قهوة الأحد: نادية الخياري وحكاية القط الثائر

في غمرة الحراك الثوري في الأيام الأولى بعد 14 جانفي 2011 ظهرت شخصية على وسائل التواصل الاجتماعي وبصفة خاصة على الفايسبوك

شدت انتباه التونسيين واستأثرت باهتماماتهم واستحوذت على ابتسامتهم وضحكهم على النظام الذي سقط اثر خروج الرئيس بن علي وسفرة إلى السعودية .وهذه الشخصية هي ويليس فروم تونس أو Willis from Tunis .ولعل ما أثار اهتمام التونسيين وجدّهم وتعلقهم بهذه الشخصية وهذا القط هو طابع السخرية والتهكم الذي يميز تعليقاته على الوضع السياسي والحراك في تلك الأيام .
وعلم التونسيون بعد أيام إن هذه الرسوم الساخرة وهذه الشخصية المحببة والمقربة من الكثيرين هي لرسامة وفنانة جهلوا وجودها ولم تبرز في الفضاء العام إلا يوم 13 جانفي 2011 عندما أصدرت أول رسم لهذا القط الثائر والساخر اثر الخطاب الثالث والأخير للرئيس وجملته الشهيرة «فهمتكم»› ليسافر من الغد مع عائلته إلى السعودية وكان هذا الهروب نقطة انطلاق الثورة التونسية والربيع العربي .هذه الفنانة والرسامة هي نادية الخياري التي برزت سريعا وجعلت من الرسم الصحفي فنا قائم الذات في بلادنا .
• «القصص المصورة» (dessins animés) والبدايات
لم تنشأ الخياري في عائلة فنية رغم أن اغلب أفراد العائلة كانوا محبين للفن .بل نشأت في عائلة مثقفة وكان الوالدان شغوفين بالكتب وخاصة بالقصص المصورة (bandes dessinés) والتي كانت متوفرة بكثرة في البيت خلافا لأغلب العائلات التونسية حيث أن هذا الفن لم يكن شائعا بكثرة .
وكان هذا القرب وتواجد القصص المصورة في الفضاء المنزلي نقطة ولع نادية الخياري بهذا الفن .
وزاد من شغفها وولعها بهذا الفن الهدايا التي كان يقدمها لها الوالد كلما تحصلت على أعداد متميزة في المدرسة .فكان يأخذها صباح كل سبت إلى أكشاك بيع الجرائد والمحلات المشهورة التي كان يؤمها كل ساكني العاصمة والتي كانت موجودة في شارع الحبيب برقيبة ليهديها بعض القصص المصورة بالفرنسية والتي كـانت شائعة عند التونسيــين في تلك الفترة مثل zembla وBlek وAkim color وغيرها .
ساهم هذا الجو في اهتمام نادية بالفن الكاريكاتوري والرسم .فبدأت في صياغة بعض القصص المصورة .ثم اختصت في المدرسة في وضع بض الرسوم الهزلية لأساتذتها وأصدقائها والتي كانت تثير سخرية زملائها وضحك الأصدقاء .إلا أن هذا الشغف والاهتمام حددا مستقبلها الدراسي وفتحا لها المجال الفني .
• الدراسة وبدايات المسار الفني
اثر تحصلها على البكالوريا اتجهت نادية الخياري إلى الجامعة في فرنسا حيث ستعد إجازة في الفنون التشكيلية .وعندما عودتها إلى تونس وبدأت في التدريس في معهد الفنون الجميلة سنة 1997.
ثم تحصلت على شهادة الدروس المعمقة في نفس المعهد عن بحث بعنوان «Auto-portraits de Rembrandt» أو «الصورة الذاتية عند رمبرات» .
وقد انطلقت في نفس الوقت في تجربتها الفنية حيث نظمت أول معرض سنة 2007 في مقهى café journal في ضاحية قمرت .وفتحت سنة 2007 رواق عرض أسمته Artyschow حيث قامت بعرض وتنظيم معارض للفانين الشبان الذين لا يجدون مجالا للعرض في متاحف وقاعات العرض المعروفة.
وساهم هذا الرواق في ظهور جيل جديد من الفنانين والرسامين الذين نظموا فيه أولى معارضهم ومن ضمنهم ثامر الماجري وأسامة الطرودي ورابعة سكيك وعائشة السنوسي ومحمد شلبي. وقد اهتم هذا الجيل بعرض القضايا المحظورة في الثقافة العربية والإسلامية كالجنس والسياسة والدين .
• الثورة وظهور «القط الساخر» ويليس فروم تونس أو Willis from Tunis
بدأت نادية الخياري في بعض تجارب القصص المصورة منذ عودتها إلى تونس .إلا أن هذه التجارب لم تستأثر باهتمام الناشرين في تونس وفي فرنسا .إلا أن هذا الصد لن يثن نادية الخياري عن مواصلة ما أسمته هذه المتعة الذاتية.
وفي هذه التجارب المتعددة في مجال الرسم والقصص المصورة قامت نادية بابتكار شخصية القط الساخر الذي أطلقت عليه اسم ويليس «Willis» .وقد اقتبست هذا الاسم من ما تعتبره أحد أهم الأفلام في مجال السخرية السوداء للمخرج Albert Dupontel بعنوان Bernie.وفي هذا الشريط كان للمثل قط اسمه ويليس من هنا جاء اقتباس نادية الخيراي لاسم ويليس لقطها في البيت ثم أصبح الشخصية الأساسية في عملها الفني وفي رسومها وقصصها المصورة .
