من العيش المشترك إلى العيش بذكاء: مقاربات في الواقع الليبي الراهن وقراءات في تشعباته

لطفي عيسى: استاذ التاريخ الثقافي بجامعة تونس
بمبادرة من مركز الأبحاث والاستشارات التابع لجامعة بنغازي ومخبر تاريخ الاقتصاديات والمجتمعات المتوسطية التابع لجامعة تونس، وبتنسيق من إدارة المبادرة المدنية الليبية ACTED، احتضنت مؤسسة الأرشيف الوطني التونسي ندوة علمية تحت عنوان «العيش

المشترك في ليبيا وفي مجالات جغرافية أخرى»، وذلك يومي الخميس والجمعة 5 و6 ماي 2016، نسق أعمالها وأدارها بكثير من الاقتدار أستاذ التاريخ المعاصر رياض بن خليفة.

أهمية التقاء الارادات
حاولت العروض المؤثثة للمحور الأول الوقوف وضمن مداخلة أستاذة الإسلاميات حياة عمامو عند علاقة منظومة حقوق الإنسان وما يماثلها في الخطاب الديني الإسلامي مشدّدة على تباين المرجعيات والسياقات والتطورات وذلك عبر التركيز على ثلاث مسائل: الحق في الحياة، وحرية المعتقد، والوضعية القانونية للمرأة حيث بدا التباين واضحا بين سمو المقاصد الروحية وحدود الممارسات سواء فيما يتصل بالحرمة الجسدية أو بخصوص التنصيص على حرية المعتقد أو فيما يتعلق بالتمسك بالتصوّرات الساميّة الدونية المبنية على تأثيم المرأة قصد إقصائها عن الساحة العامة. وتكتسي الحقوق الثقافية التي طفت على السطح منذ ما لا يزيد عن 15 سنة تقريبا ومثلما عرضتها علينا مداخلة أستاذ كرسي الفلسفة والأخلاق باليونسكو «باتريس ماير بيش Partice Mayer Bich» في هذا الصدد أهمية بالغة من حيث تجاوزها لمدلول العيش المشترك والتشديد على ضرورة تجسير علاقات جديدة تنبني على إقرار حق الاختلاف وكونية حق الحياة بكرامة والاعتبار بأهمية الحصول على المعرفة وتطوير الملكات، قصد العيش بشكل متوائم وذكي. فالتنوع الحقيقي هو تنوع الأفراد والأوساط الثقافية حيث يحيل تبادل المعارف على النسيج الحقيقي للمجمعات المُدركة إلى أن الحوار الحقيقي لا يتم بين الثقافات بل بين الأفراد رأسا.

وهو نفس ما خاضت بشأنه مداخلة أستاذ علم الاجتماع المنصف وناس بخصوص كيفية التقاء الأفراد المتصلة بالإكراه والتعاون بغرض الظفر بمعقولية ومشروعية في ظل ما نعته بالتوافق أو compromis والالتقاء حول معنى نبيل للعيش المشترك. ويكتسي الحوار أهمية بالغة في التوصّل إلى تحقيق ذلك وخاصة في سياق الأزمات التي رافقت الانقلاب الحاصل على الساحة السياسية وبروز هشاشات مجتمعات مختلف بلدان «الربيع العربي»، وحالة الانفجار السياسي وتلاشي فرص الحوار بل وعدم حضور استعداد موضوعي له، علما أن هذا الاخير يشكّل على الحقيقة عملية «تجميع للإرادات» وفرصة للتنسيب والمراجعة والقطع مع منطق الخوف واستعظام الأمور والنظر باعتدال، وهو ما يحتاجه الواقع الليبي راهنا. غير أن الحديث عن «عبقرية الحوار» يوازيها من منظورنا الخاص الحديث عمّا قد تستقيم تسميته بالحوار العقيم عن انتاج المعنى أو الدلالة، حيث تنعدم الثقة وتستشري ثقافة «الرجم بالغيب» وتتراجع فرص التجسير ورأب الصدوع وإعادة بناء الدولة العادلة وتحقيق التصالح على أسس عادلة وتمتين فلسفة الحوار البيني أو «التقاء الإرادات» على حدّ تعبير الفيلسوف موريس مارلو بونتي Maurice Merleau-Ponty الرائق.

