قلوبهم منشرحة. كلّهم تطلّع. كلّهم حركة. الكلّ بالعودة مبتهج. الكلّ في قلبه أمل. هي العودة الجامعيّة، يا سادتي، والعودة الجامعيّة حدث كبير، مهمّ... أنا لن أعود إلى الجامعة هذه السنة. لن تكون لي عودة ولن ألتقي مجدّدا مع زملائي ومع طلبتي. هذه السنة، لا درس لي في الجامعة. لا عودة لي. أنا اليوم حزين...
منذ عديد العقود، كلّ سنة، لي عودة جامعيّة. أنتظرها بشغف. أتهيّأ لها كأفضل ما يكون. قبل العودة، تدبّ فيّ الحركة. أستعدّ. أقول لأهلي وللناس حولي: «قريبا، تفتح الجامعة. انتهت العطلة. حانت العودة.» أمشي إلى السوق. أشتري لباسا وحذاء. أحلق شعري وذقني. أرتّب أوراقي ومكتبي. في ساحة المعهد، صباحا، ألتقي مع الأساتذة وبعض الطلبة. نتحدّث في كلّ أمر، في كلّ شأن. نتفرّق ثمّ نعود لنلتقي. نمشي معا إلى المشرب. نشرب مرّات عدّة عصيرا وقهوة. الكلّ يريد طواعيّة دفع ثمن الماء والقهوة.
أيّام العودة، تراني بين زهو وتوتّر. أنا مزهوّ بالعودة. كلّ يوم، صباحا، أمشي إلى المعهد. أحكي وصحبي في ما كان لنا من عطلة، في ما سوف ندرّس من فصل ومن برنامج. بعد صيف طويل، مملّ، ها أنا أعود إلى الشغل. ألتقي بالناس. أتبادل الرأي. أتحدّث طولا وعرضا في السياسة. في كلّ لقاء مع صحبي، تراني أتعلّم. أتجدّد. مع طلبتي، في الدرس، أعيد النظر في معارفي. أراجع نفسي. أتأسّس. مع العودة، رغم فرحي، تلقاني في بعض توتّر. أهاب العام الجديد وما سوف آتي من ساعات تدريس وما سوف يكون من امتحانات ونصوص وعروض. في الشغل، هناك دوما إكراه وجهد. هناك دوما بعض من الضيق وبعض من الشدّة. مع كلّ سنة جامعيّة جديدة هناك صفحة جديدة تفتح...
أفرح بالعودة الجامعيّة بضعة أسابيع ثم تتوالى الأشهر ويعاودني الضجر. أنا ضجور بالطبع. فيّ ملل يتربّص. أنا لا أحبّ الرتابة وأبغض المألوف وكلّ أمر يتكرّر. كيف لي تجمّل التكرار وأنا كائن متحرّك؟ في الجامعة، أحيانا، ألقى في الدروس رتابة خانقة. ألقى في الطلبة وجوها حالكة، بائسة. أحيانا، أسأم الدرس ويشدّني ضيق وأكره نفسي والطلبة والجامعة. ألعن نفسي وما كان لي من وظيف وضيع ومن عيش تعيس. كيف لا يصيبني ضجر والدروس تتشابه ونفس السعي يتكرّر؟ ها أنا أعيد ما كنت درّست منذ سنين. ها أنا أجترّ. أدور على نفسي كما يدور جمل المرسى حول بئر ناضب. كنت أمشي إلى القسم وكلّي سؤم وتبرّم. أحيانا، أمشي إلى القسم كمن يمشي إلى المشنقة. في قلبي شدّة وفي خطواتي تعثّر...
