الجامعة التونسية: مؤسسة امتحان ونصف دوام

أكملت الجامعة التونسية -تقريبا- امتحاناتها للسداسي الأول من السنة. يرتاح الطلبة ومعهم إطار التدريس أياما ثم ستُستأنف الدروس

دون أي عملية تقييم لما جرى. ننتظر امتحانات السداسي الثاني التي ستبدأ في الكليات الكبرى مع شهر ماي القادم. وسيُعاد السيناريو كلّ سنة، وتتشابه سنوات التدريس لنكتشف في الآخر أن الجامعة تستنزف وقتها في إجراء الامتحانات بأصنافها المختلفة وهي في الغالب امتحانات لم تُجدّد أشكالها ومضامينها. الرهان الأساسي للطالب هو كيف ينتزع ما يؤهله للحصول على الشهادة العلمية، عدا ذلك لا يهتمّ هذا الطالب عموما بأي شيء آخر، ولهذا تضعف مشاركته في الشأن العام ويضيق مجال حراكه بشكل لافت.
لا يمكن التغاضي عن الوضعية التي وصلت إليها الجامعة التونسية وهي أزمة تعيشها مؤسسات تقديم الخدمات مثل المؤسسة الصحية ومؤسسة النقل وغيرها. الجامعة التونسية غير قادرة الآن على تحديد هويتها، فهل هي مؤسسة تعليم أم مؤسسة تكوين؟ وهل هي مؤسسة لإنتاج الفكر أم أنها مؤسسة لإدارة سيل من الطلبة يتوافدون عليها كل سنة جامعية؟ وهل أن الجامعة مؤسسة إعادة إنتاج السلطة المعرفية تحت عباءة العلاقة بين الشيح والمريد؟ وهل تشتغل المؤسسات الجامعية بنفس الآليات والتوجهات الكبرى أم هناك سرعات مختلفة و متباينة بين الهياكل الجامعية في مستوى التكوين والإشعاع الخارجي؟
هذا جزء من الأسئلة التي يمكن أن تساعدنا على فهم ما يدور داخل اسوارها المغلقة في كثير من الأحيان وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل هل أن الجامعة التونسية مؤسسة دينية أم مؤسسة تعليمية؟ وهل هي مع ذلك كله مؤسسة محافظة غير قادرة على فهم التحولات المختلفة واشتراطاتها الجديدة؟ لنختم في الأخير بالسؤال التالي: هل مازلنا نحتاج إلى جامعة بهذه الصورة وبهذا الأسلوب في التعاطي مع الأشياء؟
هناك مؤشرات عديدة تضعنا أمام عمق أزمة الجامعة التونسية اليوم. أهم هذه المؤشرات هي هجران الطلبة عموما للفضاءات الجامعية كفضاء للتحصيل العلمي وكفضاء لإنتاج المعنى. فإلى حدود التسعينات من القرن الماضي كان الطلبة يرابطون في أجزائهم الجامعية من أجل ممارسة الفعل السياسي. لم تعد الجامعة فضاء جاذبا للأساتذة وللطلبة، ينتهي الزمن الجامعي مع الساعات الأولى للزوال ولذلك فهي تشتغل بأقل من نصف طاقتها وبنصف مواردها المختلفة أو أقل. ولهذا فهي مؤسسة نصف الدّوام.
بعيدا عن التصنيفات العالمية التي تضع جامعات العالم ضمن موقعها من مؤشرات الجودة ومؤشرات التأثير في المحيط الوطني والدولي، يمكننا إدراك أن جامعاتنا في أغلبها هي مؤسسات دينية في عمقها ترفض في الغالب الجدل الفكري ولا تسهم بشكل ملموس في إنتاج الأفكار التي يكون أثرها واضحا في المجتمع ، بل على العكس من ذلك تتولى فقط إعادة ترتيب معلومات و تقديمها للطلبة في مشهد تقليدي يُمتحن فيه الطلبة مرتين أو أكثر في السنة. المشهد العام الذي تمرّ به تونس. الجامعة التونسية باختصاصاتها المتعددة لم تكن قائدة في المحطات التي مررنا بها خلال مرحلة الانتقال الديموقراطي ولم تكن أصلا معنية بذلك.
في الانتقالات الكبرى كان للجامعة دور الريادة. حركة ماي 1968 التي غيرت وجه فرنسا وكانت حركة مليئة بالتساؤلات المجتمعية كانت حركة نابعة من الجامعة. حركات التحرر في العالم هي الأخرى وجدت في الجامعات حاضنة فكرية وسياسية ونضالية لا مثيل لها. وتبقى الجامعة التونسية أكبر متغيب في مرحلة الانتقال الديموقراطي بأزماته المتعددة.
هناك الآن منطق الجودة الذي يقيّم المؤسسات الخدمية بعناوينها المتعددة، والجودة هي تلك العلاقة بين المؤسسة ومستخدميها والمنتفعين منها. وقد انتبهت المؤسسات إلى الطلبات الملحة التي تأتي من هؤلاء المنتفعين والتي ترتكز على الإنصات وعلى السياق الفرداني الجديد الذي يؤمن بمحورية الفرد وبأهوائه المتعددة وبضغوطاته المختلفة والتي على المؤسسة مهما كان اختصاصها أن تأخذه في الاعتبار.
نشهد الآن تهاوي المؤسسات الخدمية وهي في حالة هشاشة متواصلة والجامعة هي إحدى هذه المؤسسات. ولتجاوز هذه الهشاشة أمامنا فرص ممكنة لوضع سياسات عمومية للجامعة تستجيب للتحولات الجديدة، سياسة عمومية في الشكل وفي المضمون. من حيث الشكل على الجامعة أن تكون مؤسسة جاذبة وعلى مستوى المضمون هناك تحدّ كبير في مستوى إنتاج الأفكار لا من حيث إنتاج الامتحانات والديبلومات فقط. لا يمكننا في كل الحالات مواصلة التعامل مع أغلب المؤسسات الجامعية وهي مؤسسات امتحان و مؤسسات نصف دوام.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115