حديث الفرد: يا حبيبي، كل شيء بقضاء...

لا أدري لماذا أصبحت عاشقا لأغاني أم كلثوم. أعشق أيضا ما تغنّيه صليحة وأحبّ ما جاء في أغانيها من كلمات كلّها ضياء ورقّة.

في أغاني أمّ كلثوم، هناك بلاغة وحسن قول. أغاني أمّ كلثوم ليست فقط لحنا وصوتا. في أغانيها قول ثقيل وعمق. في إحدى روائعها، في أغنيّة الأطلال، في ما أذكر، كثيرا ما ردّدت مع كوكب الشرق هذا البيت: «يا حبيبي، كلّ شيء بقضاء. ما بأيدينا خلقنا تعساء». أردّد القول في طرب وٍنشوة. أعيد البيت مرّات عدّة. أنظر جليّا في الكلمات. أتبيّن المعنى. يشدّني سؤال وحيرة. ما القضاء يا صاحبي وما أصله وكيف هو انتصب فينا واستبدّ؟ لماذا كتب علينا أن نحيا تعساء؟ لماذا بالقضاء نرضى؟ القضاء قضيّة معضلة. القضاء إشكاليّة معقّدة...
° ° °
ما يغيضني في تصرف العديد من طلبتي وهم شباب عتيّ، ولدي الكثير من أهلي وصحبي، ذاك الاعتقاد الراسخ أن كل ما يأتيه الفرد هو قضاء وقدر. هو من مشيئة الله وحده ولا دخل للفرد فيه ولا حول. نحن تعساء لأنّ القدر شاء. نحن في نعيم وبهاء لأنّ السماء شاءت. كلّ ما كسب الفرد وكلّ ما أتى من خير وشرّ هو قضاء منزّل. نحن في فوضى، في تخلّف، في وهن، في بلاء أزرق…، كلّ هذا أراده الله لنا وهو «قدر مقدور» ولا مردّ لما أراده القدر، أبدا. يعتقد الكثير فينا اعتقادا قويّا، راسخا، أن الفعل كله هو من مشيئة الله وحده. فإن كان النجاح فذاك ما أراد ربّي وإن حصل الفشل فهو قضاء محتّم. الأرزاق يوزّعها الله والأعمار يحدّدها الله وهداية الأبناء إن اهتدوا أمر من عند ربي وإن نزل الغيث أو حصل جفاف أو مرض أو إفساد في الأرض أو هتك وقتل...، فهي كلها من تدبير عالم عليم وهي كلّها مكتوبة على الجبين ولا شأن للإنسان فيها ولا دخل...
كان من نتائج هذا الاعتقاد أن عمّ الخمول وانتشر التواكل وغدا كل رافعا يديه، داعيا السماء أن تمطره ذهبا أو نجاحا أو عافيّة وصحّة. اشتد مؤخرا هذا الاعتقاد وقد تنامي، بعد الثورة، الحسّ الديني فذهب الكلّ إلى القدريّة المطلقة ولجأ آخرون إلى السحر والشعوذة. مثل هذه الظواهر غدت عندنا اليوم معتقدا عامّا وسلوكا منتشرا وكنت خلتها مع الحداثة قد انتهت وولّت. قضيّة القدرية والخيرية هي قضية قديمة كنت أحسبها بالتعليم وبالتنوير قد حسمت وانطلق الفرد حرّا، مسؤولا، يسعى...
° ° °
قرأت مرة أن الجنرال زرّوق بعد أن هتك بالساحل هتكا وقتل الكثير من أهله، قال مبرّرا لما أتى به إن هذا الذي حصل من سفك للدماء وموت أراده الله لأهل الساحل ولا مردّ لما شاء الله. فلا ذنب للجنرال على ما فعل ولا هو يندم. هذه مشيئة ربّي ولا مردّ لمشيئة ربّي. الجنرال زرّوق هو فقط اليد المنفّذة لإرادة السماء وهو براء من كل شرّ وإفك. كذلك، عاش الرجل بقية حياته هنيئا، مرتاح البال وما كان عليه لوم، وما كان عليه أن يعيد النظر في ما فعل من هتك وظلم. هو يعتقد راسخا أن الله أمره بما فعل وهو أطاع ربّه في ما قتل من نفس...
إن هذه القدرية التي تسكن فينا منذ أوّل الزمن، هي مصيبة كبرى. طالما تشبث بها الإنسان وشدت عقله سوف يظلّ في انفصام مع ذاته ومع ما أتى من صنع. سيكون الفاعل في حال براء ممّا فعلت يداه من خير وشرّ. الخير والشرّ والحرام والحلال كلّها بأمر ربّي. كذلك، يصبح الإنسان في حلّ من أمره. غير مسؤول عمّا يأتي. هو صورة متحرّكة. «دابة» على الأرض تمشي. فلماذا يجتهد العبد ويسعى ولماذا هو يتدبّر ويشقى وهو يعلم علم اليقين أن جهده لن يثمر إلا إن شاء ربّي ولسوف يفشل في المسعى وإن كدح كدحا.
