منبر: الديمقراطية التمثيلية: حقيقة الأزمة وواقعية البديل


« ان الديمقراطية التمثيلية تنطوي على قصور بنيوي يتمثل في أن الجماهير في حاجة دائما إلى زعماء قادرين على تعبئتها وهذا لا يكون

إلا من خلال هيئة حاكمة تتكون من أقلية ذات تنظيم وسلطة إلا أن هذه الهيئة بمجرد أن تتشكل يظهر في داخلها زعماء ذو سلطات تؤدي بهم في النهاية إلى العمل شيئا فشيئا نحو تعزيز مصالحهم الشخصية بدلا من خدمة مصالح الجماهير وهكذا يبدأ التباعد والانفصال تدريجيا بين القلة المسيطرة والشعب إلى أن ينتهي الأمر بهذه القلة إلى العمل المصلحي الذاتي البحت « ( روبرت مايكل مذكور في كتاب نظام التفاهة )

لاشك أن عموم المواطنين كانوا يتابعون ما يجري في الساحة السياسية عامة و البرلمان خاصة بكثير من عدم الرضا وحتى الاشمئزاز.فهذا الوضع كان دون شك سببا في تأزيم كثير من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وكان في حد ذاته مأزوما ويكاد يكون حالة باثولوجية / مرضية:

- لان العديد من نشطاء الفعل السياسي و أعضاء البرلمان ليس لهم من هدف سوى البحث عن المصلحة الخاصة وليس اقل من ذلك البحث عن مورد رزق مما دفع بعض المعلقين بتسميته ببرلمان « المعطلين عن العمل «.

- ان عددا غير قليل من النواب كان لا ينتمي لمشروع أو فكرة سياسية معينة بل كان يتجّول بسهولة بين مجموعة نيابية وحزبية وأخرى دون ضابط أو خلفيه مبدئية عدى مصلحته الخاصة وخاصة مصلحته المالية لما صار يعرف بتسمية « المركاتو السياسي / النيابي».

I / حقيقة أزمة الديمقراطية التمثيلية
يمكن تعداد مظاهر وأمراض وماسي البرلمان والوسط السياسي إلى ما لا نهاية ولكن في الحقيقة فان هذه المظاهر ولئن كانت تأخذ الشكل الأكثر بؤسا في الحالة التونسية إلا انه ليس سوى حالة مصغرة من أزمة واقعية عالمية اليوم وهي أزمة الديمقراطية التمثيلية Démocratie représentative .
إن القول بان البرلمان التونسي لم يكن يعبر عن مشاغل الناس وهمومهم ولم يكن في الحقيقة يمثلهم وفقد بالتالي كل مشروعيته هو قول شائع ومتداول ومصرح به كل حين تجاه الديمقراطية التمثيلية حتى في بلدان أكثر الديمقراطيات رسوخا وعراقة ( فرنسا ,الولايات المتحدة , ايطاليا .... ) حيث يقع يوميا التأكيد على وجود : « Un décalage de plus en plus perceptible entre les gouvernements censés représenter la nation et les citoyens qui se sentent tenus à l’écart de la conduite des affaires du monde témoigne de la crise de la démocratie représentative».
هذه الديمقراطية التمثيلية في أحسن أحوالها وعلى افتراض نزاهة العملية الانتخابية داخلها ( وهو غير ثابت بالمطلق ) فإنها اليوم تمثل شكل من أشكال الحكم « غير ديمقراطي» أو حسب عبارة العديد من الدارسين « ضد ديمقراطي » Anti-démocratique لان السلطة السياسية ذاهبة في الانحصار أكثر فأكثر بين يدي أقلية , هذه الأقلية التي :

- تمثل مصالحها الخاصة ( الشخصية / الفئوية / الحزبية)

- تتخذ القرارات وتمارس السلطة العامة بعيدا عن الناخبين

- أن هذه الديمقراطية صار يغلب عليها ممارسات الحكم الاوليغرشي Oligarchique

- أن علاقة « التمثيل « Représentation بالديمقراطية أصبحت اليوم محل تشكيك و رفض بصوت عال خاصة بعد أن أصبحت الحركات الاحتجاجية ( السلمية والعنيفة ) التي يمارسها الشعب تستهدف في نفس الوقت الأنظمة السياسية الديكتاتورية ولكن في نفس الوقت الأنظمة المعروفة بتقاليدها

الديمقراطية ( وأخرها احتجاجات هولندا العنيفة ضد قرارات الحجر الصحي ) حتى أن الملاحظين صاروا يعتبرون أن هناك أنظمة استبدادية صريحة وأنظمة استبدادية نخبوية «ديكتوقراطية» انقلبت منذ صياغة دستور الولايات المتحدة والدستور الفرنسي الأول على الديمقراطية الحقيقية لصالح النظام النيابي / التمثيلي .

