منبر: 25 جويلية، أي انقلاب وأي دكتاتورية؟

هل أن ما قام به الرئيس قيس سعيّد منذ 25 جويلية تصحيحا لمسار الثورة أم أنه انقلاب على الدستور؟ وما طبيعة النظام

الذي هو بصدد ارسائه؟ أي هل ما زلنا في إطار الديمقراطية المشوهة بالشعبوية أم أننا انزلقنا في نظام دكتاتوري وجب تحديد ملامحه؟ تحاول هذه المقالة الإجابة عن هذه الأسئلة من زوايا نظر العلوم السياسية والفلسفة السياسية وفلسفة القانون (ولا من وجهة نظر الفقه الدستوري). ولا تهدف المقالة لفهم للأسباب القريبة والبعيدة لما حدث منذ 25 جويلية، وهو عمل يستوجب تقييم جدي للعشرية برمتها (2011 - 2020) بعيدا عن السردية الطاغية ال»ما بعدية» التبريرية لقرارات الرئاسية وهي جلها من نوع «لولا لما» (لولا شطط ما قبل لما حدث ما بعد). وهذا العمل الهادئ هو ما قام به مجموعة من البحاثة من جل الاختصاصات في مؤلفين جماعيين «الاغواء الشعبوي»
(La tentation populiste. Les élections de 2019 en Tunisie)
و«التحول المعرقل» (La transition bloquée, Tunis, Diwen Editions, 2020).

• 25 جويلية، الانقلاب الذاتي
اختلف الجميع في ما قام به الرئيس قيس سعيّد منذ 25 جويلية : هل هو انقلاب (coup d’Etat) او تصحيح لمسار الثورة؟ وتساءل أفصل رجال القانون بصفة أدق (نظرا أن «تصحيح المسار» ليس بمفهوم قانوني) عن مدى احترام اللجوء إلى الفصل 80 الى الشروط الجوهرية والشكلية المنصوص عليها بالدستور. وهو نقاش ثري بالكاد. وإذا كان الانقلاب لا يحتاج ضرورة إلى إراقة الدماء واستعمال العنف، الا أن مفهوم الانقلاب مرتبط في الذهنية العامة بتدخل الجيش الذي ينقلب على السلطة القائمة ويزيح الماسكين بالسلطة بطرق غير قانونية وعادة ما تكون عنيفة. وهو لم يحدث في 25. لذلك تجنبا للجدل فضّلت الأغلبية استعمال كلمة «عمل قوة» (coup de force). ولكن الكلمة تفتقر للصرامة العلمية حتى وان تعني استعمال القوة المادية لفرض الإرادة أو اتزاع شيء ما. في المقابل هنالك مفهوم في العلوم السياسة يشخص ما حدث هو «الانقلاب الذاتي». وهي ترجمة عربية للكلمة الاسبانية autogolpe (مركبة من auto نفس أو ذات ومن golpe انقلاب) أو انقلاب دولة ذاتي (autogolpe de Estado ). ووردت أولا بالإسبانية لأن أمريكيا اللاتينية هي مخبر للانقلابات بكل أنواعها. وترجمت للإنجليزية ب Self-coup وبالفرنسية d’Etat auto-coup. ولقد دخلت تونس منذ 25 جويلية في قائمة

الانقلاب الذاتي في مدونة ويكيباديا (Wikipédia) في نسختيها العربية والانقليزية (ولا توجد قائمة مرادفة في النسخة الفرنسية لويكيبيديا). تبدوا الكلمة متهافتة. فكيف يمكن للمرء أن ينقلب على ذاته؟ على خلاف للانقلاب العسكري، يقوم بالانقلاب الذاتي زعيم أو رئيسا يصل الى دفة الحكم بطريقة ديمقراطية. إذ يستحوذ على كل الصلاحيات. فيعلن حالة الاستثناء ويحل البرلمان أو يعلق نشاطه، ويدجن المحاكم ويحد من الحريات ويسن دستورا جديدا. وتحدد «موسوعة العلوم السياسة ) Encyclopedia of Political Science, 2011 ) المفهوم حرفيا كما يلي: « يحدث انقلاب ذاتي عندما يتولى الحكم رئيسيا قائما عادة بمساعدة الجيش، ويوقف عمل السلطة التشريعية والسلط الحاكمة الأخرى، ليحكم بدون معارضة. وهو يختلف عن الانقلاب على الدولة golpe de estato (coup d’Etat) الذي عادة ما يحدث بإسقاط الرئيس من طرف الجيش الذي يستولي على السلطة لصالحه».
تاريخ أمريكا اللاتينية حافل بالانقلابات الذاتية. ولكن أول من استعمل المفهوم هو ادي كوفمان) Edy Kaufman) في دراسته « الأرغواي في التحول، من النظام المدني الى الحكم العسكري»، 1971). كان الأوروغواي في حكم الرئيس الشعبوي جواين بردياري (Juan María Bordaberry). أراد بعد

