منبر: آراء بشأن حلّ المجلس الأعلى للقضاء

بقلم: حاتم قطران
أستاذ متميّز بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية

1. « Nous avons un roi, sauf l’hérédité ». هذا التعبير مستعار من لويس بلان Louis Blanc، صحفي ومؤرخ فرنسي، عضو في الحكومة المؤقتة في عام 1848 ونائب ، وهو تعبير يلخص صلاحيات الرئيس في ظل الجمهورية الثالثة في فرنسا، مماثلة لتلك التي يتمتّع بها الملك في ما قبل الحمهورية. وكم كنا نودّ تجنب قول الشيء نفسه فيما يتعلّق بالوضع في تونس مما حدا بنا إلى سحب مقال سابق كنا أعددناه تعليقا على الأمر الرئاسي رقم 117 لسنة 2021 المؤرخ 22 سبتمبر 2021 يتعلّق بتدابير استثنائية، الذي يديم وضعا بدأ في 25 جويلية، يؤكد فيه الرئيس، اعتمادا على الدستور، تعليق تطبيق القواعد التي تحكم عادة تنظيم السلطات العامة وعملها. اعتمادا على الفصل 80 من الدستور، وجملة الأوامر الرئاسية الصادرة، بما فيها الأمر الرئاسي عدد 69 لسنة 2021 المؤرخ في 26 جويلية 2021 المتعلق بإعفاء رئيس الحكومة وأعضاء الحكومة، والأمر الرئاسي عدد 80 لسنة 2021 المؤرخ في 29 جويلية 2021 المتعلق بتعليق اختصاصات مجلس نواب الشعب، والأمر الرئاسي عدد 109 لسنة 2021 المؤرخ في 24 أوت 2021 المتعلق بالتمديد في التدابير الاستثنائية الخاصة بتعليق اختصاصات مجلس نواب الشعب.

2. وها هو رئيس الجمهورية يعلن من جديد، ليلة 5 فيفري من وزارة الداخلية عن حلّ المجلس الأعلى للقضاء! ويقال إن القرار يستند إلى اتهامات بالفساد لدى عدد كبير من القضاة وبعجز المجلس الأعلى للقضاء بالنظر إلى تسخيره لخدمة أطراف سياسية معيّنة بعيدا عن الصالح العام مع حدا برئيس الجمهورية إلى دعوة أنصاره إلى التظاهر ضده تحت شعار: «الشعب يريد تطهير القضاء».
تحول الفصل 80 من الدستور بشأن الحالة الاستثنائية والخطر الداهم إلى نموذج طبيعي لممارسة الحكم!

3. «حالة الاستثناء لم تعد استثنائية» (« L’état d’exception n’a plus rien d’exceptionnel ») ! هكذا تم اختيار عنون مقال سابق كنا نشرناه في كل من جريدة المغرب بالعربية وجريدة ليدرز بالفرنسية، في 25 أوت 2021. فماذا بعد ذلك أن نقول عن هذا لإجراء الأخير الخاص بحل المجلس الأعلى للقضاء إذا لم يكن ذلك في تجاوز صارخ للطبيعة «الاستثنائية» للتدابير المستندة إلى الفصل 80 من الدستور والذي تحوّل في تلك الحالة إلى نموذج طبيعي ودائم لممارسة الحكم وجمع السلطات في يد رئيس الجمهورية!

4. والملاحظة خطيرة وتذكر بأن مصطلح «الحالة الاستثنائية» الناتجة عن «الخطر الداهم» يمكن أن يستخدم في الواقع بطريقتين مختلفتين أو معنيين متعارضين تماما:
- يتمثّل المعنى الأوّل للحالة الاستثنائية في أنها لحظة عابرة بطبيعتها، مؤقتة لمواجهة خطر داهم معين يتم خلاله تجاوز قواعد القانون المنصوص عليها لفترات الهدوء أو تعليقها أو التخلص منها لمواجهة ذلك الخطر؛
- و يتمثّل المعنى الثاني للحالة الاستثنائية في إجراء تعديل عميق في بعض النظم القانونية من أجل التصدي لبعض المخاطر الدائمة مثل الإرهاب، لأن القواعد المنفذة لمكافحة هذا الخطر غير مناسبة لحقيقة الخطر الدّاهم نتيجة خلل في النظام السياسي والقانوني السائد.