° ° °
في كلّ عودة جامعيّة، تراني في نشاط، في حبور. أعدّ ما كان من برنامج وأعيد النظر في ما كان من مراجع ونصوص. أحبّ البدايات، كلّ البدايات ولمّا ألقى طلبتي الجدد وألتقي بمن غاب عنّي من الأساتذة. ها أنا في القسم، أمشي وأجيء. ها أنا أتبختر بين الصفوف. أشرح ما كان للدرس من مقاصد وما ضمّه البرنامج من أبواب ومن فصول. بفرنسيّة مهذّبة، أقول بصوت واثق ما كان من غايات ومن منهج وما هو دور الأستاذ وما هو دور الطالب. الدرس هو بناء مشترك. يؤثّثه الأستاذ والطلبة. بل يكمن الأهمّ في ما سوف يأتيه الطلبة من تمحيص وجهد، لا في ما سوف يقوله الأستاذ من شرح ومن نظر. الطلبة هم أصحاب الدرس وهم به أولى. ما كان الدرس بإملاء. هو عندي فضاء حرّ لتبادل الرأي، لإثارة الأسئلة، للإدراك، للتبيّن. السؤال عندي أهمّ من الجواب والنظر الطريف، المختلف هو المنشود. كنت أحثّ طلبتي على التقليب، على رفض كلّ فكر دائر، منتشر. دوما، يجب البحث عن سبل أخرى، عن مدلول أدقّ وأشمل... ينبهر الطلبة بما قلت في فرنسيّة منمّقة وأفرح أنا بما كان لي من حظوة لدى طلبتي...
أقول لهم اسمي ولقبي وأؤكّد أنّي بربري وتونس أرضنا وقد غزاها، في ما مضى، العرب. أحيانا، أقول لهم إنّي يهوديّ وقد عاش أجدادنا اليهود إفريقيّة قبل الروم والعرب. أقول لهم إني من غير هذه الملّة ولست من هذا البلد. أقول لهم ما شئت من القول وهذا اسمي غريب وهذه قامتي يافعة وفي وجهيّ بياض وحمرة. ثم أنظر مليّا في الرؤوس فأرى في الأعين سؤالا وحيرة. أرى ترحابا وقبولا بهذا الأستاذ الغريب. ما كان الطلبة أيّامها في عداوة مع الغرب. بالعكس، أظنّهم يحبّون البشر المختلف وذاك القادم من بعيد...
أحبّ طلبتي. أغلب طلبتي. أحبّ معاشرة الشباب وأعشق ما في الشباب من لامبالاة ومن مرح. أحبّ الطلبة وقد جاؤوا من أصقاع مختلفة. كلّ يحمل أرضه. كلّ يحمل طموحاته وفكره. كلّ أراه، مع الزمن، يتغيّر. في ذاك العمر، يتطوّر الشبّان بسرعة فائقة. أجسامهم، أفكارهم، كلّ يوم، تراها تنمو، تكبر، تتغيّر. في قلوب الشباب طاقة مشتعلة. في أعين الطلبة نار موقدة...
كنت أجتهد حتّى أدفع بطلبتي إلى طلب المعرفة، إلى إعادة النظر في ما شاع من فكر. ما كنت أبدا أستاذا تقليديّا، نمطيّا. أتّبع الصراط السويّ. أمشي في الدرس خطّا مستقيما. في الحقيقة، أنا أستاذ مشاكس. رافض. لا أحبّ السير على السكّة ولا المألوف من النظر. كنت دوما أسعى إلى تجاوز الفهم المشترك، إلى تكسير ما راج من طرح، إلى إلغاء ما انتشر من سنن. في مقولاتي أحيانا استفزاز. في شروحي، أحبّ رفس المفاهيم الدائرة وعفس القيم المتداولة. أهوى الجدال. أحبّ المزح والوقوف عند كلّ شاذّ وطريف. في قسمي، ألقاني مع طلبتي أمرح. ألهو. أحيانا، أنسى الدرس. أمشي به في سبل شتّى. أحيانا أنقلب. أراني حانقا، شرّيرا. فيخاف الطلبة من غضبي. كنت صعب المراس. فيّ شدّة كتلك التي عرفتها في الكتّاب، مع المؤدّب...
أنا أستاذ ليبراليّ. أمشي بالدرس كما شئت، حيث شئت. قد أطيل الشرح وأمشي بالكلام في سبل بعيدة، لا صلة لها بالموضوع. أحيانا أختصر القول وأتجاوز الفصل بسرعة. حيث ألقى متعة، أطيل الشرح وأعيد القول مرّات عدّة. المهمّ عندي هو نسج درس خفيف الظلّ، ممتع. لا نقل في دروسي ولا كتابة ولا إملاء. لا مكان عندي للحفظ ولا للذاكرة. المهمّ هو الإدراك والتنقيب والتجاوز. في القسم، أحبّ الوقوف عند المفردات. تراني أنظر في المعنى. في ما خفي من دلالات وما كان من مشتقّات. أحبّ النقد والتقليب في الأوجه المختلفة. دوما أعيد على طلبتي: «لا يقين في العلوم ولا حقيقة ثابتة. العلم بناء إنساني لحقيقة جزئيّة، مؤقّتة.»
