منبر: الصيرفة الإسلامية في مشروع القانون المتعلق بالبنوك والمؤسسات المالية

سرحان مرزوق (محام)
في أجوبته على أسئلة لجنة المالية و التخطيط بمجلس نواب الشعب حول مشروع القانون عدد 2016/09 المتعلق بالبنوك و المؤسسات المالية كتب البنك المركزي أنه «تم التخلي عن تسويق البنوك التقليدية لمنتجات

مالية إسلامية إلى جانب المنتجات التقليدية نظرا للانتقادات الشرعية التي وجهت له ومعارضة شريحة من المهتمين بالصيرفة الإسلامية وبسبب عدم إقرار الخدمات التقليدية شرعا و تأمينا للالتزام بالمبادئ الشرعية».

تلخص هذه الإجابة المُعبقة برائحة البخور كل المصائب القانونية و الاقتصادية التي أتت بها منظومة الصيرفة الإسلامية كما تم التنصيص عليها في مشروع القانون.

و يمكن تلخيص هذه المنظومة في أنها تؤسس لمعاملات مالية لا تخضع للقانون الوضعي، تُمارس على سبيل الاختصاص و تمتاز عن غيرها بأنها مما يجوز التعامل فيه شرعا خلافا لمعاملات البنوك و المؤسسات المالية الأخرى «التقليدية» التي لا يقرها الشرع، كما جاء بنص جواب البنك المركزي.

الفصول من مشروع القانون المؤسسة لمنظومة «الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر المالي» هذه هي الفصول 11 و24 و 56 . أما بقية الفصول 4 و 12 و 13 و 18 و 25 و 78 فهي مجرد رجع صدى لها.

نحن إزاء نقاش مماثل للنقاش الذي دار في تونس حول الدستور عند محاولة إدراج الشريعة كمصدر من مصادر التشريع و إن اقتصر الأمر في حالة مشروع القانون هذا على اعتبارها كذلك في «حدود» المجال المالي و البنكي في جزئه المتعلق بما يسمى الصيرفة الإسلامية. و مع ذلك فهذه المحاولة ليست أقل خطورة من المحاولة الأولى فالقبول بها يعني القبول بمبدأ أن كل القانون التونسي ليس وضعيا كما يعني شرعنة الشريعة (و هي منظومة غير متضحة المعالم وحدودها غير معلومة) كمصدر من مصادره. بل أن المسألة تطرح الآن بأكثر حدة فالأمر لا يتعلق فقط بجعل الشريعة مصدر من مصادر التشريع بل و في إرساء سلطة تشريعية خاصة بها.

الفصل 56 : مشرع شرعي آخر و هيئة الرقابة الشرعية محكمة من خارج النظام القضائي.

و نصهُ : «على كل بنك أو مؤسسة مالية مرخص لها بمقتضى هذا القانون ممارسة عمليات الصيرفة الإسلامية المبينة بالباب الأول من العنوان الثاني من هذا القانون أن تحدث هيئة خاصة مستقلة عن هياكل الإدارة تسمى « هيئة الرقابة الشرعية» تتولى خاصة:

- التأكد من مدى توافق أنشطة البنك أو المؤسسة المالية مع المعايير الشرعية.

- إبداء الرأي في مدى امتثال المنتجات و صيغ العقود و الإجراءات العملية للنشاط مع المعايير الشرعية.

- النظر في أية مسائل شرعية تعرض عليها من قبل البنك أو المؤسسة المالية.

تتكون هيئة الرقابة الشرعية على الأقل من ثلاثة أعضاء يتم تعيينهم لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة من قبل الجلسة العامة ويتم اختيارهم على أساس نزاهتهم و كفاءتهم و خبرتهم في ميدان فقه المعاملات الإسلامية وعدم وجود تضارب للمصالح مع البنك أو المؤسسة المالية.
كما لا يجوز لعضو أن يكون في أكثر من هيئة رقابة شرعية.

و يتعين على البنك أو المؤسسة المالية إعلام البنك المركزي التونسي في الإبان بكل تعيين لأعضاء هيئة الرقابة الشرعية.

و تكون القرارات الصادرة عن هذه الهيئة ملزمة للبنك أو للمؤسسة المالية المعنية.

و يمكن لهيئة الرقابة الشرعية أن تطلب من البنك أو المؤسسة المالية مدها بالوثائق والإيضاحات التي تراها ضرورية لممارسة مهامها.