5. والواقع أنه لا يمكن فهم «الحالة الاستثنائية» الناتجة عن «الخطر الداهم»، في مصطلحها القانوني والمنطقي، إلا بالمعنى الأول، وهي الحالة الوحيدة التي يوجد فيها استثناء حقيقي لما هو سائد في وقت الهدوء وللقانون الساري في الحالة «العادية». أما القول، كما تم التنصيص على ذلك صراحة في أحد مستندات الأمر 117، بأنه تعطلت دواليب الدولة وصار الخطر لا داهما بل واقعا وخاصة داخل مجلس نواب الشعب واليوم داخل المجلس الأعلى للقضاء إنما يؤدي إلى ربط الحالة الاستثنائية بالنظام الدستوري نفسه، في حين كنا لفتنا الانتباه، منذ سنة وفي مقال سابق بعنوان «نحو حوكمة جديدة لإنقاذ الجمهورية» («Vers une nouvelle gouvernance pour sauver la République») ، نشر في جريدة Leaders في 11 فيفري 2021، بشأن التناقضات التي لا يمكن التغلب عليها في اللجوء إلى الفصل 80 من الدستور، والتي طرحها بشكل كاف أغلبية أساتذة القانون الدستوري من ذوي الرأي المأذون به، ولاسيما أن التدابير الاستثنائية التي تفرضها حالة الطوارئ، بموجب الشروط الصريحة للفصل 80 من الدستور، «يجب أن تهدف إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال»!

6. وماذا عن هذه الحجة التي كثيرا ما يطرحها رئيس الجمهورية، والتي بموجبها لا تكون العدالة سلطة مستقلة مماثلة للسلطات التشريعية والتنفيذية، بل هي مرفق عام يستوي مع باقي المرافق العامة كالنقل والصحة التعليم؟ وقد تجد هذه الحجة بعض التأييد، لأن إقامة العدل على النحو السليم ليست مسؤولية القضاة وحدهم، بل هي في الواقع إحدى ركائز التنظيم السياسي والدستوري للبلد برمته إلى درجة أنها تحتل عادة مكانا بارزا، في النظم الديمقراطية، على مستوى البرامج الانتخابية للمرشحين للانتخابات الرئاسية والتشريعية التي يحاسبون عليها أمام ناخبيهم في صورة إخلال سير القضاء، في حين أن القضاة غير منتخبين ولا تتمّ مؤاخذتهم علنا عن فشل منظومة القضاء وعدم تحقيق الأهداف التي وضعت من أجلها؟

7. وبالتالي، لا يمكن للدولة والسلطات المنتخبة من الشعب (رئيس الجمهورية والحكومة والنواب) أن يقفوا موقف اللامبالاة إزاء تجاوزات العدالة والقضاة، لا سيما عندما يكون هؤلاء قد أذنوا لأنفسهم، في مناسبات عديدة، بممارسة الإضراب، مما أدى إلى تجميد سير العدالة على نحو أضرّ بالمتقاضين، في انتهاك تام للقواعد التي تحدد وضع القضاة، بما في ذلك الفصل 18، من القانون عدد 29 لسنة 1967 مؤرخ في 14 جويلية 1967 يتعلق بنظام القضاة والمجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للقضاة، مثلما تم تنقيحه بمقتضى القانون الأساسي عدد 79 لسنة 1985 المؤرخ في 11 أوت 1985، والذي ينص صراحة على أنه: «يحجّر تحجيرا باتّا على أعضاء السّلك القضائي الإضراب وكل عمل جماعي مدبّر من شأنه إدخال اضطراب على سير العمل بالمحاكم أو عرقلته أو تعطيله».

