مجلة الأحوال الشخصية (الجزء الثاني): بورقيبة وتكتيك الإصلاح

نشرنا أمس الحلقة الأولى من هذا البحث لبكار غريب (عميد كلية العلوم القانونية والاقتصادية و التصرف بجندوبة) تحت عنوان «مجلة الأحوال الشخصية :ثورة مجتمعية وليدة إبداع فكري وجرأة سياسية» تناول فيه ظروف نشأة هذه المجلة وأبرز قيمتها في المجتمع ثم تناول منهجية الاصلاح

المعتمدة من قبل الطاهر الحداد... وفي حلقة اليوم (الثانية والأخيرة) تناول مسألة تبني الزعيم بورقيبة المشروع الاصلاحي للحداد مستعملا حنكته السياسية ومسيرته النضالية وثقافته لتحليل مختلف أحكام مجلة الأحوال الشخصية.
على عكس الحداد الذي كان مثقفاً ناضل على الصعيدين الفكري و الاجتماعي من أجل مشروع إصلاحي بدون الوصول إلى السلطة، فإن بورقيبة كان كذلك مثقفاً يحمل مشروعاً لكنه تمكن من إعتلاء سدة الحكم وبالتالي من استعمال جهاز الدولة لتحقيق برنامجه الإصلاحي . فكان من الطبيعي أن يرسي التحول الحضاري المنشود عن طريق القانون بإصدار مجلة الأحوال الشخصية في 13 أوت 1956, أقل من خمسة أشهر بعد الإعلان عن إستقلال البلاد، مؤكداً طرح غرامشي في هذا المجال: «إذا كانت الدولة تسعى إلى إزالة بعض التقاليد وبعض العقليات ونشر تقاليد وعقليات أخرى، فإن القانون سيكون الأداة المناسبة لبلوغ هذه الغاية.» (كراس 13, فقرة 11). ولكن لا يجب أن يوحي هذا ببساطة العملية، أي بأن الظفر بالحكم و التحكم في جهاز الدولة يسهلان عملية الإصلاح التي تصبح مرتبطة بمجرد سن القانون الجديد، لأن في قضية الحال وكما أشرنا إلى ذلك سالفاً ، الأمر دقيق جداً لارتباطه بما هو حميمي (الأحوال الشخصية) ولاصطدامه بعقليات سائدة رافضة لجوهر ما أتى به الإصلاح، أي تحرر المرأة من الوصاية الذكورية التي كانت مفروضة عليها، وخصوصاً لتعرضه لمجال قانوني كان لا يزال يستند إلى الشريعة الاسلامية ومن ورائها إلى القرآن. وهذا ما يستدعي خصالاً أخرى في إدارة العملية أهمها إمتلاك جرأة و حنكة سياسيتين وقدرة على الإقناع علاوة على رؤية ومشروع واضحين .

بورقيبة والجرأة السياسية الكبيرة
فخلافاً لما يمكن أن يتبادر لأذهاننا ستون سنة بعد الحدث، و قد أصبحت أهم أحكام المجلة من قبيل المألوف والمعتاد، فإن الإقدام على إصدارها في ذلك الوقت، وفي ظل ما كانت عليه العقليات السائدة، كان أمراً يستدعي جرأة سياسية كبيرة. وفي هذا السياق ليس هناك أبلغ من شهادة مناضل سياسي و اجتماعي فذ كان خصماً لبورقيبة، الفقيد جورج عدة، عندما صرح في خصوص الإصلاحات الذي وضعت فجر الاستقلال وخصوصاً مجلة الأحوال الشخصية: «نحن الشيوعيون و اليسار بصفة أوسع (إن كنا مكانه) لما كنا قادرين على ذلك، كنا قد نخاف من الذهاب إلى ذلك الحد، من صدم الرأي العام بتلك الطريقة، من الإقدام على مثل هذه المخاطرة ... كانت بحق جملة من الإجراءات الشجاعة والجريئة». وهنا يجدر بنا التوقف على مسألة التوقيت الذي اختاره بورقيبة لخوض المعركة . فإن لم تكن اللحظة مؤاتية من ناحية الاستقرار السياسي و الأمني (تواصل المصادمات العسكرية بين الجيش الفرنسي الذي كان لا يزال موجوداً على التراب التونسي و المقاتلين الجزائريين) فإنها كانت جد مناسبة من ناحية مستوى السلطة المعنوية التي حازها بورقيبة بعد تتويج مسيرته النضالية بالظفر بالاستقلال التام تسعة أشهر بعد إمضاء إتفاقية الاستقلال الداخلي وشعبيته في أوجها.

