صدمة أحزاب ثورة البرويطة وضياع ثورة الله ومراهقو ثورة الكرامة

هناك ثلاثة أسئلة تحير المتابعين لنتائج الانتخابات التونسية: لماذا سقط مرشحو «الماكينات» القديمة،

ولماذا يكسب «شعبويون خيريون»، وتنجح شخصيات متفردة شبه زاهدة؟

من المؤكد أن الإجابة عن هذه الأسئلة تتطلب وقتا وفحصا دقيقا لمجمل النتائج النهائية. لكن حينما نتابع النقاشات المتلفزة أو الفيسبوكية الجدية المتعلقة بهذه الأسئلة، نحصل إما على أجوبة إحصائية وصفية من قبل من صوت لمن (وهي مهمة - استخدمنا هنا نتائج سيغما)؟ أو على أجوبة معيارية –فيها كثير من الصخب والتشنج- تلوم التونسيين على عدم إقبالهم بكثافة على التصويت، وتشتت السياسيين وإصرارهم على الترشح فرادى، أو تتهم الجيل الصاعد –مثلما كان الحال قبل الثورة- بأنه لم يقرأ كثيرا من الكتب ولم يثقف نفسه ليفهم السياسة أو ليصوت لمصلحته!

في الحقيقة وفي حدود هذه النظرة الأولى، يمكننا أن نسجل 5 ملاحظات نعتبرها مهمة لفتح طريق فهم أحجية الانتخابات الرئاسية التونسية: الملاحظة الأولى أن أغلب من صوتوا لرئيس حزب قلب تونس، نبيل القروي، جاؤوا من حزب نداء تونس. الملاحظة الثانية أن أغلب من صوت لقيس سعيد شبان تتراوح أعمارهم بين 18و25 سنة، والنسبة الأعلى منهم لها مستوى تعليم عالي. الملاحظة الثالثة أن مرشح حزب النهضة، الذي عود التونسيين على تماسكه، حصل على نتائج هزيلة. الملاحظة الرابعة أن النساء صوتن تقريبا بنفس النسب لقيس سعيد ولنبيل القروي. الملاحظة الأخيرة أنه لا اليسار التقليدي ولا الوسط الديمقراطي حصلا على أي شيء من هؤلاء الناخبين.

من خلال هذه الملاحظات تبرز لنا الظواهر السياسية التالية:
1 - أن الذين تجاهلوا الثورة ولم يعترفوا بها، بل حتى تنصلوا منها وتكلموا عنها «بين ظفرين» أو قوسين، وسبوها بنعتها بثورة البرويطة، أظهروا أنهم سياسيون من النوع الرديء الذي يحافظ على بنية الفشل ويحاول أن ينجح بها. لقد استعمل الكثير من هؤلاء بقايا بنية التجمع وثقافته ومهاراته، دون أن يخطر ببالهم أن العالم الذي كانوا يحتكرونه سياسيا قد انفجر بين أيديهم وتشظى، وأن التجمع الذي اشتغل به حزب النداء قد مات فعلا سوسيولوجيا.

2 - أن حزب قلب تونس الذي صوتت له قاعدة نداء تونس - وهذه الظاهرة عميقة جدا من الناحية الاجتماعية- كان في الحقيقة استلم من التجمع الدستوري الديمقراطي قواعده الفقيرة، ولكن بطريقة جديدة. فليس العمدة ورئيس الشعبة وفرقهم البالية من كان يوزع صدقة وهدايا «خليل»، بل شبان في جمعية مدنية «خيرية» يتكلمون لغة جديدة، غير محليين في غالب الأحيان، مرتبطين بشبكات النت ويمثلون أفقا حداثيا جديدا، وكل ذلك مسنود بعمل حرفي اتصالي عبر التلفزة والفيسبوك. ومن المهم هنا تقديم ملاحظة دقيقة تؤكد ما نذهب إليه. فلقد بين البحث الميداني الذي أجراه فريق بحث تونسي في سيدي بوزيد والقصرين في نهاية 2011 وبداية 2012 أن حوالي 52% من قواعد التجمع الدستوري الديمقراطي كانت مكونة من الفقراء والمحتاجين لمختلف أشكال الإعانات، وهذه هي الفئة التي أخذها قلب تونس خاصة في المناطق التي تعاني أكثر من غيرها من الفقر في أقصى الشمال الشرقي والغربي للبلاد. وقد حاول يوسف الشاهد المنافسة في هذا الميدان، لكن كانت وراءه «لوثة» تاريخ حزب بن علي بسبب وجوده على رأس الحكومة.

