جماليات الصورة عند جلال بالسّعد

«ليس هناك ما هو أسوء من صورة واضحة لفكرة غامضة»
أنسال أدامس
(مصوّر أمريكي عاش بين 1902و1984)

ما من صعوبة أعقد من تعريف ما يقوم به الناقد الفوتوغرافي لحظة تفكيكه جماليا لشفرة المنجز التصويري المكتمل. فالسؤال الذي سيطرح نفسه عندها بالضرورة هو: ما الشيء الذي بوسع ذلك الناقد أن ينقله للمتلقّي حول ما هو ماثل أمام ناظريه؟ وما الذي يتعين أن يتوفّر عليه مقترحه النقدي، حتى نعترف بالأصَرَةِ التي تشدّه لفن التصوير الفوتوغرافي، مع تفادي السقوط في التغطية السطحية أو في الوصف الساذج لمحتويات تلك الصوّر؟

نحن ننتظر من عملية النقد النفاذ إلى عمق المواضيع أو محاولة بلوغ ذلك على أقل تقدير. وتكمن أهمية ذلك في فتح آفاق جديدة، حتى وإن لم تتوفّر تلك الآفاق على تقديم إجابات أو حلول بالضرورة. فشدة تعقّد القراءة الجمالية للمبدع لا يمكن أن تسمح لناقد مُقترحه الفنّي الإحاطة بمنجزه وفكّ شفرة استفهاماته. ففن التصوير الفوتوغرافي مدعو بالأساس إلى إثارة الأسئلة وفتح آفاق رحبة للفكر وللوجدان أيضا، مع تفادي كل مصادقة على الواقع مهما اتسم ذلك الواقع بالكمال.

يكمن دور المنجز الإبداعي الفوتوغرافي في قدرة الصّورة على إضافة شيء جديد قياسا لما سبق وأن تعرّفنا عليه، بحيث ينتابنا حال مشاهدتها شعور غريب بالاصطدام بشيء لم نعهده من قبل، الأمر الذي يدفعنا إلى مراجعة مدركاتنا القديمة وأشكال تعبيرنا عن مشاعرنا أيضا. وذلك في تصوّرنا أرفع تحدي يمكن أن يواجه فن التصوير الفوتوغرافي. فبمجرد أن يشهر المصوّر آلة التصوير في وجه العالم المحيط به، تغدو جميع الأشياء ماثلة أمامه. لكن كيف له أن يُدرج ما ليس بوسع إطار التصوير أو حيّزه التقني أن يتضمنه؟ وأنّى لناقد مُقترحه الفنّي أن يُمسك بمرهف الاحاسيس التي توصّل بشكل مُلْهَمٍ إلى تخليدها؟
ليس للنقد الفوتوغرافي أن يصيب مبتغاه إذا لم يتصيّد فجاءة الرؤيا وشدة الاندهاش إزاءها. وَحْدَهُ الحدس بمقدوره تأويل الرؤيا وما ترصُده كل عين بصيرة في قطعها مع الاشكال السائدة. عندها يتّسع النظر إلى ما يحيط بنا دفعة، وتغدو صيغة استفهامنا كالتالي: هل لدينا شعور صادق بأن ما هو ماثل أمام أعيننا من صوّر يشكّل فرصة حقيقية لرؤية العالم بشكل مُفارق أم لا؟ وحتى وإن لم يكن بالوسع موضوعيا الجزم بأن أمر ذلك حاصل بطريقة مُسبقة بالضرورة، فإن ما ينبغي الاحتفاظ به هو الحاجة إلى استحضار شحنة الأحاسيس الرهيفة بالأشياء حدسا، ليتحوّل معها دور الناقد إلى لاقط لما انتابنا من مشاعر، ومُبْدِعٍ أيضا في ترجمتها انشائيا.