انتخابه الاستئثار بالسلطة بمساعدة الجيش الذي انقلب عليه سنة 1976. ولاحقته العدالة الى حدود 2010 سنة محاكمته بـ 30 سنة سجن من أجل «الانقلاب على الدستور». وتذكر الدراسات المختصة حالات أخرى. الأولى لألبارت فوجيموري (Alberto Fujimori) في البيرو. هو من أصل يباني ترشح كمستقل ليفوز سنة 1990 بالرئاسية البيروفية بأغلبية ساحقة (67 ٪). فيحل البرلمان (1992) وأعلن حالة الطواري ليكم بالمراسيم. يصدر دستورا جديدا بعد استفتاء (1993). ولكن حبل الشعبوية قصير. فتحول الى دكتاتور. فأطرد من الحكم وحوكم سنة 2010 بـ25 سنة سجنا. والحالة الثانية تتمثل في جورج سرانو الياس (Jorge Serrano Elias ) رئيس الغواتيمالةGuatemala ) ) والذي انتخب سنة 1991 وقام بنفس الأعمال (تعليق الدستور، حل البرلمان، الحد من الحريات، مسودة دستور). أطرد سنتان بعد انتخابه فلاذ بالفرار الى دولة بناما (1993).
وهكذا يتضح أن الانقلاب الذاتي حالة مؤقتة تنتهي بنهاية المدة الرئاسية القانونية، أو بطرد الرئيس من طرف المعارضة أو بانقلاب عسكري.

• من الشعبوية الى الدكتاتورية
لا تشكل الشعبوية نظاما سياسيا بأتم معنى الكلمة كالديمقراطية والتسلطية. ولا هي أيديولوجيا «صلبة» ومتناسقة وتصور للعالم كالاشتراكية أو الليبرالية. هي سياسة (وليست نظاما) وايديولوجيا «هزيلة» نشأت في صلب الديمقراطية. ونحيل في هذا الصدد الى المؤلف الجماعي «الاغراء الشعبوي» الذي عرف خصائصها بإطناب ودرس خصوصيتها في تونس.

ما يهمنا هنا هو أن الشعبوية حالة وسطية بين الديمقراطية والدكتاتورية. تنشأ الشعبوية في داخل الديمقراطية لتنافسها في تمثيل الشعب. وذلك بدفع جزء من الشعب ضد البعض. والتكلم باسم شعب طاهر مسلوب الإرادة من طرف نخبة فاسدة. وتلعب الشعبوية مفهوم الشعب جسد اجتماعي ضد الشعب مواطنين ذوي حقوق ؛ كما تلعب ورقة الديمقراطية المباشرة. تلغي المؤسسات الوسيطة غير المنتخبة كالأحزاب و المجالس الدستورية وتختار شخصا ملهما يجسد الإرادة الشعبية ويحل مشكلة التمثيل المزيف. وهكذا تقترب شيئا فشيئا من الدكتاتورية. فالشعبوية هي بين بين، بين الديمقراطية المشوهة والحكم الفردي. تقول نادية اربناطي في كتابها «أنا الشعب. كيف تبدل الشعبوية الديمقراطية» (Nadia Urbinati, Me the People: How Populism Transforms Democracy, Harvard University Press. 2019) ما يلي: أن الشعبوية «تبدل (في الواقع تشوه) الديمقراطية التمثيلية» لبناء شعبها الخاص وحكومتها الخاصة. ما هو الحد الفاصل بين الديمقراطية والدكتاتورية؟ يصعب الفصل بينهما. يقول فريديريكو فنشلستاين (Federico Finchelstein ) في «الشعبوية والدكتاتورية « وهو فصل في مؤلف جماعي (Federico Finchelstein, Populism and Dictatorship, 2016,) أنه في اللحظة التي يتجاهل الزعيم الشعبوي الإجراءات الديمقراطية، يصبح دكتاتورا. فهل نتجه في تونس الى نفس الانزلاق.