منطق التفرقة
خاضت جل المداخلات المدرجة ضمن المحور الثاني الذي تم افراده لموضوع «تسوية النزاعات في سياق الأزمات في ليبيا»، تلك التي اقترحتها علينا تباعا مداخلات الاساتذة نورة اللافي ومحمود بوصوّة ومحجوب الحصّادي وأمال العبيدي وزاهي المغيربي، رسوخ ثقافة التنوع ضمن النسيج المجتمعي الليبي، حيث عولت استاذة التاريخ الحديث بمركز البحوث الإسلامية ببرلين نورة اللافي على يوميات «حسن الفقيه» والارشيفات العثمانية والبابوية وذلك قصد تدبّر تجارب إدارة الاختلاف العرقي والملّي بطرابلس من خلال مؤسسة «شيخ البلد» تلك التي تحوّلت إلى فضاء خدمات بلدية متجانس، مع حقيقة التنوع الملي ضمن أحياء مدينة طرابلس خلال مرحلة ما قبل الاحتلال الايطالي. وهو ما يسفّه منطق الحداثة المستنبتة في غير تربتها ويشي بقدرة المجتمع الحضري الليبي على عقلنة ثقافة الاختلاف الملي والعرقي وثراء الحياة الجماعوية والادارية، تلك التي تم ابتسارها مع حلول الاستعمار توافقا مع منطق التفرقة من أجل استمرار الهيمنة الأجنبية. وهو ما يتعين تأمّله بشكل دقيق لاستيعاب واقع الاستعمار الجديد وإعادة انتاجه لنفس الآليات قصد التعميّة على موروث الليبيين المتوفّر على مستوى عال من النجاعة في تصريف واقع الأزمات وتمتين صلة الليبيين بثقافة التعايش.

وتحيل العروض المقترحة من قبل أستاذ العلوم السياسية بطرابلس محمود بو صوّة على نفس الإشكالية من منظور جغرافي يتصل وفي مستوى الزمن الممتد أو الأمد الطويل على قبول الليبيين بتمثّل خاطئ يقسّم المجال الليبي إلى إقليمين: ساحلي متحضّر وداخلي لم يبرح موضع البدائية بل والتوحّش، وهو ما ساهم في بناء تخوم ثقافية متوَهّمة تحيل على مجال نافع ومبغوض باعتباره «مُتَطَلْيَن» وآخر غير نافع، يشكل حاضنة لكل حنين لاتسامه بمطلق الطهرية. مما تسبب في تعدّد الأقاليم الجغرافية الرخوة espaces molles وتفاقم الخلافات ضمن المناطق الحدودية التي استعصت عملية إدارتها على الدولة الوطنية، لأن هذه الأخيرة لم تستوعب بشكل دقيق حقائق الجغرافية.

واصل أستاذ الفلسفة بجامعة بنغازي محجوب الحصادي الخوض في مسألة صعوبة تسوية النزاعات في سياق الأزمة الليبية من خلال التوقف عند المنظومة القيمية والتثبّت من مؤشرات القبول بالآخر. فقد عرضت مداخلته بشكل تطبيقي إلى مستويات قبول الليبيين بالآخر من خلال وضع مجموعة من الاستبيانات ومقارنة نتائجها المتصلة بالقبول بالتجاور مع المخالف مليا وعرقيا وجندريا، مع مجموعة من البلدان العربية والغربية، مبيّنا أن استعداء الآخر مسألة وافدة غير متأصلة في النسيج المجتمعي الليبي، معتبرا أن هشاشة الاقتصاد الريعي وطبيعته المنغلقة هي المتسبب الرئيسي في تضخم مظاهر الشوفينية داخل المجتمع الليبي على الحقيقة، واتسام الذهنيات بالانغلاق والمغالاة في المحافظة وتعثر مسيرة تحرّر المرأة وانتشار التطرّف الديني، ذاك الذي يوشك على صياغة هويات غريبة غير صحية يكون ضمنها اليمني أو السعودي أقرب إلى المنادين بـ»الصحوة الإسلامية» مقارنة بمن يشاركونهم الانتماء إلى نفس الوطن.

