قهوة الأحد: العنف والتكفير والعلاقة المتعثرة بالحداثة

تعيش بلادنا - اليوم - أزمات متعددة فيها السياسي وفيها الاقتصادي والاجتماعي .وقد زادت هذه الأوضاع تعفنا بعودة شبح العنف والتكفير داخل السلطة التشريعية .

وقد خلنا أن بلادنا قد حرجت من مثلث العنف والحركات الجهادية والتي كادت أن تعصف بتجربة التحول الديمقراطي في سنة 2013 كما كان الشأن في البلدان الأخرى للربيع العربي مثل سوريا وليبيا واليمن.فقد طغى العنف في هذه البلدان على مشروع التحول السلمي نحو الديمقراطية لتدخل في حروب أهلية طاحنة.

وقد راود شبح العنف تجربتنا السياسية في هذه السنة المحورية للثورات العربية سنة 2013.فقد انطلقت الحركات الإسلامية المتشددة منذ بداية الثورة في مظاهرات وتحركات عنيفة مستفيدة في ذلك من فضاء الحريات الذي سمح لها بالتحرك بكثير من الحرية وبدون رقابة .وستتحول هذه المظاهرات والتحركات إلى دعوات للعنف ضد المعارضين والفنانين والمرأة .وستكون هذه الدعوات وفتاوى التكفير التي أطلقتها هذه المجموعات وراء انفلات العنف من عقاله وتوالي الاعتداءات والهجمات .وستعرف هذه الاعتداءات مداها مع اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي ثم بداية العمليات الإرهابية لهذه المجموعات التي اتجهت نحو العنف المسلح ضد المؤسستين الأمنية والعسكرية واللتين ستقدمان خلال هذه المواجهات عددا كبيرا من الشهداء .

إلا أن هذا الانفلات وبالرغم من انكسار وتراجع مؤسسات الدولة كان وراء هبة مدنية لم تعرفها في السابق.وساهم اعتصام الرحيل ولقاء القوى السياسية تحت مظلة الرباعي في حوار وطني مكننا من تجاوز هذه الأزمة ومواصلة مسار التحول الديمقراطي دون الدخول في دوامة العنف.
وقد مكننا هذا الحوار الوطني إلى جانب تفادي الانزلاق في العنف من تحقيق مكاسب سياسية مهمة .المكسب الأول يتمثل في التوافق على دستور ديمقراطي والذي ولئن برزت اليوم الكثير من هناته، يعتبر متقدما مقارنة بالمشروع الذي كانت تناقشه الأغلبية البرلمانية في ذلك الوقت .
المكسب السياسي الهام يتمثل في بناء وحدة وطنية قوية لمناهضة العنف والإرهاب .وقد شكلت هذه الوحدة الأساس والخزان السياسي الذي تمكننا بفضله من الوقوف أمام الإرهاب ومحاربة المجموعات الجهادية.وقد كانت ملحمة بن قردان نقطة الانطلاق للهزيمة التاريخية لداعش وللحركات الجهادية الإسلامية .

وقد خلنا أن هذه أن الهزيمة ستكون بداية النهاية للخطاب العنيف والدعوات التكفيرية في مساحتنا السياسية .إلا إن التطورات الأخيرة أثبتت خطأ هذا الحدس والتوقع . فقد عاد الخطاب العنيف والدعوات التكفيرية منذ مدة .ولعل الخطير في هذه العودة دخولها واقتحامها مؤسسات الدولة ليصبح برلمان الشعب احد وأعلى مؤسسات السلطة والسيادة الوطنية الإطار الذي يمارس فيه الخطاب وتنطلق منه هذه الدعوات المناهضة للدستور وللقوانين التي قامت بتحديدها هذه المؤسسة .

كما أن هذه الدعوات وعودة العنف تأتي في وضع سياسي يتميز بالتفكك والأزمة الكبيرة لمؤسسات الدولة والتي أصبحت عاجزة عن مواجهة هذا الغول العنيف وعن صده.ومن ناحية أخرى تتأتى هذه الدعوات في وضع يتميز بانحسار وتراجع حركات المجتمع المدني وتدني قدرتها على التعبئة والتصدي لهذه الحركات نتيجة حالة الاحباط التي تسود في بلادنا.
وهذا الضعف يشكل مصدرا من مصادر الخطر من هذه العودة الى العنف والدعوات التكفيرية والتي قد تصحبها تطورات أكثر خطورة وتجعل شبح انفلات هذا الغول من عقاله مسالة حقيقية وليست فرضية نظرية .ولعل السؤال الهام الذي يطرح نفسه اليوم يخص أسباب عودة هذه الظاهرة الخطيرة والتي خلناها انها قد انقرضت وتراجعت أمام الوحدة التي عبرت عنها كل الحركات السياسية والمجتمع المدني .

