قهوة الأحد: «بابا هادي» أو الفنان بين سلطة الإبداع وتناقضات الذات

أتحفتنا العودة الثقافية منذ أيام بخروج شريط سينمائي في عديد القاعات تحت عنوان «Baba Hedi The man behind the microphone» من

إخراج claire ben Hassine أو كلار بن حسين . وهذا الفليم من النوع الوثائقي الروائي ويقدم بطريقة طريفة ومؤثرة حياة احد أهم الفنانين في بلادنا وهو الهادي الجويني . واعتبر شخصيا الفنان الهادي الجويني الفنان الأكثر تأثيرا في تاريخنا الفني والموسيقي – فقد تحدت أغانيه ومعزوفاته التاريخ والأجيال لتصبح إلى يومنا هذا أغنيات تدندنها كل الأجيال مثل «تحت الياسمينة في الليل» و»حبي يتبدل يتجدد» أو «مفتون بغزرة عينيها» .

ولكن أهمية الهادي الجويني لا تقتصر على نشاطه الفني الغزير بل كذلك في مساهمته في بناء المشروع الثقافي التونسي وتفرده وخصوصيته منذ بداية عشرينات القرن الماضي .

وقبل الحديث عن الفيلم نعود إلى قصة إنتاجه وكيف أخذت كلار بن حسين وهي حفيدة الهادي الجويني قرار انجاز هذا العمل الفني الهام – انطلقت فكرة إنتاج الفيلم من لقاء عابر – فقد كانت كلار بن حسين في تاكسي في مدينة باريس لما بدا الراديو في إذاعة إحدى الأغاني المعروفة للهادي الجويني ليبدأ السائق في التناغم معها ودندنة بعض كلماتها – فسألته كلار بن حسين «من يكون هذا المغني» – فأجابها السائق بكل عفوية « انه الهادي الجويني احد اكبر المغنين في بلادنا « – لقد كان الجواب بمثابة الصدمة لكلار بن حسين فقد اكتشفت أن جدها أو «بابا هادي « كما كانت تناديه في سنوات الطفولة عند العودة مع والدها من مدينة الضباب لقضاء العطلة الصيفية له وجه آخر وهو من اكبر وأهم الفنانين في بلادنا – وكان هذا اللقاء العفوي وهذه المفاجأة نقطة انطلاق لكلار بن حسين لإنتاج هذا الشريط بكثير من الحساسية والحنان عن هذا الجد والذي بقي لغزا كبيرا لحفيدته إلى حد غيابه .

وستنطلق الحفيدة في البحث عن آثار جدهاو في تتبع خطواته لتنغمس وتختلط هذه الخطوات بتاريخ الأغنية التونسية وأهم مراحل تطورها – وتبدأ هذه الرحلة من حي باب الجديد بتونس العاصمة أين رأى الهادي الجويني النور سنة 1909 وحيث بدأ الاهتمام بالموسيقى والغناء في الفرق الهاوية منذ طفولته – وبعد سنوات من الترحال بين آلات موسيقية مختلفة سيتجه «بابا هادي» إلى آلة العود ليختص في العزف على هذه الآلة وليصبح احد أهم متقنيها ولتصاحبه أكثر من نصف قرن ولتصبح شاهدا على الطاقة الإبداعية وقدرته على تطويع أصعب الألحان .

ومع اشتداد عوده وبلوغه سن الشباب سيتجه الهادي الجويني نهائيا إلى المجال الفني ليكون مجال نشاطه وليساهم منذ ذلك الوقت في بناء الأغنية التونسية وتفردها – وسيخالط الهادي الجويني في هذه الفترة مجموعة تحت السور وسيرتاد مجالسها ولقاءاتها وسيرتبط الهادي الجويني في تلك الفترة بمجموعة الشعراء والفنانين والمثقفين الذين شكلوا النواة الأساسية لمجموعة تحت السور .

وسيكون للنقاشات التي ستشهدها اجتماعات ولقاءات مجموعة تحت السور تأثير كبير على اختيارات الهادي الجويني الفنية والإبداعية – فهذه المجموعة ستؤسس من نقاشاتها وانتاجاتها الإبداعية في مختلف الميادين لمشروع ثقافي وفني خصوصي ومتفرد عن التقاليد الفنية الآخرى في المنطقة العربية والإسلامية.

فهذه المدرسة عملت في كل مجالات الإبداع الفني من شعر وغناء وموسيقى ومسرح عملت على القطع مع مدرستين سائدتين في بداية القرن العشرين في اغلب البلدان العربية – أما المدرسة فتهم التقاليد الفنية القديمة والكلاسيكية والموروثة عن المدارس الإبداعية التي سادت في قرون الإسلام والتي عرفت تراجعات كبرى وانحطاطا على شاكلة الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتردي . أما المدرسة الثانية فهي المدرسة العصرية والتي سيطلق عليها المدرسة الشرقية والتي ستهيمن على المنطقة العربية مع ظهور الراديو وانطلاق ستوديوهات الإنتاج السينمائية .

أمام هيمنة هذين المدرستين ستنطلق مجموعة تحت السور وعديد المبدعين الآخرين منذ بداية القرن العشرين في عملية تأسيس لمدرسة فنية وإبداعية خصوصية ومتفردة لتكون هذه العملية رافدا مهما وأساسيا لمشروع الحداثة السياسية الذي ستطلقه الحركة الوطنية والنخب السياسية في بلادنا . وستكون لمشروع الحداثة الفنية في بلادنا عديد الخصائص لعل أهمها رفض الانغلاق في النغمات والألحان العربية الكلاسيكية التقليدية والانفتاح على أنغام والحان وألوان موسيقية غربية كالفالس والفلامنكو وغيرها من الألوان الأخرى- فقد تميزت هذه التجارب الفنية بمسكها للتراث الموسيقي العربي ومقاماته وتركيباته المعقدة وفي نفس الوقت بالانفتاح على الألوان الموسيقية الغربية- فكانت الحداثة الفنية نتاجا لهذا المزج والالتقاء بين الذات والآخر .