8. كيف، وعلى وجه التحديد، وصلت جمعية القضاة التونسيين إلى هذا الحد المناقض مع واجب التحفظ المنصوص عليه بالفصل 24 من نفس القانون الأساسي للقضاة المرتبط هو الآخر وثيق الارتباط باستقلال القضاء إزاء السلطة التنفيذية والذي يفرض «على القاضي أن يتجنّب كل عمل أو سلوك من شأنه المس بشرف المهنة»، بما يشمل بالنسبة لعامة القضاة، بما في ذلك ممثليهم في النقابة أو الجمعية المهنية، التعبير عن آراءهم ومواقفهم بطريقة متزنة، وعدم الإدلاء بتصريحات متحمّسة أو مبالغة، من شأنها أن تقوّض الثقة التي يجب أن تمليها وظيفتهم السامية لدى عموم المتقاضين؟
كيف وعلاوة على كل ذلك، وصل الأمر بالجمعية التونسية للقضاة إلى الدعوة مرّة أخرى إلى إضراب بيومين وإلى تنظيم وقفات احتجاجية بالزيّ القضائي أمام المجلس الأعلى للقضاء يوم 10 فيفري، وذلك في تعارض مع واجب التحلّي بالرصانة المطلوبة والاحترام اللازم لمؤسسات الدولة ورموزها التي يتقيّد بها القضاة عادة والواردة في القسم الذي يؤدّونه قبل مباشرة وظائفهم، والذي يشكّل أي إخلال به مخالفة تأديبية؟

9. ما هو السبيل لحل جميع هذه الصعوبات التي من المحتمل أن تقوض ثقة المواطنين في أحد أركان الدولة الديمقراطية القائمة على الحقوق والحريات في كنف احترام القانون والمؤسسات؟ هل يمكن عضّ النظر على كل ما حدث وأن تتواصل مثل هذه الاحتجاجات والإضرابات، الدائرة أمام أنظار المواطنين، وبالنظر لتوازن القوى، خارج أي محاسبة من شأنها وضع حدّ لمثل هذه التصرّفات أو حتى التفكير في اتخاذ أي من الإجراءات التأديبية أو الخصومات عن الرواتب المقابلة لأيام من التوقف عن العمل؟
وجوب إنقاذ الجمهورية مع الحفاظ على استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية!

10. هل يتسنى قبول هذا الوضع وأن يتواصل تفكيك الدولة وقيم الجمهورية من جانب أولئك الذين هم الضامنون لتطبيق القانون؟ بالتأكيد لا! وكان من الممكن أن تكون المبادرة الرئاسية أساس طفرة جمهورية من أجل إنقاذ البلاد من حالة الانحلال التي غرقت فيه، واستعادة ركائز الدولة وإعداد رؤية لسياسة جمهورية تقاوم الفوضى!
وفي مقال سابق بعنوان: «المبادرة الرئاسية بتاريخ 25 جويلية 2021: نحو حوكمة جديدة لإنقاذ الجمهورية» («L’initiative présidentielle du 25 juillet : Vers une nouvelle gouvernance pour sauver la République») نشر على جريدة Leaders بتاريخ 30 جويلية 2021، وجدت مبادرة رئيس الجمهورية لمساء 25 جويلية 2021، في رأينا، أساسا دستوريا متينا، وهو المأخوذ من الفصل 72 من الدستور ، «بحيث يكون رئيس الجمهورية ، وهو رئيس الدولة، ورمز وحدتها، يضمن استقلالها واستمراريتها، على بينة من مدى الصعوبة التي خلقها هذا الدستور نفسه ، فيقرر إنقاذ جوهر الجمهورية والنص التأسيسي لها».

وفي نفس المقال، أوردنا ما يلي: «قد يرى البعض في ذلك انقلابا! ومع ذلك ، ليس هذا هو الحال! وهذا لن يكون افتكاكا للسلطة بطريقة غير قانونية من جانب شخص يحتلّ أعلى السلطة، وعلاوة على ذلك، عندما ينتخب رئيس الجمهورية بأكثر من 70 في المائة من أصوات الناخبين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، يمكن أن يميل إلى الاستجابة للواجب التاريخي والحتمي المرتبط بمنصبه الرفيع وأن يتخذ طرقا استثنائية، بل وخارجة عن الدستور، لإنقاذ جوهر الجمهورية ودستورها».