وقد بدأت نادية الخياري في صياغة بعض الرسم لهذا القط الساخر سيتم تداولها في المجال العائلي وعند بعض الأصدقاء .
إلا أن الانطلاقة الحقيقية لويليس أو القط الساخر كانت يوم 13 جانفي 2011 اثر الخطاب الثالث والأخير للرئيس بن علي قبل هروبه للسعودية.فقامت بنشر أول رسوم القط ويليس الساخر على شبكة التواصل الاجتماعي في مجال محدود جدا اقتصر على المحيط العائلي وعلى بعض الأصدقاء .إلا أن هذا الرسم الأول والرسوم الذي تلته شهدت انتشارا منقطع النظير فأجا نادية الخياري .ووقع تداول تعاليق القط الساخر بسرعة كبيرة في تلك الأيام حيث فسح مجال الحرية الباب واسعا للسخرية والنكتة السياسية التي ظلت مكتومة لسنوات طويلة .
وقد انخرطت نادية الخياري في هذه الديناميكية حيث قامت بنشر أكثر من رسم في اليوم الواحد .ومما شجعها على مواصلة هذا العمل تشجيع الناس لها وتعاليقهم على رسومها التي كانت تثير بعض الأحيان نوبة من الضحك عندها .
وقد أعطى هذا القط الساخر الفرصة لنادية الخياري للمساهمة في النقاش العام الدائر في الفضاء العام في الأسابيع الأولى للثورة .وقد مكنها من التعليق بصفة آنية حول أهم القضايا المطروحة في تلك الأيام .
وقد مكنها هذا العمل والرسوم المتعددة من نحت شخصية ويليس القط الثائر .فهو يمثل أو يختزل شخصية التونسي الثائر والساخط على الأوضاع والذي يطمح إلى غد أفضل .وقد استفادت في هذا المجال من تجارب عديد الكتاب الكبار الذي استعملوا الحيوانات للحديث عن قضايا المجتمع مثل الكاتب الفرنسي لافونتان Lafontaine في كتاب les fables de Lafontaine .فهذا القط الساخر أصبح يمثل في المخيال العام صورة المواطن الثائر والرافض للوضع القائم الذي يطمح لتغييره نحو الأفضل .
ولئن اهتمت نادية الخياري بعمل مدرسة الكاريكاتور التونسية وبأبرز أسمائها مثل علي عبيد فإنها اعتبرت أن الرسم الساخر يختلف عن فن الكاريكاتور .فالرسم الساخر يسعى إلى التعليق بطريقة ساخرة على الوضع السياسي والاجتماعي بينما يكتفي الفن الكاريكاتوري في اغلب الأحيان بالمبالغة في تصوير بعض ملامح الشخصيات .
وقد عرفت رسوم القط الثائر نجاحا منقطع النظير في الأيام الأولى للثورة .وقد تأكد هذا النجاح مع صدور الكتاب الأول لنادية الخياري على حسابها الخاص في شهر مارس 2011 تحت عنوان «Willis from Tunis chroniques de la révolution» أو «ويليس من تونس : يوميات الثورة» ثم عقبه كتاب ثان بعد بضعة أشهر تحت عنوان «Willis from Tunis : chroniques de la révolution 2» أو «ويليس من تونس : يوميات الثورة (2) «.ثم ستصدر عديد الكتب الأخرى ومن ضمنها «chat noir» أو «القط الأسود» في 2017 و»Manuel du parfait dictateur» سنة 2015 أو «دليل الديكتاتور» .كما تم نشرت كتبها في فرنسا عن دار نشر la découvete وتمت ترجمتها إلى العربية ونشرها في بيروت .
وقد فتح هذا النجاح الأبواب على مصراعيها على المستوى العالمي لتصبح احدى الرسامات المعروفات في العالم .فاتصل بها الرسام الفرنسي الكبير siné  لتصبح رسامة في جريدته siné mensuel منذ 2012.كما اتصل بها الرسام الفرنسي الكبير Plantu ليطلب منها الانخراط في الجمعية التي كونها مع الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان واسمها «cartoning for peace» أو «الرسم من اجل السلام» وقد قامت بالدفاع على الرسامين في كل بلدان العالم كما قامت بالكثير من الندوات في المدارس الابتدائية لتحسيس الأطفال بمبادئ المواطنة من خلال الرسم .كما قامت نادية الخياري بمعارض هامة في بلادنا وفي عديد البلدان الأخرى على المستوى العالمي .
وتحصلت على عديد الجوائز ومن ضمنها الدكتوراه الفخرية من جامعة لياج في بلجيكيا وجائزة هونوري دوميي Honoré Daumier سنة 2012 وعديد الجوائز .
كما شكلت تجربة نادية الخياري وقطها الساخر والثائر محطة مهمة في المجال الإبداعي حيث سمح هامش الحرية والديناميكية التي عرفتها بلادنا بحضور مهم لتجارب فنية وإبداعية شبابية جديدة ساهمت في دفع الفن والإبداع في بلادنا .وقد بدأت نادية الخياري وهذا الجيل الجديد في نحت مسار فني متميز ساهم من خلال انفتاحها ومحموله النقدي في تمتين خصوصية تجربتنا السياسية .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115