رغم السنين تجري، كان لمعاشرتي للطلبة أن بقيت شابّا له نضارة في الفكر وطيش في العيش. في السبعين من العمر، مازلت مشاغبا، لعوبا. أحب المزاح واللهو وأبغض الوقار والجدّيّة. أنا اليوم أتكلّم كالشباب. ألبس مثلهم. في قلبيّ زهو وفطرة. أمشي في الأرض مرحا. أحيا في بعض قطيعة مع المجتمع، مع الدين، مع السلط الحاكمة. أنا إنسان مشاكس. دوما أنتقد. دوما أعارض. أحمل أسئلة كثيرة، وهذا فضل من فضائل الجامعة. في الجامعة، السؤال والنقد هما أساس التدريس. كنت آثر الهدم على البناء. كنت دوما أسعى إلى النقد، إلى الرفض، إلى النظر في ما جاء في القول، في النظريّة، من شوائب وعلل. كذلك عشت بين الشكّ والنقد. دوما في تحفّز، في تأهّب...
° ° °
بعد تخرّجي من المعهد الأعلى للتصرّف وقبل اللحاق بالجامعة، كنت قد اشتغلت في السكك الحديديّة طيلة خمس سنوات. في الشركة العموميّة، رأيت الناس يمشون على أربع. همّهم أجور وامتيازات وترقيّة. كلامهم قوالب مقفلة. آفاقهم موصدة. في السكك الحديديّة، كانت حياتي خطّا مستقيما. دائرة مغلقة. لا اعوجاج فيها ولا خروج عن الصفّ. في شغلي رتابة تامّة، مطلقة. كلّ يوم أعيد ما أتيته البارحة وطوال الأشهر المنقضيّة. أنا حلقة مفرغة. كرهت الشغل ونفسي. رغم ما كان لي من أجر بهيّ ومن حظوة، قرّرت ترك وظيفي ومغادرة السكك الحديديّة. التحقت بالجامعة وفيها أجر ضعيف وفقر. في الجامعة، أصبحت حياتي أخرى. كانت أيّامي نورا بهيّا. ها أنا وسط جموع الطلبة. مع الشباب أحيا. أمرح. ينشرح قلبي. أعود صبيّا. العمل في الجامعة نظر وشكّ وناسخ ومنسوخ. في الجامعة، هناك حركيّة. هناك خيال يرفرف وفكر طليق...
هذه السنة، لا عودة لي إلى الجامعيّة. أغلقت في وجهيّ الأقسام. انتهى عنديّ الدرس. هذه كتبي أمامي كما تركتها فوق الرفوف. هذا حاسوبي مغلق، مغبّر. هذه أقلامي مبعثرة. ها أنا وحيد في مكتبي. أمامي، في الساحة، أرى الطلبة وقد جاؤوا من كل ّ فجّ وقد لبسوا أحسن ثوب. كلّهم في ضحك. كلّهم في زهو. إلا أنا فكنت في مكتبي، في بعض غمّ، في حزن. ماذا عساني أفعل هنا اليوم؟ أنا أخرجت من الجنّة. أنا انتهيت. أنا اليوم متقاعد. يجب أن أطوي الصفحة. يجب أن أفتح صفحة أخرى. أي صفحة أخرى أفتح بعد أربعة عقود من الحياة النعيم؟ أيّ حياة هي اليوم ممكنة؟
° ° °
يقول المنصف صاحبي ونحن نمشي في المسلك الصحّي، نحثّ الخطى، حفاظا على ما تبقّى من سلامة وصحّة: «اليوم يا شيحة أنت على مشارف السبعين من العمر. ها أنت تنتهي من الشغل وقد مرّ الزمن وكبر الصغار وطار كلّ بجناحيه. اليوم، أنت تدخل طورا آخر من العمر مختلفا. حان الوقت. يجب أن تطويّ صفحة وتفتح أخرى. تلك هي سنّة الحياة في الأرض. اليوم، يجب أن تنتهي مع ما كان لك في ما مضى من تهافت ومتاهات وشؤون. كلّ ذلك انتهى اليوم. حان الوقت لتعود إلى ربّك وتعيد النظر في عيشك. عليك أن تتدارك أمرك قبل فوات الأوان...». ماذا يقول المنصف؟ ماذا هو يعني؟ أعلم أنّي في السبعين من العمر. ما معنى أن تكون في السبعين من العمر؟ هل في السبعين من العمر تنتهي الدنيا ويتوقّف الزمن؟ أنا اليوم في السبعين من العمر وأنا حيّ أرزق. أرى وأسمع وأتبيّن. في قلبيّ تدفّق ووجد. في رأسيّ حبّ وتطلّع في فمي ابتسامة وقبل. هل في السبعين، يموت الإنسان بالضرورة؟ ما المانع من أن تنعم وتحلم وتأخذ نصيبك من الدنيا وعمرك سبعون؟ هذا كلام فارغ. يا له من غبيّ، شقيّ، صاحبي. دعني منه. لن يمسّ كلامه من عزمي ومن شغفي. ليعلم العالم أنّي في السبعين من عمري ومازلت أحب الحياة والدنيا وأنظر في النساء وأعشق ما فيهنّ من لحم وقدّ وشفاه تقطر. نعم، أنا مازلت محبّا للقمر، للفواكه، للجنس، لما في الدنيا من خيرات ولذّات مختلفة. لم أشبع من الدنيا ومنها لم أرتو...