وهذه المواقف والآراء التي تجد سندا لها في الواقع في فكرة كون «التمثيل» أو «النيابة» هي شكل متعارض مع جوهر الديمقراطية وحتى جوهر الجمهورية . وقد عبر على ذلك Jaques RONAIRE في حديثه عن كره الديمقراطية بان Les sociétés d’aujourd’hui comme hier sont organisées par le jeu des oligarchies . Et il n’ya pas proprement parler des gouvernements démocratiques- le gouvernement , s’exercent toujours de la minorité sur la majorité
فديمقراطية الأقلية ( النخبة / النواب ..) لا تختلف في الجوهر على أي نظام حكم بالأقلية مهما كان مصدر سلطة هذه الأقلية ( سلطة دينية / سلطة وراثية / سلطة عسكرية...) والأقلية هي الأقلية والأغلبية في كل أنواع السلط والحكم هي خارج دائرة الفعل والقرار وهي «مفعول بها « ومشارك سلبي / متفرج , وهو الوضع الذي صار محل عدم رضا ورفض على مستوى صناع الفكر وعلى مستوى عامة الناس
إذا’ إن إي عملية إصلاحية مستقبلية لا تتفاعل ايجابيا مع هذا المعطى المعرفي الواقعي سيعيد إنتاج سبب الأزمة الكبير والحقيقي وان أي بناء سياسي مستقبلي مؤسس على ثنائية الانتخاب والتمثيل فقط سيكون ماله مثل الذي كان قبله فاقد للمصداقية أو التمثيلية الحقيقة وبالتالي يحمل بذور وشروط أزمته وفشله

إذا فما وصلت إليه الديمقراطية التمثيلية أو النظام النيابي من وضع غير مقبول على مستوى التركيبة , والممارسات وعدم القدرة على العمل والفعل الناجع والمفيد له ما يبرره في النظام السياسي والانتخابي عامة و التونسي خاصة ولكن كذلك هو جزء من كل عالمي يتمثل فيما يعرف اليوم من أزمة الديمقراطية التمثيلية وانعدام مصداقيتها démocratie représentative Crise et discrédit de la فالحل يكمن في صياغة نظام سياسي وديمقراطي جديدين يضمنان أن الناخب / الشعب لا يكون مجرد متفرج سلبي ( شاهد زور باعتباره من يختار نوابه ) على تسيير الشأن العام بل يصبح هو من يختار , يراقب ّ, يقرر, ويعزل , المنتخبين متى أراد عبر عديد الآليات والتقنيات أي صياغة بديل سياسي قوامه الديمقراطية التشاركية الحقيقية ( بما فيها من مفاهيم واليات ) مستفيدين من ما وقع إنتاجه من دراسات ما بعد ــ الديمقراطية وخاصة من التكنولوجيات الحديثة و تقنيات الإعلامية وما يعرف بالديمقراطية ــ أللالكترونية E.Démocraty

II ) نحو بديل عملي وواقعي للديمقراطية التمثيلية.
ركزت الأبحاث والدراسات القانونية والسياسية على كيفية تجاوز أزمة الديمقراطية التمثيلية في اتجاه بديل أكثر ديمقراطية وتضمن أكثر مشاركة ومساهمة الشعب في الاختبار والتسيير والرقابة لكل متعلقات الشأن العام.
ولتجاوز سلبيات الديمقراطية التمثيلية نحو ديمقراطية تشاركيه – تشاوريه يقترح الدارسون الإصلاحات التالية :
- اعتماد نظام انتخابي جديد يقع على أساسه اختيار الناخب للنائب بصفة شخصية وعلى أساس برنامج/ عقد (Contrat programme ) يقع الاتفاق فيه بين الناخب والنائب قبل الانتخابات ويحرص الناخب على أساسه على المراقبة والمتابعة .- إقرار قانوني لمبدأ « الوكالة – الملزمة » أي الوكالة أو التكليف الذي يسند للنائب/ المنتخبélu ويلتزم به دون أن يحيد عنه ومن أثاره المباشرة عدم أحقية المنتخب في أن يتحرك بحرية بل عليه أن يلتزم بحدود الوكالة المسندة له.
- إعطاء الناخب حق مراقبة المنتخب وعزله بشروط وإجراءات قانونية مضبوطة ودقيقة عندما يحيد آو يخالف بنود الاتفاق ـ الوكالة أو العقد ـ البرنامج وقبل نهاية العهدة او الوكالة.
- إعطاء الناخب حق المبادرة التشريعية وتفعيل إجراء الاستفتاء وتحويله إلى وسيلة تشريعية عملية ومكثفة وتصبح نوع من الإجراء المعتاد والمتداول وإدخال التقنيات الحديثة ( عبر الوسائط الجديدة والانترانت ) بإقرار تدريجي لتقنية الانتحاب الالكتروني والاستفتاء الالكتروني وضمان إمكانية المشاركة في الانتخابات وخاصة الاستفتاءات .