تقوم هيئة الرقابة الشرعية بإعداد تقرير سنوي حول أعمالها يوجه إلى الجلسة العامة للبنك أو المؤسسة المالية وتحال نسخة منه إلى البنك المركزي التونسي وإلى مجلس الإدارة أو هيئة المراقبة وذلك شهرا على الأقل قبل انعقاد كل جلسة عامة.

و يتعين على البنك أو المؤسسة المالية بعد أخذ رأي هيئة الرقابة الشرعية تعيين مدقق شرعي يعهد له التأكد من مطابقة المعاملات لآراء وقرارات الهيئة ويتولى المدقق الشرعي كتابة الهيئة».

بعد الهيئة الشرعية القطاعية ذات الوظيفة التشريعية ينص مشروع القانون على هيئة رقابة شرعية مهمتها رقابية واسعة (رقابة امتثال البنك للمعايير الشرعية) تصدر في هذا المجال قرارات مُلزِمة للبنك دون أن يكون لهذا الأخير سبيل للطعن فيها. و لمزيد إحكام الرقابة «الشرعية» نص مشروع القانون على إحداث خطة مدقق شرعي مهمته ‹التأكد من مطابقة معاملات البنك لآراء وقرارات هيئة الرقابة الشرعية» و هو عضو فيها يتولى كتابتها.

تجدر الملاحظة بداية ان الفصل 11 من مشروع القانون ينص على أن الهيئة الشرعية القطاعية تضبط المعايير الشرعية بالاستئناس بآراء الهيئات الرقابية الشرعية المنصوص عليها بالفصل 56 من هذا القانون، مما يعني بالضرورة أن المعايير التي ستطبقها هيئات الرقابة ليست بالضرورة هي المعايير التي تضعها هيئة الرقابة القطاعية و إنما «المعايير الشرعية» في المطلق. و يُستخلص من هذا أن لهيئات الرقابة وظيفة مزدوجة «تشريعية» و رقابية وهي في أدائها لوظيفتها الشرعية ليست في حاجة إلى الاستناد إلى معيار صادر عن الهيئة القطاعية بما أن الفصل 56 ينص على أن قراراتها ملزمة و أنها مصدر من مصادر التشريع الذي تمارسه الهيئة الشرعية القطاعية ! و هذا ما يفسر شرط «الخبرة في ميدان فقه المعاملات الإسلامية» الواجب توفره في أعضاء هيئة الرقابة (ولم يشترط شرط الخبرة هذا لدى أعضاء الهيئة القطاعية).

الرقابة التي تفرضها الهيئة الشرعية تشمل الرقابة السابقة والرقابة أثناء التنفيذ و الرقابة اللاحقة فهي تتسلط على «أنشطة البنك» و«الإجراءات العملية «(أثناء التنفيذ إذن) و لهذا يُمَكِّنها الفصل من طلب ما تريد من الوثائق و الإيضاحات، وتشمل إبداء الرأي في مدى امتثال «المنتجات و صيغ العقود» (قبل التنفيذ اذن) للمعايير الشرعية، و تستكمل رقابتها بعد التنفيذ بواسطة المدقق الشرعي.

هذه الرقابة هي أيضا واسعة من حيث الموضوع الذي تتسلط عليه «كالعقود و أنشطة البنك» و هذه العبارة تشمل كل عمل قانوني بما في ذلك المساهمات في الشركات و البنوك و اتفاقيات التعاون و الشراكة و التـامين...الخ و «الإجراءات العملية» و هذا اللفظ غير واضح المعنى لذا فيمكن أن نحشر فيه ما نريد كنصوص و مضمون العمليات الاشهارية و اختيار العاملين لتكوين يد عاملة مؤهلة شرعيا...الخ.

في كل أطوار الرقابة، السابقة و أثناء التنفيذ و اللاحقة، والمجالات، بلا حدود تقريبا، تكون قرارات الهيئة ملزمة للبنك وهي تستمد اِلزاميتها هذه من القانون، بمعنى أن على البنك تنفيذها.

و لنفترض أنَّ هيئة شرعية لبنك صرحت بان معاملة ما مخالفة للمعايير الشرعية في حين ارتأت هيئة أخرى أن نفس المعاملة و بنفس الشروط غير مخالفة للمعايير الشرعية. ليس هناك هيئة تعديل و لا إجراءات تعديل بين القرارات. القراران ملزمان و إن اختلفا. وهذا تأسيس لفوضى تشريعية.