11. وبعد ستة أشهر كاملة من مقالنا المذكور أعلاه، ندرك المخاطر أن نكون قد جانبنا الصّواب كغيرنا من المتفائلين من المتابعين! - والخطأ الذي يمكن أن نكون وقعنا فيه، لا علاقة له بمحاولتنا، خارج المناقشات الدستورية التقليدية، إيجاد أساس مشروع لمبادرة رئيس الجمهورية، باللجوء إلى نظرية مستعارة من القانون المدني والقانون الجنائي، وهي نظرية حالة الضرورة، فالضرورات تبيح المحظورات، كما يقال لتلخيص هذه النظرية، عندما يوضع الشخص أمام استحالة الاختيار، فإنه ينحني للضرورة: فهو لا يقرر أي شيء سوى الانصياع. ويكون المعيار الذي يثير الحاجة الملحة أو الضرورة الحتمية، أنه لا يوجد بديل بين التصرف بطريقة أو بأخرى وبين التصرف وعدم التصرف.

18. والسؤال الذي عليه المدار هو: هل يمكننا أن نواصل، بحسن نية، السعي إلى الحصول على الشرعية الدستورية للتدابير المتخذة منذ مساء يوم 25 جويلية 2021، التي تم إضفاءها طابعا رسميا فريدا بمقتضى الأمر 117، والتي تجددت ليلة 5 فيفري 2022 بحلّ المجلس الأعلى للقضاء، رغم أن الفصل 80 من الدستور، الذي طرح كأساس دستوري، يحظر رسميا اتخاذ مثل هذه التدابير؟
كيف يمكن حل هذا العدد الكبير من التناقضات ومنع، قبل كل شيء، منع تحويل النشوة الشعبية إلى خيبة أمل لشعب بأكمله قد يجد نفسه غارقا في بدايات ديكتاتورية جديدة؟
العودة إلى الذكريات السيئة لأنظمة الحكم الشخصية؟

19. بحلّ المجلس الأعلى للقضاء تحت ذريعة مكافحة الفساد، فإن رئيس الجمهورية لا يساهم في ظلّ وبمقتضى التدابير الاستثنائية في إطلاق مبادرة منهجية تمكّن من إصلاح القضاء بقدر ما يديم في الواقع، في خرث تام للتوجهات والمبادئ المنصوص عليها في دستور 27 جانفي 2014، نفس التنظيم الجديد للسلطات وتركيزها جميعها في يد رئيس السلطة التنفيذية!

وهذا الخيار هو خيار شخصي تماما، اتخذه رجل واحد دون التشاور مع الجهات السياسية الفاعلة والمنظمات الوطنية وجمعيات المجتمع المدني، ولن يؤدّي مع الأسف إلاّ لمزيد تقسيم الطبقة السياسية وجميع التونسيين، ما يعيد الذكريات السيئة للأنظمة الشخصية التي حكمت تونس. وبالرّغم من تأييد بعض الشخصيات الوطنية المرموقة – على غرار عيد الهيئة الوطنية للمحامين – لهذا الإجراء من خلال الدعوة إلى إعادة النظر في تشكيل المجلس الأعلى للقضاء، فإن الاستناد إلى بعض التجارب المقارنة على غرار فرنسا على سبيل المثال، لا يجب أن ينسينا التحويرات الجذرية بمقتضى الإصلاح الذي أدخله القانون الدستوري في 23 تموز/يوليه 2008 والذي وضع حدا لرئاسة المجلس الأعلى للقضاء من قبل رئيس الجمهورية، مع توسيع صلاحياته الاستشارية في تعيين المدّعين العامين، والسماح للمتقاضين برفع دعاوى تأديبية مباشرة إلى المجلس.
ولئن ينص الفصل 64 من الدستور الفرنسي على أن «رئيس الجمهورية هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية»، فإن مهمته تنتهي عند هذا الحدّ ولم يعد له أي سيطرة على عمل المجلس، الذي يرأسه الآن قضاة (الرئيس الأول لمحكمة التعقيب بالنسبة للتشكيل الأول الخاص بالقضاة الجالسين، والمدعي العام لدى محكمة التعقيب بالنسبة للتشكيل الثاني التعقيب بالنسبة للتشكيل بقضاة الا{عاء). ولم يعد وزير العدل نائبا للرئيس، بل يجوز له المشاركة في دورات التشكيلين، إلا في المسائل التأديبية...
استعادة الشرعية الدستورية من خلال حماية الحقوق والحريات وتأمين استقلال القضاء!