 

- إلزامية تشريعية لمبدأ المشاركةparticipation وكذلك مبدأ التشاور délibération بإلزام المنتخبين بإجراء الاستشارات وسبر الآراء ( للناخبين ) في كل المسائل المطروحة للقرار وخاصة المسائل الهامة منها قبل أي عملية تصويت أو اتحاد قرار باسم الشعب
- توسيع دائرة التسيير الجماعي عبر الهيئات في كل المجالات ’ هذه الهيئات تتميز بالتشاركية والتمثيلية ويكون الرئيس آو المدير رئيس الهيئة وتكون الهيئة وحدها التي تصدر القرارات بشكل تشاركي مثل تشكيل مجالس تسير المدارس والمعاهد ( تكون منتخبة وممثلة ) على شاكلة مجالس الكليات او هيئات تسير المنظمات والجمعيات والمؤسسات حتى تخضع عملية التسيير لقاعدة التمثيلية (تمثيل الجميع) والتشاركية وقاعدة الحق في الاختيار وما يقابله من الحق في الرجوع عن الاختيار ( الانتخاب / العزل) عند الاقتضاء وقبل نهاية العهدة .
ان تحويل الديمقراطية التمثيلية إلى ديمقراطية تشاركية وتشاوريةDémocratie participative et délibérative يعتبر تقدما كبيرا وإصلاحا جوهريا في المنظومة السياسية القائمة وخطوة أخرى هامة وضرورية نحو الديمقراطية الكاملة والمثالية لان الوصول للديمقراطية المباشرة ( حلم الفلاسفة والمفكرين منذ القدم ) يتطلب المرور عبر الديمقراطية شبه المباشرة ( أو نصف المباشرة) بتوفير أكثر ما يمكن من الآليات وتقنيات استنادا لما وصل إليه تطور التنظيم الاجتماعي من رقي ( وجود مجتمع أهلي ومدني وهياكل وسطية نشيطة في كل العالم ) وكذلك لما وصلت إليه تقنيات الاتصال والتواصل من تقدم غير مسبوق ( الانترانت , منصات التواصل الاجتماعي ...) وهي كلها معطيات واقعية واجتماعية سياسية لم تعد لتقبل بدور سلبي ( متفرج ) لعموم الشعب في تسيير شؤونه وتنظيمها ولم بعد وجود « نواب « أو « ممثلين « عنه امرأ مقنعا أو مقبولا خاصة إذا كان النظام التشريعي يمكن هؤلاء النواب députe/représentant من التصرف حسب مصالحهم وأهوائهم بعيدا عن من انتخبهم وهو الواقع الذي وقع ملامسته في كل أرجاء العالم مما دفع بعض المواطنين في إحدى الدول وفي حركة رمزية ومعبره الى حمل احد نوابهم في البرلمان والإلقاء به في « حاوية الزبالة « أمام أنظار وسائل اتصال العالم كله وهي حركة تشهد على نهاية مرحلة ( مرحلة الديمقراطية التمثيلية ) وولادة مرحلة وهي مرحلة الديمقراطية التشاركية – التشاورية –ولكن هذه الولادة يجب أن تكون وفق ضوابط وإصلاحات عميقة في النظام السياسي والانتخابي القائمين وعلى أساس انتقال تدريجي يتفاعل مع ما هو موجود في العالم من أفكار وتطبيقات ( بعض الدول صارت تعتمد تدريجيا على تقنية القرعة Tirage au sort بدلا عن الانتخابات مثل ما حصل سنة 2011 في اسلاندا في اختيار أعضاء المجلس التأسيسي ) ومع إمكانيات الواقع ودرجة التقدم والتنمية البشرية والاجتماعية محليا .

 

بقلم: الأستاذ سالم السحيمي
المحامي لدى التعقيب 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115