ثم لنفترض أن بنكا ارتأى أن قرارا لهيئته للرقابة الشرعية مخالف للمعايير الشرعية و ذلك إما بسبب عدم «كفاءة» أعضائه أو عن سوء نية (خدمة لبنك منافس مثلا) وأن هذا القرار مضر بمصالح البنك. هذا البنك لا يمكنه الطعن في هذا القرار حتى لدى القضاء التونسي فهو غير مؤهل في فصل النزاعات بالمعايير الشرعية و إنما بالقانون علاوة على أن هيئة الرقابة الشرعية لا تملك أهلية القيام ضدها فلا شخصية معنوية لديها. في هذه الحالة، نظريا ولحل مشكلة الصفة إجرائيا على البنك القيام ضد نفسه وهذا غير ممكن قانونا طبعا !

هذا المثال الأخير يعني أيضا أن لقرار الهيئة الشرعية نفس قوة قرار قضائي من درجة واحدة (أي غير قابل للطعن) لتكون بذلك هيئة الرقابة هيئة قضائية على شاكلة المحاكم الشرعية سابقا و إن أصدرت قراراتها بدون وجود نزاع.

الفصل 24. التخصص في الصيرفة الاسلامية والمنافسة غير الشريفة.
ينص الفصل 24 من مشروع القانون على أنه « لا يمكن لبنك أو مؤسسة مالية ممارسة عمليات بنكية مطابقة للمعايير الشرعية و المنصوص عليها بالباب الأول من هذا العنوان إلا على سبيل الاختصاص».

و جاء في رد البنك المركزي على أسئلة لجنة المالية و التخطيط و التنمية أن خيار التخصص هذا «يحافظ على طبيعة النشاط و يؤمن الالتزام بالمبادئ الشرعية و يجنب الخلط (هكذا) مع العمليات التقليدية الذي يمكن أن يهز ثقة المتعاملين». كما أضاف بنكنا المركزي العتيد و التّقيّ بأن الخلط بين ممارسة العمليات التقليدية و الصيرفة الاسلامية في التجارب المقارنة لم يكن هدفه عقائديا و إنما كان لاعتبارات تجارية فحسب مما يعني أن خيار التخصص الذي اختاره البنك المركزي هو خيار عقائدي. و لم ينس البنك طبعا أن يذكر أعضاء لجنة المالية بأن التوجه الدولي ينزع نحو التخصص و أعطى مثالا على ذلك دولة قطر.

مشروع القانون يُصنف المنتوجات المالية إلى صنفين، منتوجات شرعية (حلال صادقت عليه هيئة الرقابة). و منتوجات غير شرعية (حرام يمنع حتى على البنك الإسلامي ممارسته). منتوجات مالية مصادق على مطابقتها لأحكام الكتاب و السنة (المعروف) و أخرى غير مطابقة لها (المنكر). ما هي النتيجة المتوقعة في مجال المنافسة التجارية بين البنوك الإسلامية والبنوك غير الإسلامية في بلد جل شعبه مسلم ؟ تماما كما المنافسة بين الدجاج الحلال و الدجاج الحرام.

هذه حالة جلية لما يُسمى في قانون المنافسة بالمنافسة غير المشروعة إذ أنها تقوم وبشكل مباشر على تشويه المنتوج المنافس و ذَمِّهِ (Dénigrement) بما له أثر ثابت على خيار المستهلك. و هي في موضوع حديثنا منافسة غير مشروعة بمباركة و تغطية و حماية المُشرع.

تنضاف إلى امتياز الحلال هذا معايير الرقابة التفاضلية التي ستتمتع بها «الصيرفة الإسلامية» من طرف البنك المركزي (الفصل 8 من القانون المتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي) و عدم وجوب وضع معايير التصرف الحذر الخاصة بعملياتها (الفصل 11 أعلاه).

لكن و بالرغم من بداهة مآل المنافسة بين البنوك الحلال و البنوك الحرام فان البنك المركزي، الضاحك على ذقون نواب الشعب، يذكر من بين الأسباب المبررة لخيار التخصص حماية بنوك الصيرفة الإسلامية من البنوك التقليدية فالأولى حسب رأيه غير قادرة على منافسة الثانية في الخدمات التقليدية باعتبار عدم إقرارها شرعا. فالبنك

المركزي يؤيد منح براءة الحلال لبنوك بعينها ثم يمنع باقي البنوك من هذه البراءة حتى لا تنافس البنوك الأولى. ألم يكن من الأسهل أن يقدم بنكنا الفقيه مشروع قانون لتفليس البنوك «التقليدية» كلّها حتى نقطع سريعا مع غيّها و حرامها ؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115