وفي رايي فان خروج هذا القمقم من جديد من مخبئه يثبت ان دعوات العنف والتكفير ليست ظواهر عرضية في مجالنا السياسي .فهي ظواهر دفينة وموغلة في تاريخنا السياسي حتى وإن تراجعت في بعض المراحل التاريخية واختفت أمام قوة مؤسسات الدولة وقدرتها على فرض شكل وحيد للعنف في المجتمع وهو العنف الشرعي لمؤسسات وأجهزة الدولة .
وفي رأيي فان ظهور هذه الدعوات المتكررة خاصة في فترات الأزمات للعنف و التكفير ومحاولات إقصاء الخصوم بكل الأساليب تعود الى العلاقة المتعثرة التي تجمعنا بالحداثة.وبالرغم من المحاولات العديدة والمتواصلة للنخب السياسية لجعل المشروع الحداثي الإطار والجامع لممارستنا السياسية فان علاقتنا به لازالت مهترئة ويعتبرها الكثير علاقة غير طبيعية وتعبر عن غربة نخبنا وانقطاعها عن الموروث التقليدي العربي الإسلامي لمجتمعنا .ولئن تمكنت النخب السياسية من السيطرة على الفضاء العام والهيمنة على المشروع السياسي التونسي خاصة بعد الاستقلال فقد كان ذلك بدعم من الدولة القوية التي جعلت من هذا المشروع الإطار لممارستها السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
إلا أن هذا الاهتزاز والتعثر في هذه العلاقة مع هذا المشروع كان وراء الارتداد في فترات الأزمات الكبرى ليطغى المشروع المناهض والتقليدي من جديد على السطح ويحاول فرض رؤاه بكل الطرق بما فيها العنف والتكفير .

وكي نقف على حدة المواجهة والرفض التي يواجهها على محتواه وخاصة على القطيعة التي أحدثها مع المجتمعات التقليدية والشرخ البليغ الذي تركه في الموروث الديني ومشروع العودة لتجربة السلف الصالح للخروج من أزماتنا وانقطاعنا عم حركة التاريخ عن خروجنا من الأندلس .

وفي رأيي تكمن هذه القطيعة الابستمولوجية والسياسية بين المشروعين على أربع مستويات كبرى .المستوى الأول يهم الجانب الفكري والفلسفي حيث أتت أفكار الحداثة والأنوار بقطيعة راديكالية مع الموروث الديني وجعلت من القدرة على التفكير والتمييز (capacité de discernement) داخل الفرد وليس خارجه كما هو الشأن للفكر التقليدي.ويؤكد هذا المشروع أن هذه الطاقة موجودة خارج الفرد وترتكز على الكتب المقدسة والأحكام الإلهية العليا .وتحرر الفكر الحداثي من هذه الابستيميا الدينية ليجعل من العقل وقدرة الفرد على التفكير واستنباط الحلول .وبالتالي أدخلت هذه المنظومة تحولا كبيرا وتغييرا جذريا في التفكير السائد وجعلت من إعمال العقل والاجتهاد عملا داخليا يقوم به الفرد بكل حرية وبدون حسيب ما عدى قناعاته .وقد أدخلت هذه المقولة الابستمية تقاليد جديدة داخل الفكر الإنساني ليصبح الفكر النقدي ورفض المسلمات مباحا وممكنا. وهكذا يصبح الفكر الإنساني مجالا للإبداع والتجديد ويقطع بالتالي مع التقليد .

المستوى الثاني لهذه القطيعة بين المنظومة التقليدية والمنظومة الحديثة يهم الجانب السياسي.فقد طرحت الثورات الأوروبية ضرورة القطع مع الأنظمة التقليدية ذات المشروعية الدينية وبناء العلاقات السياسية على أسس جديدة قوامها مدنية الدولة وانتفاء علاقاتهما بالديني .هذا التطور سيشكل مدخلا هاما للخروج من المطلق السياسي ودخول النظام الديمقراطي والتنافس السلمي على السلطة من خلال الانتخابات والتعددية.وستفتح هذه الأنظمة الديمقراطية تحولا كبيرا للمشروعية التي ستنتقل من الماورائي والفوقي لتجد أساسها في الشعب الذي سيصبح صاحب السلطة ومرجع الشرعية.

المستوى الثالث للصراعات بين هاتين المرجعيتين تخص الفرد وموقعه في المجتمعات البشرية.ولئن تنادي المرجعية التقليدية بتبعية الفرد وضرورة تقيده بتقاليد السلف الصالح فان المرجعية الحداثية تعطي للفرد مجالا كبيرا وحرية تسمح له بالتحكم لا فقط في أفكاره بل كذلك في اختياراته السياسية والجنسية والفنية والثقافية وغيرها .
الجانب الرابع والأخير في هذه العلاقة المتأزمة بين المشروعين يهم الجانب الجمعي أو المشترك في المجتمع .ولئن تؤكد النظريات التقليدية على الأسس العائلية أو القبلية والتي سبقت الدولة الحديثة فان النظرة الحديثة تؤكد على الرابط الجمعي الجديد وتجعل من العقد الاجتماعي الإطار المنظم والمهيكل للعلاقات الاجتماعية الحديثة .

هذه القراءة السريعة تبين عمق التباعد والقطيعة بين المشروعين التقليدي والمطلق والحداثي والذي اخذ طابعا كونيا منذ عقود طويلة .ولئن انخرطت نخبنا الفكرية والسياسية في هذا المشروع منذ المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر مع المصلحين والحركة الوطنية ثم مع دولة الاستقلال ، إلا أن هذا الانتماء بقي مهتزا ومتعثرا .ففتحت الأزمات فترات الارتداد على هذا المشروع وظهور تغييرات سياسية عنيفة وتكفيرية لمحاولة نفيه وتهمشيه.

وفي رأيي فإن التصدي لهذه المظاهر لا يجب أن يتوقف عند التجنّد المدني والسياسي للتنديد والتصدي لهذا العنف بل يجب أن يطال كذلك الأسباب العميقة لهذا التعثر والاهتزاز والتي تهم الجوانب الفكرية والتعليمية والاقتصادية والسياسية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115