أما العنصر الثاني والهام في تجربة تحديث الإبداع التونسي وتفرده فتهم استعمال اللغة الدارجة وفتح بالتالي مجالات التفاعل مع الناس العاديين والانفتاح على آمالهم وآلامهم وأحلامهم .

وسينخرط الهادي الجويني في هذا المشروع التحديثي للمشروع الفني في بلادنا ليكون احد ابرز ممثليه من خلال أغانيه وإبداعاته . وسيعتمد «بابا هادي» على هذه الخصائص الجديدة للمشروع الفني من خلال مزجه بين الألوان الموسيقية العربية الكلاسيكية وانفتاحه على الألوان الموسيقية الغربية – كما لجأ الهادي الجويني في اغلب أغانيه والتي تجاوزت الألف أغنية إلى النصوص باللغة الدارجة والتي كتب كلماتها أصدقاؤه من مجموعة تحت السور ومن ضمنهم علي الدوعاجي ومحمود بورقيبة وعبد المجيد بن جدو ومحمد العريبي واحمد خير الدين وعبد الرزاق كرباكة وجلال الدين النقاش وغيرهم – وقد جادت علينا رقة هذه الكلمات وحساسية الألحان بأحلى الأغاني في تاريخ الأغنية التونسية والتي لايزال إلى الآن يرددها كل الأجيال مثل «عليك نغني»، «اللي تعدى وفات»، «خلخال بورطلين»، «لاموني اللي غارو مني»، «مفتون بغزرة عينيها»، «مكتوب يا مكتوب»، «من أول نظرة درباني»، «سمرا يا سمرا»، «يا محسونة»، «يلي نسيتي خالك»، «يا معذبتني بزينك»، لو كان موش الصبر» وغيرها كثير .

ولم تقتصر تجربة وإبداعات الهادي الجويني على الغناء والتلحين بل شارك كذلك فـي عديد الأفـلام اذكـر منهـــا «la possédé» للمخـرج Jean Bastia وla septième porte» للمخرج André zwobada والذي ظهرت فيه زوجته Ninette التي أصبح اسمها وداد اثر زواجها.

إلا أن أهمية هذا الفيلم لا تكمن فقط في الحديث عن إبداعات بابا هادي الفنية بل صاحب هذه المرحلة غوص وبحث في شخصية الفنان المعقدة – فخاضت المخرجة في ذات الفنان لتستحضر قلقه وتناقضاتها –فتوقفت على قصة الحب العنيفة التي جمعته بنينات Ninette المغنية الجميلة ذات الأصول اليهودية وصاحبة الصوت الملائكي والتي كانت تصغره بعديد السنوات – ودفع هذا الحب الجارف الهادي الجويني ونينا أو وداد إلى القطع مع عائلتيهما كي يعيشا بعيدا عن قيود المجتمع التقليدي هذا الولع والشغف والحب . وسيدفع هذا الحب وداد الى إيقاف مسيرتها الفنية الواعدة بطلب من الهادي الجويني لتهتم بعائلتها .

ويبرز الشريط تناقضات الهادي الجويني والتيه الذي سيطر على مواقفه في تعامله مع أبنائه ورفضه أن يخوضوا نفس التجربة الفنية ودخول مجال الإبداع الذي أعطاه الثقة والهدوء النفسي فقد رفض عديد المرات لابنته عفيفة والتي كان لها صوت شجي عديد الدعوات للدخول في المجال الفني للغناء أو للتمثيل في السينما .

كما توقف الشريط على علاقة الهادي الجويني بعائلته وفترات الغياب الطويلة عن العائلة والتي دفعت وداد إلى التفكير في الرحيل الى إسرائيل للالتحاق بعائلتها التي هاجرت هناك خاصة بعد تصاعد بعض الأعمال المعادية لليهود بعد هزيمة 1967.
كما توقفت المخرجة على جانب القوة في علاقة الهادي الجويني والقبضة الحديدية التي تعامل بها مع كافة أفراد العائلة والتي ساهمت في بناء وحدة العائلة . إلا أن الوحدة ستنتهي مع غياب بابا هادي ليدخل افراد العائلة في خصام حول التمتع بحقوق الأغاني . وسيساهم هذا الشريط في إعادة بناء هذه الوحدة العائلية .

لقد نجحت المخرجة كلار بن حسين في هذا الشريط الوثائقي الروائي في العودة بنا إلى العصر الذهبي للأغنية التونسية وبدايات الحداثة الموسيقية في بلادنا والتي كان الهادي الجويني احد أعلامها . وقد نجح الفيلم في الخوض في العالم الإبداعي لبابا هادي وفي الغوص في تساؤلاته وقلقه وتناقضاته . ولم ينجح الهادي الجويني في التغلب على تناقضات الذات إلا في اللقاء مع جمهوره حيث تعود الابتسامة العريضة على محياه . وكان اللقاء الأخير لبابا هادي مع جمهوره في صائفة 1987 في مهرجان قرطاج فرصة للتغلب على تناقضات الذات من خلال الانغماس في الفن والغناء . كان الحفل شيقا واللقاء حميميا وكان الحاضرين حاولوا كذلك نسيان ولو للحظة الغموض الذي ميز الوضع السياسي في تلك الأيام من خلال الانغماس في الفن الجميل والسفر مع بابا هادي في عالم من الجمال والحنين والعشق والأمل .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115