20. وتتطلب استعادة الشرعية الدستورية، أولا وقبل كل شيء، إعادة النظر في ممارسات انتهاك الحريات الفردية والقيود المفروضة على الحقوق الأساسية، منذ يوم 25 جويلية 2021، ولا سيما تلك المتعلقة بالاستخدام المفرط للإقامة الجبرية والقيود المفروضة على سفر عدد كبير من المواطنين، بدون سند قانوني واضح، وكذلك محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية والحال أن من النقاط الإيجابية في الأمر 117 أنه حرص على الأقل على التذكير، بموجب الفصل 20 منه، بما يلي: « يتواصل العمل بتوطئة الدستور وبالبابين الأول والثاني منه، وبجميع الأحكام الدستورية التي لا تتعارض مع أحكام هذا الأمر الرئاسي». غير أن هذا الفصل يثير في حد ذاته قدرا من الانشغال لمخالفته مبدأ علوية الدستور على جميع النصوص الأخرى، في حين يبدو أن الأمر 117 يعلّق تطبيق أحكام توطئة الدستور وبالبابين الأول والثاني منه على مدى توافقها مع أحكامه !
21. ويجدر التذكير أيضا بأن الفصل 49 من الباب الثاني من الدستور بشأن الحقوق والحريات يحظر فرض قيود تنال من جوهرها، مع تحديد أنه لا توضع هذه الضوابط إلّا لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية وبهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العام، أو الدفاع الوطني، أو الصحة العامة، أو الآداب العامة، وذلك مع احترام التناسب بين هذه الضوابط وموجباتها، مع التنصيص صراحة على أنه «تتكفّل الهيئات القضائية بـحماية الحقوق والحريات من أي انتهاك»، بما يقيم الدّليل بصفة قاطعة بأن الباب الثاني من الدستور يرتبط ارتباطا وثيقا بالباب الخامس المتعلق بالسلطة القضائية، الذي يذكر الفصل 102 منه بأن: «القضاء سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل، وعلوية الدستور، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات. القاضي مستقل لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون.»

22. وينبغي التذكير علاوة عن ذلك بأن تونس تظل ملزمة بأحكام العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي تجيز المادة 4 منه، للدول الأطراف «في حالات الطوارئ الاستثنائية التي تتهدد حياة الأمة، والمعلن قيامها رسميا، وبالقدر الذي تقتضيه الحالة تماما، أن تتخذ، في أضيق الحدود التي يتطلبها الوضع، تدابير لا تتقيد بالالتزامات المترتبة عليها بمقتضى هذا العهد، شريطة عدم منافاة هذه التدابير للالتزامات الأخرى المترتبة عليها بمقتضى القانون الدولي...». كما تنص نفس المادة 4 من العهد على أنه: «على أية دولة طرف في هذا العهد استخدمت حق عدم التقيد أن تعلم الدول الأطراف الأخرى فورا، عن طريق الأمين العام للأمم المتحدة، بالأحكام التي لم تتقيد بها وبالأسباب التي دفعتها إلى ذلك. وعليها، في التاريخ الذي تنهى فيه عدم التقيد، أن تعلمها بذلك مرة أخرى وبالطريق ذاته «.

26. كما يجدر التذكير بالملاحظات الختامية التي اعتمدتها لجنة حقوق الإنسان في 27 مارس 2020، عقب النظر في التقرير الدوري السادس لتونس بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والتي أعربت فيها اللجنة عن قلقها «لأن لوائح حالة الطوارئ لا تتمشى مع أحكام المادة 4 من العهد ومع تعليق اللجنة العام رقم 29(2001) بشأن عدم التقيد بأحكام العهد أثناء حالات الطوارئ...». وأوصت لجنة حقوق الإنسان بأن يتم اتخاذ الإجراءات التالية:
« (أ )النظر في وقف التمديد المستمر لحالة الطوارئ؛
(ب) التعجيل بعملية سن قانون يتمشى مع أحكام المادة 4 من العهد وتعليق اللجنة العام رقم 29(2001) بشأن عدم التقيد بأحكام العهد أثناء حالات الطوارئ؛
(ج) ضمان سيادة القانون واحترام الحقوق غير القابلة للتقييد المنصوص عليها في العهد أثناء حالة الطوارئ، ولاسيما الحق في مراعاة الأصول القانونية؛
(د) وضع حد لإساءة استخدام الإقامة الجبرية، والقيود المفروضة على حرية التنقل، وانتهاكات الحق في الخصوصية» (راجع الوثيقة CCPR/C/TUN/CO/6، الفقرتان 29 و 30).