ذلك في تصوّرنا ما استعجلناه بخصوص الفصل بين المنجزين الإبداعي ورصيفه النقدي في مقاربة التصوير الفوتوغرافي، استعدادا لردّه إلى تجربة طريفة وضع مفرداتها وفقا لتقنيات التصوير الشمسي الفنان والباحث في جماليات الصورة جلال بالسّعد، وذلك من خلال مقترح طريف في ضربه أصدرته خلال الأيام الأخيرة دار «كونتراست للنشر» المعروفة بتوجهات منّشطها عبد الرزاق الخشين الفنية والحرفية العالية. ويتصل الأمر تحديدا بمجموعة من الصّور انطلقت منذ بداية تسعينات القرن الماضي لتغطي ثلاثين سنة أو تزيد.

ولعل أطرف ما في الأمر استدعاؤه لأقلام عدد ممن قاسموه الصحبة أو/ والمسار الابداعي والفكري والنضالي والحياتي أيضا، حتى يخطّوا حول واحدة من تلك اللقطات المختارة التي قدّر حدسا تعالقها مع هواهم، رُدُودَ أفعالهم أو خلاصة مشاعرهم الذاتية حولها. بحيث حملت كل صورة انطباع من أسهم في تأويل مضمونها وحاول فكّ رموزها، معوّلا على المرآة الصقلية لعوالمه الداخلية أو الجوانية. وهو ما أضفى على تلك المختارات ترابطا غير منتظر بين من تصيّد تلك اللقطات وبين من عادت له مهمّة التعليق عليها وردّها بعد عرضها على مصفاة ما شدّهم إلى منجِزها من صلات تداخلت ضمنها الأبعاد الجمالية والنضالية والذاتية، فأعلت من قِيَمِ الصحبة والمصاحبة وجميل الوداد وحرارة الشعور بالألفة.

تخيّر جلال بالسعد مائة صورة وصورة، ليربط كلا منها بتعليق مُصاحب لها، وضّح مضمونها الجمالي. فكشفت تلك المحتويات في تشابكها تحوّلات سوسيولوجيا التونسيين وعلاقتهم بوطن الانتماء، من قُـيِّضَ لههم العيش داخل أسوار المدن أو من سكنوا الأرياف سواء بسواء. فقد رسمت لنا صُوَرُهُ تقاطيع وجوه التونسيين وسحناتهم بتفاصيل يعزّ حضورها. كما وضعتنا وجها لوجه مع دقائق معاشهم طوال الثلاث عشريات التي غطّتها عدسته، فانكشف لنا عندها التناقض بين عافية الشمس وزرقة الماء ورغد الخضرة ممن ناحية، ورثاثة العوز والإهمال وضعف الحيلة وانتفاء الملكات، فالانقلاب تبعا لذلك من كساسة معيش الحُضّر إلى أسبار البداوة وقسوتها، وأعطاب احتلال فضاءات قديمة مُهملة، وانحدار تلك المشاهد باعتبار فوضى المعاش إلى مواضع منكوبة لا تليق بكرامة بني البشر، في الجانب المقابل.

ثلاثة عقود من تسلط الحكّام وانحباس النماء وتسييج مصادر الثروة واحتكارها وضرب حرية الفن والفكر وفضائل المعرفة واغتنام الملكات وصياغة فرص الترقي الاجتماعي، كانت كفيلة بدفع الناس إلى الارتماء في أحضان المجهول، مع توثّب إلى الفرار من جحيم الواقع المرّ واندفاع نحو المجهول، منخرطون في مسالك الهجرة السريّة أو الاشتغال بالتهريب وشبكات الممنوعات، وتقاسم السطحية المعمّمة والتطرّف والانحراف والجريمة وتبييض الإرهاب. وجميعها مظاهر زادت في تعفّنها سنوات انتقال موهوم مشوب بمحافظة واجهة، وأشكال نضال عرجاء تنازعتها مشاعر حنين تكسوها شعارات رثة لا ترى خلاصها إلا في إعادة انتاج المنظومة القديمة بلُبُوس مخاتلة.

منتهى الظن عندنا أن مختارات جلال بالسّعد الفنيّة قد وضعت لنفسها أفقا نضاليا عكس فيما شبّه لنا، وبإلماع مقتصد وجماليات مدروسة، انزلاق المشهد الجغرافي الثقافي التونسي بعناصره المادية وغير المادية، وتركيبته الاجتماعية على مدى ثلاث عقود في مستنقع الإهمال والعوز المعمّم والرداءة الذوقية أيضا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115