• سعيّد من منظور «كارل شميت»
أسست منظومة 25 جويلية الى دكتاتورية يصعب على المرء تحديدها لأنها لم تكتمل بعد. هذا فضلا على تعدد معاني الدكتاتورية. فالكلمة دخيلة من أصل لاتيني تعني أولا وبالذات الأمر والاملاء (dictare) والدكتاتور هو الذي يفرض (dictatore). وهي لا ترادف ضرورة ما يسمى عند اليونان الاستبداد (tyrannie أو despotisme) وهو حكم الفرد المطلق عبر الخوف. وقد ترجم الفلاسفة العرب القدامى المفهوم اليوناني بـ«التغلّب» قبل أن تدخل الكلمة في القاموس العربي في العصر الحديث، تحديدا في القرن التاسع عشر بعد ترجمة كتاب فيتوريو ألفياري «في الاستبداد»( 1790 De la tyrannie ). ونرى ان مفهوم الاستبداد (باستثناء الاستبداد بالرأي) كحكم الخوف لا ينطبق على دكتاتورية قيس سعيّد الى حد الآن لغياب البطش. كما لا ينطبق عليها ما يعرف في العلوم السياسية ب»النظام التسلطي» (système autoritaire) لأنها لم تستقر بعد كنظام معقّد ومؤسس. ولقد حدده خوان لينس في كتابه « النظم الكليانية والتسلطية» (2000 Juan Linz, Totalitarian and Authoritarian regimes) كنظام يتميز باحتكار السلطة بدون معارضة أو معارضة هزيلة، في اطار تعددية محدودة و صورية. ولا يعتمد على أيديولوجية شمولية بل على عقلية تسلطية سائدة في المجتمع. وهذا مآله اذا واصل على هذا النسق . الآن يحكم الرئيس سعيّد وحده ولكنه منتخب وهو دكتاتور بالاعتماد على الفصل 80 من الدستور. لذلك يبدو لنا أن مفهوم الدكتاتورية للمفكر الألماني كارل شميت ( Carl Schmitt) أقرب إلى أداء المعنى. كتب شميت كتاب «الدكتاتورية» (1921) زمن الجدل حول الفصل 48 من دستور جمهورية فايمار(Weimar ((1919-1935) حول التدابير الاستثنائية في حالة خطر داهم، والذي وقع الالتجاء إليه في العديد من المرات من طرف رئيس الجمهورية قبل أن يستغله هتلر للتخلص من النظام البرلماني. الدكتاتورية لدى شميت ليست مفهوما تحقيريا. ويحددها أمّا كـ«استثناء» أي اختراق لقواعد الديمقراطية طورا، أو للحقوق الأساسية طورا آخرا، او لمبدا الفصل بين السلط (على معنى منتسكيو). وهذا المفهوم عام ومتداول. وما يحدد الدكتاتورية كحكم بدون وساطة ولا أجسام وسيطة. يبدو المعنى الثاني غامضا ولكنه يحمل كنه الدكتاتورية من زاوية نظر شميت. فغياب الوساطة تسمح له بالتمييز بين ما يسميه «الدكتاتورية المنتدبة» ( dictature de commisssion ) والدكتاتورية السيــــــادية (dictature souveraine ). وهذا بيت القصيد. فنحن لنا في الواقع ثلاث مفاهيم : الدكتاتورية كاحتكار فردي للسلطة ، الدكتاتورية المفوضة و الدكتاتورية السيّدة. وعلينا أن نركز لكي نتعرف على أي نوع من الدكتاتورية تنتسب دكتاتورية سعيّد.