23. ويبقى يحدونا الأمل في احترام أكثر اتساقا لجميع هذه الحقوق والحريات. لأنه بهذا الثمن أيضا سيتم الحكم على المبادرات التي اتخذها رئيس الجمهورية وتقديرها حق قدرها في الداخل والخارج! ولتحقيق ذلك، فلنعمل معا من أجل استعادة مكانة القضاء المستقل عن السلطة التنفيذية، القضاء المسؤول والناجز والفعال!
تحويل حالة الطوارئ إلى فضاء للحوار الوطني الديمقراطي!

24. ويبقى الرأي راسخا لدينا مع ذلك بأن رئيس الدولة سيقوم دون إبطاء - كما أصرنا في كتابات سابقة – باستعادة دوره بوصفه رمز وحدة الدولة والساهر على احترام الدستور، بغاية إعادة إرساء الشرعية الدستورية عبر الاتصال بأصحاب المصلحة الرئيسيين، بما في ذلك، على الرغم من أنه يبدو مصرّا على رفض التعامل معها، الأحزاب السياسية، والمنظمات الوطنية، بما فيها المنظمات النقابية للعمال وأصحاب العمل، والهيئات الوطنية المستقلة، ومنظمات حقوق الإنسان، ومنظمات الأطفال والشباب – بوصفهم يمثّلون المستقبل و»قوة فاعلة في بناء الوطن» ، وكذلك من خلال الاستعانة بخبراء معترف بهم في المجالين القانوني والاقتصادي على وجه الخصوص، بهدف استعادة أسس سيادة القانون وتنشيط التجربة الديمقراطية في تونس المعاصرة.

25. ويمكن أن يشمل هذا الحوار الوطني، كأولويات، الصياغة السريعة لدستور جديد يصحح جميع أوجه القصور في دستور 27 جانفي 2014، وقانون انتخابي جديد يسمح بإرساء حوكمة منسجمة وفعالة للدولة.
وفي الوقت نفسه، ينبغي أن تكون للحوار الوطني المهام التالية:
- استعادة ركائز الدولة ومواجهة كل محاولات النيل من مبادئ الجمهورية، وإقامة فضاء للمواطنين مفتوح للجميع لحماية الدولة ومؤسساتها من جميع قوى التطرف والفساد والشعبوية والهيمنة، وإعداد رؤية شمولية لسياسة الجمهورية التي تقاوم الفوضى وتقترح استراتيجيات برامج لتعزيز الدولة المدنية في مختلف المجالات وإصلاح السياسات والمؤسسات. مساحة تدمج الجميع دون مزايدة أيديولوجية أو ارتهان لمراكز النفوذ الداخلية والخارجية.
- التأسيس لثقافة تقوم على المشاركة الديمقراطية تهدف إلى الارتقاء بمكانة الفعل السياسي واسترجاع الثقة فيه باعتباره لا يهدف فقط إلى الوصول إلى سدّة الحكم وممارسة السلطة، بل إنه يكون التزاما من أجل تغيير المجتمع، من مجتمع قائم على الجهل والحرمان والتهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي إلى مجتمع يهدف إلى تثبيت مكانة المواطن/ة في رسم الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومتابعتها ومراقبتها.
وبهذا النهج، يستعيد رئيس الجمهورية مركزه الحقيقي الذي وعد به من خلال أداء اليمين في اليوم التالي لانتخابه: « رئيس الدولة ، ورمز وحدة الدولة ، يضمن استقلالها واستمراريتها، ويسهر على احترام الدستور « (المادة 72 من الدستور).

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115