غدا، سأمشي إلى كاب زبيب لأزرع أشجار رمّان وزيتون وأسقي أزهاري وما كنت غرست من شجيرات الورود. في كلّ عشيّة، أقطف ما طاب من الثمار، أجمع باقة من الورود. في الصيف القادم، سأمشي إلى البحر. أسبح مع الصغار. أغوص في اليمّ. أنظر في ما كان تحت الموج من حجارة، من سمك، من حشيش. أمّا كتابي الثاني فها أنا، كلّ صباح، أراجعه، أرتّبه، أعيد قراءته. قريبا سأنشره. سوف أطبعه في ألف نسخة. اتّفقت بعد مع صاحب المطبعة. سوف أتولّى بنفسي توزيعه. سوف يقرأه قلّة من الناس قليلة. بعضهم سوف يلقاه طريفا. بعضهم سوف يلقاه ساذجا، لا يسمن. لا يهم. المهمّ عندي هو أنّي قضّيّت مع كتابي زمنا حلوا. أنّي عشت مع نفسي فترات جميلة...
في آخر الصيف، إن انتهت الجائحة ولسوف تنتهي الجائحة، سأسافر إلى كندا لقضاء شهر أو شهرين. هناك سوف ألتقي مع ابنيّ وحفيديّ. أنا أحبّ حفيدتي «نينا» وما هي تقول من قول خليط، مبهم وما هي تأتي من فعل خطير، شيطانيّ. لا تسكت نينا أبدا. هي دوما في هرج، في صراخ، في جري. أمّا أخوها الرضيع فهو بين أحضان أمّه، مرّة يرضع، مرّة يضحك. سأتجوّل في مدينة مونريال طولا وعرضا. أنا لا أحبّ المغازات ولسوف أنتظر زوجتي في مقهى حتّى تعود... نسيت جارتي. يجب أن ألقى جارتي. غابت عنّي جارتي منذ نحو أسبوعين أو شهرين. نسيت متى لقيتها، آخر مرّة. سأمشي إلى العطّار أشتري خبزا. سوف ألقاها في الحانوت تشتري خبزا. سوف أحيّيها بلطف فتردّ على تحيّتي بابتسامة عسليّة. هل الفرصة سانحة لترتيب موعد سرّيّ؟ أنا اشتقت إلى أحضان جارتي وبين يديها أطمئنّ وأحلم. يهزّني نوم خفيف، عميق. جارتي تشبه أمّي. فيها رقّة ودفء ونعيم..
نسيت زوجتي. كيف أنسى زوجتي وهي دوما في عينيّ، بين أضلعي؟ زوجتي هي عشيرتي. معها قضّيت العقود. معها عرفت العسر واليسر والغضب والسرور. أحيانا، أقول ليتني لم أتزوّج. أحيانا، أقول في الزواج معاضدة ومؤانسة. يجب أن أهدي زوجتي هديّة. منذ سنين لم أهدها هديّة. هل أهديها باقة ورد أم خرسا من الذهب والياقوت؟ لا أدري. سوف أسألها ماذا تريد؟ أنا أعرف ما تريد. هي تحبّ الورود. سوف أهديها ما تريد...