فالدكتاتورية المنتدبة والمفوضة (أو الموكلة أو الوسيطة) هي دكتاتورية نظرا إلى أنها تفوض كل الصلاحيات لشخص ما، باعتباره وكيلا. وهذا ما يحدث في الحالات الاستثنائية، الطوارئ أو الأحكام العرفية. وكان الفصل 48 من الدستور الألماني مربط الفرس. فهو يسمح لرئيس الجمهورية المنتخب بصفة مباشرة من الشعب في حالة خطر يمس بالأمن والاستقرار اتخاذ التدابير اللازمة للحد من الحريات الأساسية (المذكورة حصريا) ويمكن للبرلمان الغاء القرارات الرئاسية. كل الدساتير الحديثة تتضمن فصلا مماثلا بدءا بدستور الولايات المتحدة (الفصل الأول، فقرة 9). وهذه الدكتاتورية هي التي سيسميها لاحقا روسيتار ب»الدكتاتورية الدستورية» (1948 Clinton L.Rossiter, Constitutional Dictatorship.). ويضع لها تسع شروط نختزلها في ما يلي: الدكتاتورية الموكّلة تفوض في حالة استثنائية (أ) اتخاذ تدابير طارئة (ب) لمدة ظرفية (ج) عبر وكالة خارجة عن ارادته (د) هدفها المحافظة على الدستور ومبادئه (ه). ترجع الدكتاتورية المكلفة الى النموذج الروماني. لم يكن للجمهورية في روما ما قبل المسيحية دستورا بل مجموعة قواعد تدير الحياة السياسية منها مؤسسة الدكتاتور (التي ندين لها لغوبا بالكلمة والتي كما رئينا تختلف عن المفهوم اليوناني للاستبداد). وهو قائد يوكل له من طرف مجلس الشيوخ في حالة حرب أو مجابهة أزمة كل الصلاحيات باستثناء تحديد الميزانية. وذلك لمدة لا تتجاوز ست أشهر يرجع بعدها الحكم لمجلس الشيوخ ويصبح مواطنا عاديا يتمتع بالحصانة مدى الحياة. ولقد كلفت روما عشرات بمهمة الدكتاتوري. والبعض منهم لم يرجع الحكم ليصبح «دكتاتورا أبديا» (مثل سيلا Scylla وسيزار César). وهذ الذي يهدد أي تطويع اعتباطي للدكتاتورية المنتدبة.

في المقابل، تكون الدكتاتورية السيادية متحررة من أي قيود أو شروط. ولهذا هي دكتاتورية. وهي أيضا سلطة تأسيسية مطلقة الاختصاص. يقول شميت: «لا تحتج بدستور قائم الذات، بل بدستور يقع وضعه» ولا تستمد شرعيتها من سلطة قائمة بل تـؤسس لسلطة جديدة. وهذا هو حال المجلس التأسيسي وما يحدث أيضا أثناء الثورات. فهي خارجة عن القانون ولكنها تشرع لفكرة القانون. فالدكتاتورية السيادية هي دكتاتورية من زاوية السيادة (لا من زاوية الاطلاق). ومن يكون صاحب السيادة الأصلية؟ جواب شميت: الرّب، الملك، الإمبراطور، الأمير، الشعب، الدولة ذاتها. لا ذكر للدكتاتور المنتدب. لماذا ؟ لأنه مفوّض ومقيّد.

• سعيّد والحالة الاستثنائية
وفي هذ الاطار تتنزل جملة عجيبة لشميت نجدها في كتابه «ثيولوجيا سياسية» ((Carl Schmitt, Théologie politique, 1922 احتج بها بعضهم للجوء للفصل 80 تقول: «صاحب السيادة هو الذي يحدّد الحالة الاستثنائية» (« Est souverain celui qui décide de la situation exceptionnelle»). ولم يكن شميت يفكر في تحديد الحالة الاستثنائية بل مفهوم السيادة بدليل أنه أضاف في الجملة الموالية: «هذا التحديد هو الوحيد الذي يمكن أن ينطبق على السيادة كمفهوم في أقصى حدوده». وان كان صاحب السيادة هو الذي يحدد «الحالة الاستثنائية»، الا أنها لا تعني ما تسميه الدساتير بالحالة الاستثنائية على غرار الفصل 80. بل تعني الخروج عن السبر العادي للحياة العادية والمهم هو أن صاحب السيادة الأصلية يقرر ما هو عادي وما هو استثنائي على حد السواء. و»يقرر اذا ما وجب تجميد الدستور جزئيا أو بالكامل». و»التجميد يعني الغاء أو فسخ» (لا ما يفهمه الفقهاء من الكلمة)
«Suspendre signifie abroger et annuler». ولا يتمتع بالصلوحية من منظور شميت الا صاحب السيادة الأصلي.

هل يمكن لسعيّد اللجوء الى «حالة الضرورة» من باب الضرورات تبيح المحظورات؟. لا. لأن الفصل 48 من دستور ألمانيا (مرادف ل80) يقنن الحالة الاستثنائية كحالة دستورية. ولا أنه ضروري أن تناقش هل أن الفصل 48 (80 تونسي) يسوغ إمكانية تبرير «الحق في الانقلاب»
(« Il n’est pas non plus nécessaire de discuter […] s’il existait par conséquent une sorte de droit au coup d’Etat. Un tel droit […] ne résulte en aucune manière de l’article 48»).
هل يمكن لسعيّد التمتع بصلاحيات الدكتاتورية السيادية تسمح له بوضع دستورا جديدا؟ لا. لأنه يستمد صلاحياته من الدستور. وليست أصلية. وليست سيادية كما هو الشأن بالنسبة للملك (الذي له صالحية منح الدستور) أو الشعب عبر المجلس التأسيسي. فلا مناص من الخيار حسب شميت لأن الدستور والدكتاتورية السيادية «يتنافيان» حسب قوله. «امّا الدستور أو السيادة: الواحد يقصي الأخــر» («Ou bien dictature souveraine, ou bien Constitution: l’une exclut l’autre »).