العيش المشترك والمواطنة
وتعرض مداخلة أستاذة العلوم الاجتماعية آمال العبيدي إلى ذات المسألة من زاوية ما أسمته بالتنشئة السياسية، وذلك عبر استقراء مضمون الكتب المدرسية المخصّصة للتثقيف المواطني أو التربية المدنية في مختلف مستويات التعليم الأساسي أيام حكم النظام الجماهيري لمعمر القذافي، معتبرة أن انعدام رؤية ليبية بخصوص المناهج التربوية هي التي أشرعت الباب أمام الإيديولوجية الوحدوية العربية ذات النفس الصدامي الثوري، وهي التي أفرزت نظام القذافي الذي ركّز مسار التنشئة على معسكرات الإعداد السياسي والتعبئة قصد إحلال ما نعته بالمجتمع الجماهيري واللجان الثورية وبناء جيل الغضب الثوري والاستثمار في السلوك العدواني العنيف وبناء الإنسان الحاقد، معتبرة أن ما يحصل حاضرا لا يمثل سوى نتيجة موضوعية ومآل طبيعي لما تمّ زرعه، لذلك تعمل فلسفة المناهج الجديدة ومنذ سنة 2012 على تلافي هذا الوضع الكارثي من خلال التركيز على الجوانب الصحيّة بالتنشئة على الاعتزاز بالانتماء للوطن والتواصل مع المحيط والارتقاء بمستوى المواطنة المسؤولة.
وهو ما واصل استاذ العلوم السياسية بجامعة بنغازي زاهي المغيربي الحفر بشأنه من خلال التوقف عند معوّقات الاحتكام إلى الديمقراطية التوافقية بوصفها السبيل المثلى لتحقيق العيش المشترك بين الفرقاء الليبيين. حيث اعتبر مقترح هذه المداخلة أن الأزمة الليبية لا تعود إلى راهن أوضاع البلاد بل هي مسألة متأصلة عاينتها مختلف المحطات الكبرى التي علّمت تاريخ ليبيا المعاصر زمن الاستعمار وخلال مرحلة النظام الملكي وأثناء حكم القذافي وكذا الأمر بالنسبة للمرحلة الراهنة، حيث تتخذ تلك الأزمة جملة من الأبعاد المتّصلة بما اسماه الباحث بأزمات الهوية وأزمات الشرعية الجغرافية والسياسية وأزمات تغلّغل الدولة في المجتمع وأزمات التوزيع المتصلة بالثروة والمشاركة في الحياة العامة، وجميعها في حالة ارتهان متبادل بحيث ينعكس ذلك سلبا على إمكانيات بناء الدولة-الأمة الليبية. كما يقرّ صاحب المداخلة بضرورة الاحتكام إلى الديمقراطية التوافقية القابلة بالتعدد والاعتراض المتبادل واعتماد التمثيل المتنوع قصد تحقيق الاستقرار وصون الوحدة والتعاون بروح من الاعتدال والقبول بالحلول الوسطى، لاسيما وأن المجتمع الليبي وفي نسبة تضاهي 80 بالمائة من سكانه مُتوفر على استعدادات موضوعية لتحقيق ذلك، تجاوزا للخطاب المغشوش حول استشراء واقع الاستحراب القبلي وانعدام كل امكانية في حصول التوافق، وهو أمر موكول إلى النخب التي تبدو غير معنيّة بالسؤال المحوري المتمثل في ما الذي تعنيه ليبيا بالنسبة لنُخبها؟

• أشباه عناوين من وضع التحرير

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115