حادث وحديث: ولكم في الهدم خلق ونماء (1)

الهدم خلّاق. هذه المقولة الشهيرة التي أكّدها شمبيتار، هي على حكمة كبيرة. هي على صواب كثير. هي مقولة يردّدها الناس جميعا

والمختصّون في الاقتصاد والتصرّف. بلا هدم لن يحصل بناء. بلا نقض لن يكون تغيير. في الهدم طي لصفحة تنتهي وفتح لأخرى مختلفة...
كذلك، تجري الحياة بين المراحل... انتهيت من الشباب. دخلت في طور من العمر مختلف. الكهولة هي طور آخر. هي عيش مغاير. لا يمكن أن أكون شابّا وكهلا في الآن ذاته... لمّا كنت طالبا، كنت أرى الحياة من زاويّة. كهلا، أصبحت أبا وأستاذا. تغيّرت في بصري الجامعة. لي علاقات مميّزة. لي فهم مغاير. العيش مراحل وبين المراحل قطيعة وتباين....
* * *
الهدم الخلّاق نلقاه في الحياة وفي النظريّات العلميّة وفي الاقتصاد وفي الاختراعات وفي ما نحيا من تطوّر. تتطوّر الدنيا يكون بالقطيعة وما الحياة أبدا تواصل ولا هي أبدا تراكم. ما الحياة تزايد. حجر على حجر، يشدّ بعضه بعضا... حياة الانسان، أحجار تشدّ بعضها زمنا. تندثر من بعد. تعوّض بأخرى مختلفة... ما كان الانسان شجرة. لها عروق ضاربة. الانسان ريح تنفخ. هو تغيّر دائم وتبدّل. الانسان قطيعة. كتب على الانسان الفطام ومع كلّ فطام تمزّق. بعد كلّ فطام، يحصل في العيش فسخ وحدث. تغلق أبواب وتفتح أفق مختلفة...
لا يحبّ التونسيّون الفطام. نخاف القطيعة. الكلّ يريد القرار والمواصلة. نحن نحيا مع ما كان في غابر الزمن. دوما ننظر في ما فات من العمر. نقدّس ما فات من العمر. نحن في حسرة دائمة على الماضي، في بكاء دائم. عيشنا وقوف على الأطلال. نحبّ البقاء في الرضاعة. نريد أمّا حنونا، تحملنا في صدرها، تحمينا من شرّ الزمن. نحبّ أن نبقى صغارا، صبية. أن يظلّ الماضي في مكانه.
* * *
في الاقتصاد، كلّ هدم لنمط انتاجيّ هو خلق لنمط انتاجي آخر. هو بعث لنظر متجدّد، لشغل آخر، لتنظيم وأدوات مختلفة. في ذاك الهدم لما كان من نموذج وفكر، هناك استنساخ لنموذج آخر، لرؤية أخرى، لعقل مختلف. مع الهدم يحصل الخلق. خلق لأدوات أنجع، لتنظيم أفضل. حسب المفكّر النمساوي الأمريكيّ، ليحصل تطوّر في التكنولوجيا، في المناهج، في الصناعة، في السوق، يجب السعي لهدم ما انتشر من فكر ولما كان متداولا، بين الناس، من سنن. يجب العمل على القطع، على التجاوز. بالنظر، بالبحث المتّصل يمكن نقض ما استأنس به الناس وعليه تعوّدوا. يمكن القطع مع الماضي، فكرا وأدوات ومقاربة. كذلك، تحصل الابتكارات ويحصل تجديد في الوسائل، ودفع بالإنتاج وبالمنتوج...
* * *
لمّا كنت طالبا، في السبعينات، للحصول على نسخ مطابقة للأصل، كنت أنقل الوثيقة بخطّ يدي. أظهرها لعون الأمن ليثبت التطابق. كان أيّامها الهاتف بدعة، لا يعرفه الا قلّة. كنت لا أعرف عديد الثمار واللباس والخضر... ثمّ، تطوّرت الصناعة وأصبحت النسخ مصوّرة وهذه الهواتف من كلّ نوع، في كلّ يد. ها أنا اليوم آكل ما أنتجته الجهات وأصقاع الدنيا من غلال ومن خضر. غدا، في ما يبدو، كلّ شيء هو آخر، مختلف. لا علاقة أبدا لما نحيا اليوم بما سوف يكون في الغد...
في العلوم أيضا هناك هدم متواصل، خلّاق... كنت أعتقد أنّ النظريّات العلميّة تتكامل وأنّ الواحدة تأتي لتتمّم سابقتها، لتضيف لها معلومة أو توضيحا. كنت أعتقد أنّ العلوم الصحيحة هي حقيقة لا ريب فيها وهي صواب لا يمسّه تغيير ولا ريبة. أليست العلوم افرازات لدراسات موثّقة بالتجارب ومثبتة بالعين المجرّدة...؟ انتهى يقيني منذ زمن. أعلم اليوم أنّ العلوم الصحيحة والانسانيّة كلّها جميعا ليست صحيحة ولا هي مثبتة. هي كلّها منقوصة، مؤقّتة. هي محلّ شكّ وفيها علل... في العلوم، كما هو الحال، في المجتمع، في الصناعات، في السياسة، في المؤسّسات الاقتصاديّة، الكلّ هو محلّ هدم وبناء. الحياة جميعا هي نقض وبعث، هي فسخ وخلق.
(يتبع)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115