في المقابل ينص الأمر الرئاسي عدد 117على «تغليب» مبدإ السيادة على الدستور في حالة تناقض بينهما. وهذا تهافت من منظور شميت. لأنه لا يمكن تغليب السيادة (الغير مقيّدة بطبعها) على الدستور من داخل الدستور المنظم لسلط قائمة لا تأسيسية.
وفي المحصلة، يكمن كنه الدكتاتورية السيادية في تحررها من القانون المعمول به لأنها مطلقة الإرادة؛ في حين أنه من واجب الدكتاتور المنتدب الالتزام بالتفويض والا خرج من صنف الدكتاتور المنتدب ليصبح مستبدا. ولكن بأي معنى هو مستبد؟ بمعنى منتسكيو. هذا ما قاله شميت . ما لا يعرفه من يقرأ لمنتسكيو سيعلم أن له ثلاث تقسيمات للنظم السياسية. الأول من منظار محرك الحكم يميز بين ثلاث نظم: الجمهورية (يحركها الخضوع للقانون) والملكية (الخضوع للنسب) والاستبداد (الحكم عبر الخوف). ولم نصل بعد الى هذا الأخير. التقسيم الثاني من منظار فن السياسة بين نظم «معتدلة» تغلب التوسط والمفاوضة والتأقلم والأخذ والعطاء، ونظم «غير معتدلة» تغلب الغطرسة والاستعلاء. وسياسة سعيّد غير معتدلة لرفضه التفاوض حتى مع الأصدقاء. والتقسيم الثالث (الوحيد الذي يستشهد به فقهاء القانون) من منظار الحرية، يميز بين النظم التي تضمن الحرية عبر التفريق بين السلطات الثلاث وبين النظم التي تركزها في يد واحدة . وهو ما فعل قيس سعيّد باستئثاره بكل السلط . والفكرة هي أن الحرية لا توجد الا في النظم التي تميز بين السلط لسد الذريعة «لأن كل انسان ذي سلطان يميل الى إساءة استعماله، وهو يسترسل في ذلك حتى يلاقي حدودا»، لذلك وجب الحد من السلطة بالسلطة. بالمناسبة يتكلم مونتسكـيو على «سلطة» (pouvoir) و «قوة» (puissance ) ولا يستعمل كلمة autorité الا مرة واحدة في غير السياق المطلوب (متحدثا عن السلطة الملكية) في ما يقارب 500 ص من «روح الشرائع». وهذا الدليل: «يوجد في كل دولة ثلاثة أنواع من سلط؛ وهي القوة التشريعية، وقوة تنفيذ الأمور المتعلقة بقانون الأمم، وقوة تنفيذ الأمور الخاضعة للقانون المدني»

(«Il y a dans chaque Etat trois sortes de pouvoirs; la puissance législative, la puissance exécutrice des choses qui dépendent du droit des gens, et la puissance exécutrice de celles qui dépendent du droit civil », Montesquieu, De l’esprit des lois, L.XI, chap.6 ).

ويقول أنه «لا تكون الحرية مطلقة» اذا اجتمعت السلطات الثلاث في شخص واحد او هيئة واحدة. والحرية ليست الديمقراطية بقلم مونتاسكيو. ونقرأ جملة في كتاب شميت «البرلمانية والديمقراطية» لا يفهما الا من قرأ شميت: «الدكتاتورية ليست عكس الديمقراطية، ولكن أساسا الغاء التمييز بين السلط».
(«La dictature n’est pas l’inverse de la démocratie, mais essentiellement la suppression de la séparation des pouvoirs »(Carl Schmitt, Parlementarisme et démocratie, Le Seuil, 1988)
فسعيّد دكتاتور منتدب تجاوز ما أقرّه التفويض، وهو مستبد بمعنيي حكم «غير معتدل» وحكم يخلّ بمبدإ الفصل بين السلط. يبقى معنى ثالث معلّق: الحكم اعتمادا على الرّعب.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115