يعسر العيش مع بشر اعتقدوا راسخا أن لا إرادة للفرد ولا رأي له ولا فعل وأنّ الحياة جميعا بما كان فيها من ثراء وفقر، من مرض وصحّة، من تطوّر وتخلّف... هي كلّها من صنع الله وحده ولا شأن للإنسان فيها ولا حول. يستحيل العيش مع من كان فيه انفصام وغدا فكره و فعله خارج حكمه. في تونس اليوم ولدى الكثير من أهلي وطلبتي وصحبي، الفرد هو ريشة في مهب الريح تجري. لا علاقة تجمع الفاعل بالفعل ولا صلة بين السعي والكسب... كذلك، أصبحت حياة الناس في الأرض أيّاما مضطربة. هي صدف تجري. هي حظّ وبخت. لا أكثر ولا أقلّ. في تونس اليوم، لا إرادة للعبد. لا قوّة له ولا قرار ولا حول. كلّ شيء يأتي عرضا. كلّ شيء بقضاء. أن تسرق، أن تنهب، أن تقتل النفس البريئة، أن تسحل العبد المسكين، أن تفجّر السماء والأرض، فهذا كلّه قد يكون. وهذا كلّه قضاء وقدر...
° ° °
كنت حضرت مرة في مجلس تأديب في الشركة الحديدية وكان العون السائق هو المتّهم. ترك السائق القطار يسير لوحده وقد استرخى نوما. حصل حادث مريع وقدّرت خسائر الشركة بعشرات الملايين، لمّا سئل العون عما أتى من فعل كان جوابه: إنه القضاء والقدر وأنه لا يدري كيف لفّه النوم ولا هو يعلم بما حصل وتمّ. كان السائق يعتقد راسخا أنه لم يأت ذنبا وأن قوة خارقة زجّت به في النوم. «كتب الله أن تتحطم القاطرة فتحطمت وما النوم إلا سبب عرضي. فالحادث مقدّر ولسوف يحصل لا محالة وإن مسكت بالفرامل مسكا». ثم يضيف: «لا مردّ للقضاء والقدر بل أنا أشكر الله على ما وقع إذ لم يحصل في الحادث موتى». ولئن كانت خسارة السكك الحديدية فادحة كان العون وأعضاء النقابة الحاضرين للدفاع عنه بل وأيضا رئيس لجنة التأديب يعتقدون أن ما حصل هو قضاء مقضيّ وأن النوم سبب عرضي ولا ذنب للسائق في ما فعل وأضاف الكلّ: «اللوم بعد القضاء بدعة».
في نفس الشركة وفي قضية أخرى. سرق، مرّة، عون أمتعة وآلات متعدّدة، باعها بأبخس ثمن في سوق سيدي عبد السلام. ولمّا دعي لشرح ما فعل قال: «أقسم بالله العظيم، لا أدري كيف امتدّت يدي بدون علمي. في كل مرة تعمى بصيرتي ودون أن أدري تمتدّ يدي إلى المتاع ثمّ أمشي دون إدراك ووعي إلى السوق لبيعها دون علمي» ويضيف: «إنه الشيطان الخسيس يمسك بي. يدفعني دفعا دون أن أشعر ودون أن أدري».
أسوق حكاية أخيرة رواها لي أحد أقربائي وكان تاجرا وتضطره مهنته إلى التعامل مع أناس كثيرين للشراء والبيع. روى قائلا: «كان أحد المتعاملين معي يدفعني كل مرّة إلى إعطائه رشوة. كنت أتبرم وأأبى. لكن، لقضاء شؤوني، كنت أعطيه مكرها ما كتب من مال وهدايا أخرى. مع الزمن، أصبحنا متعاشرين. نلتقي في المقهى. نصلي معا يوم الجمعة. في يوم، أخذت عزمي وقلت له: «كيف تقبل الرشاوى يا صاحبي والله يتوعد المرتشين عذابا شديدا». فكان جوابه: «ما كنت أقبل الرشاوي أبدا وما أخذت هو هدية من أصدقاء حميمين، أحبّهم!» ثم يضيف: «إن الهدية ليست رشوة بل هي إكرام، هي رزق يبعثه الله إليك من حيث لا تدري».
مثل هذا السلوك متفشّ عندنا اليوم. مثل هذا النظر هو عامّ عند الدهماء والمثقّفين أيضا. الدنيا عندنا «أقسام» وأرزاق يوزّعها الله على عباده كما شاء بلا حساب وبلا مقابل يذكر. يرزق الله عبده كما شاء ومن حيث لا يدري. ذاك ما يعتقده الكثيرون من أهلنا وكذلك غنّت في لوعة أم كلثوم في الأطلال: «يا حبيبي كل شيء بقضاء. ما بأيدينا خلقنا تعساء»...
قد يقول البعض: القضاء والقدر ذكره الله في كتابه وأكّده أكثر من مرّة. في القرآن يا صاحبي تلقى كلّ شيء. وأسباب النزول متعدّدة. في كتاب الله أيضا دعا صاحب العرش أن يكدح الإنسان كدحا وقال مؤكّدا: «أن ليس للإنسان إلا ما سعى»...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115