3 - أن الذين صوتوا للسيد قيس سعيد لهم تقريبا نفس هوية من خرجوا سنة 2010 و2011 في المظاهرات، وواجهوا الرصاص بصدورهم العارية: شبان، متعلمون، الكثير منهم عاطلون عن العمل، فاقدون الأمل في المستقبل. لم تفهمهم أحزاب «ثورة البرويطة»، وتجاهلت ثورتهم بأن تجاهلت مطالبهم في فك أسر موارد البلاد من يد محتكريها، وسخرت من شعارات البترول والملح الرمزية، وتعاملت مع أصحابها بيروقراطيا، بينما أحبطهم الفاسدون وإفلاتهم المتكرر من العدالة بالمفهوم الاجتماعي للكلمة.

4 - وفي مقابل فساد أحزاب الشبكات القديمة، وتلبس حزب تحيا تونس بفشل أداء الحكومة، ونمطية حزب النهضة، ظهرت شخصية قيس سعيد المتفردة سلوكا ومظهرا، ولاحت من خلفها مرجعيات الصدق والإخلاص، وخيالات الطهرية والزهد، التي تحيل من بعيد جدا إلى شخصيات أولياء الله الصالحين، أولائك الذين يسمونهم في الثقافة الدفينة «الغوث»...وقد «غوث» له الشباب الذي يفكر في الحرقة والضياع.

5 - ان حزب النهضة تضعضع كثيرا على مستوى علاقته بالقواعد، التي إما أنها أصبحت أكثر راديكالية في موضوع تشبثها بالمرجعية الإسلامية، فلم تعد تر فيه أفق الدولة الإسلامية بعد ان قضى وقتا في تكوينها بهذه الخلفية، وإما أنها اكتشفت المسافة بين خطابه الديني وممارسته الفعلية عندما جرب السلطة والمسؤولية السياسية، فضاعت منه ثورة الله. وقد زاد هذا الأمر استفحالا عندما بدأت فلسفة القيادة عنده تشيخ، وتعيد تكرار تجربة بورقيبة المريرة، فيخرج من صلبه مترشحون خارجون عن سلطته ومعارضون يجهرون بذلك، إلى أن ذهبت بعض أصواته لقيس سعيد وتفرقت أخرى.

6 - أن الخطاب الجندري الذي تسلح به الحداثيون لم يسعفهم هذه المرة في جمع العنصر النسائي حولهم، ليس لأن النساء التونسيات تخلين عن توجههن الحداثي العام بل لأن السياسيين الذي حاولوا استغلالهم كانوا فاسدين ومجرد انتهازيين بإمكانهم التخلي عن أحزابهم عندما تلوح لهم فرص خاصة. ولأن الحداثيين الديمقراطيين كانوا مشتتين ولم يتخلصوا بعد من ثقافة المعارضة والجماعات السرية، فقد تعثروا في فهم وخدمة ثورة الكرامة، وفقدوا طريقها العملي... منحدرين صوب نسب الصفر فاصل في الانتخابات.
كل هذه الظواهر والوقائع كان بالإمكان الانكباب على مؤشراتها الأولى الجنينة، باعتماد المهنية والتواضع وحشد الطاقات التحليلية. لكن العاهة الكبرى للسياسيين التونسيين أنهم يعرفون كل شيء، ولا يقرؤون أي شيء.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115