي حددت نسبة الدعم بحوالي 16 ٪ من ميزانية 2022 ، وتوقعت ان يصل سعر برميل النفط الى 75 دولار، ويبقى كذلك تقليص الفجوة الكبيرة في الميزانية رهين اتفاق اقتراض من صندوق النقد الدولي الذي يشترط ، لافقط القيام باصلاحات موجعة ستمس من القدرة الشرائية المهترئة أصلا لدى لطبقات الضعيفة ، بل قبول الأطراف الاجتماعية بهذه الاصلاحات، الشيء الذي يرفضه الاتحاد العام التونسي للشغل ، في غياب الحوار بين الطرفين ، حوار ساده التردد والمكابرة...

• أزمة عالمية سببها «ديمقراطية الواجهة»:
يعتبر عديد المحللين ان غزو أوكرانيا ليس فقط محاولة للتوسع و احياء لاماني امبراطورية قديمة ، بل انها تشي بأمر آخر أشد خطورة ، وهو تمدد «ديمقراطية الواجهة» أي صعود قيادات داخل الديمقراطيات تبني مسارها السياسي على محو الفجوة بين الديمقراطية والديكتاتورية، فهؤلاء القادة الجدد « يسوقون انفسهم على انهم المنقذين لامتهم المهددة من قبل الاشرار الذين يريدون محو تاريخها وحضارتها وخصوصيتها، وفي المقابل يطالبون بولاء شعوبهم المطلق» وليس الرئيس بوتين الا واحدا من هذه الامثلة العديدة ، اذ هناك ايضا فيكتور اوربان في المجر ودونالد ترامب في الولايات المتحدة ونرندا مودي في الهند... القاسم المشترك بينهم؟ «يقدم هؤلاء الحجة ذاتها اينما وجدوا: تدعي النيوليبرالية انها ديمقراطية ، ولكن في الحقيقة هي تمثل الدولة العميقة التي تتامر كي تسلب الشعب حقوقه وتقوّض جنوحه الى السلم ، عبر تدمير القيم الاخلاقية التقليدية والشعور الوطني التاريخي»(ستيفن هانسن ، «ديمقراطيات ما بعد الامبراطورية»)ونجاح هؤلاء في اقناع شعوبهم بذلك، لهو دليل على فشل ادعاة الديمقراطية في تقديم انفسهم كبديل مقنع للشعوب،

في خطابه حول الحرب على اوكرانيا، ظهر الرئيس بايدن متفائلا بمستقبل الديمقراطية والحرية،اذ قالّ» في الصراع بين الديمقراطية والاستبداد وبين السيادة ومحاولات الاخضاع ، ستنتصر الحرية حتما»، طبعا تبدو الحقيقة أكثر تعقيدا و تشاؤما ، خاصة إذا كانت معايير الدول العظمى في استحقاق الحرية مزدوجة وانتقائية وخاضعة للتمييز...فالخطاب التجزيئي الحالي يفسح المجال للمستبدين ، شرقا وغربا،لتسويق خطابهم الشعبوي ، الذي يكشف تناقض دعاة الديمقراطية وانتقائيتهم وترددهم وحساباتهم الضيّقة، ليحرّك مشاعر الانكفاء والعداء لدى الشعوب.
والارجح ان الاهتمام الغربي باوروبا الشرقية وضمان امنها سيقابله مزيد من الخوف والريبة من انعكاسات الحرب على بلدان الجنوب ومنطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا التي تشكو عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي ، اذ بدأت التصريحات السياسية تحذر مما يمكن ان ينجم عن هذه الاوضاع من مزيد الفوضى والحروب الاهلية والهجرة غير نظامية ، مظاهر تظل من اهم اولويات الحكومات الغربية التي ترى في «الاستبداد الشرقي» الحالي ضمانا لحماية امن حدودها... لكن ماذا لو تخلت هذه الدول عن انانيتها ومصالحها الانية الضيّقة وقرأت درس الحرب جيّدا، كما فعلت الانسانية بعد الحرب العالمية الثانية التي انجب دمارها ميثاقا عالميا لحقوق الانسان يساوي بين جميع البشر؟ الايساهم ذلك في ازاحة ديمقراطيات الواجهة والاستبداد والفوضى في العالم ؟ قد يبدو ذلك حلما صعب المنال... لكنه الحلم الذي يبقي جذوة الامل.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115