وبطبيعة الحال لا تقتصر الحنكة السياسية في إدارة عملية الإصلاح على حسن اختيار توقيته فحسب وإنما هي تتعلق كذلك بمدى النجاح في إخراجه. وهنا يجب الإقرار بأن بورقيبة قاد العملية بكل اقتدار. فقد انخرط بوضوح في المسار الذي افتتحه الحداد والمتمثل في تأسيس الإصلاح انطلاقاً من الإرث الحضاري للمجتمع و ليس من خارجه مستنداً إلى البعد الديني ومؤكداً على براءة الإسلام من مسؤلية الانحطاط التي آلت إليه المجتمعات المسلمة ومذكراً بالقيم النيرة التي يحملها وبقدرته على التتطور ومسايرة التحولات المجتمعية المعاصرة. وتجسد هذا التمشي في تعليل مختلف أحكام المجلة و بالخصوص في تقديم الحكم المتعلق بإلغاء تعدد الزوجات، حيث اعتمد بورقيبة تأويلاً جديدا لآيتين قرآنيتين لتبريره دينياً. مما جعله يستأنف من جديد، وبعد قرون من التوقف، مجهود الاجتهاد في الإسلام، كما أكد على ذلك هو بنفسه في خطاب له سنة 1972: «وفي الواقع أن كل ما أقدمت على تغييره لفائدة المرأة التونسية كان من قبيل الاجتهاد الذي أرجو من الله الثواب عليه».

وهكذا يمكن القول بأن بورقيبة أدرك جيداً بفضل حدسه السياسي تلك الحقيقة التي تجعل الشعوب متشبثة بعناصر من العقيدة، وفي بعض الأحيان بالمظاهر منها، حتى و إن تطورت وتجاوزتها في الواقع المعيش، خاصة وإن نظرت إليها وتمسكت بها كجزء من هويتها. وهو حال ما له علاقة بالدين اليوم في مجتمعاتنا المسلمة، كما أشار إلى ذلك هشام جعيط : «إن ظاهرة اللجوء إلى الدين كمعقل الهوية الصلب، وهو فعلاً كذلك، يعني إنا قد دحرنا للأسس».

هل نحافظ اليوم على مكاسب الأمس؟
رأينا إذن كيف أن إصدار مجلة الأحوال الشخصية ، هذا الإصلاح المجتمعي الريادي والفريد من نوعه في محيطنا الحضاري ، استوجب خوض صراع كبير على الصعيدين الفكري والسياسي على حد السواء وأنه لم يكن لينجح لولا قيمة النخب التي خاضت هذا الصراع ونبوغ أبرز وجوهها : الطاهر الحداد كمفكر و الحبيب بورقيبة كسياسي. واليوم وفي الوقت الذي نعود فيه إلى هذه اللحظة التأسيسية لمجتمعنا لاستجلاء أهم معانيها و للوقوف على ما حققته من مكاسب لشعبنا، فإننا نطمح كذلك إلى تطويرها و مواصلة العمل على تلافي مواطن التمييز بين الرجل و المرأة التي مازلت موجودة في القانون . و في هذا السياق علينا أن نعي جيداً أنه ليس هناك تقدم ممكن في هذا المجال بدون الإعداد الجدي للمعركتين الفكرية و السياسية خاصة وأن ما نعيشه في الوقت الراهن في مجتمعاتنا من إنطواء على الذات و على الهوية بالخصوص قد يعقد المسألة ولا ييسر المعارك المجتمعية. ولكن علينا كذلك أن نعتبر من ملحمتي الحداد وبورقيبة لنفهم أنه ليس هناك معارك تربح إذا غابت عنا الجرأة و إذا فقدنا الطموح و إذا افتقدنا المشروع الواضح و الرؤية الواضحة .

بقلم: بكار غريب
(عميد كلية العلوم القانونية
والاقتصادية والتصرف بجندوبة)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115