الثورة الثقافية.. حان وقتها

بقلم: منير الشرفي
قبل اندلاع الثورة التونسية، كان السلوك السائد لدى المواطنين يتّسم بالحد الأدنى من النظام والتمدّن.

وكان الاعتقاد السائد بأن ذلك هو نتيجة حملات التوعية والوعظ التي قامت بها الدولة منذ السنوات الأولى من الاستقلال، حين كُنا نُشاهد في كل مكان لافتات تحثّ على التحضّر مثل «ممنوع البصاق على الأرض»، ومن برامج تلفزية توعوية بالأبيض والأسود مثل «محل شاهد»، وحتى من الأغاني على غرار «حسّن هندامك يا خويا». لكننا بعد الثورة اكتشفنا أن ذلك السلوك لم يكن نتيجة الوعي بالواجبات بقدر ما كان خوفا من العقوبات، بدليل أن كثيرا من المواطنين ظهروا على حقيقتهم، بما حصلوا عليه من حريات، وأصبح تصرفهم التلقائي أبعد ما يكون عن التصرف الحضاري. وقامت غريزة العدوى بفعلها ليُصبح تصرف الشارع يتّسم بالفوضى العارمة.
وهو ما يدعونا إلى التمعّن في مكامن الخلل وفي السبل التي يجب توخّيها للقفز بشعبنا إلى مصاف الشعوب المتحضّرة التي تعيش القرن الحادي والعشرين.
فالسلوك المنافي للحضارة مردّه عموما إما مرجعيات البعض الدينية أو الاجتماعية، وإما سوء فهم وتقدير للحريات وللواجبات.

خلفيات رجعية
ركبت ذات مرّة سيارة تاكسي. وقبل أن ننطلق، سألت السائق إن كانت لديه سيولة نقدية لأنني لم يكن بحوزتي سوى ورقة بنكية بقيمة 50 دينارا. فأجابني «إن شاء الله». قلت : « إن شاء الله نعم، أم إن شاء الله، لا أعرف». أجابني ثانية «قلت لك إن شاء الله». وحيث أن جوابه لم يكن واضحا، نزلت من التاكسي خوفا من أن أصل إلى المكان الذي أقصده وأبقى أبحث عن السيولة يمنة وشمالا لتسديد المبلغ المطلوب. قد يكون السائق يقصد بعبارة «إن شاء الله» أن بحوزته المطلوب وكان يخاف أن يقول «نعم» دون قول «إن شاء الله»، فتتبخّر النقود لأنه لم ينطق بتلك العبارة. هذا السلوك يبدو أن مرجعيّته دينية، احتكاما للآية «وما تشاؤون إلا أن يشاء الله». وهي من الآيات التي تمّ تفسيرها بشكل كاركاتوري مُضحك، ممّا جعل التعامل بين الناس عسيرا ومُعقّدا. والأمثلة على ذلك عديدة جدّا، مثل الذي لا ينطق بكلمة «يهودي» إلا ويردفها بكلمة «حاشاك»، أو الذي يبدأ كلامه بعبارة «باسم الله الرحمان الرحيم» وكأنه سينطق بكلام الله، في حين أنه سيتكلّم عن البصل أو عن فريقه المُفضّل.

فالمرجعيات التي تبدو في ظاهرها دينية لا تعدو أن تكون في الأصل اجتماعية ولا علاقة لها بالدين، إذ هي تُترجم تقاليد لها غطاء ديني أصبحت راسخة في الأذهان كأفكار مُسبقة يصعب مراجعتها بالخصوص لدى من يرفض إعمال العقل في السلوك اليومي، إذا كان الاعتقاد هو أن ذلك السلوك إنما هو «فرض ديني».
الخطأ هنا هو فهم سطحي ومُخطئ للدين في المعاملات بين الناس. وعلى الدولة وكل الوسائل التثقيفية من برامج تربوية ومؤسسات ثقافية وإعلامية التذكير بجدّية وإلحاح، طيلة سنوات إن لزم الأمر، بأن الدين مسألة مُقدّسة تهمّ بالخصوص علاقة المخلوق بالخالق بما فيها من تعبّد وخشوع، وأن العلاقة بين المواطنين، تحكمها القوانين والمُثل الكونية العليا، بما يتماشى مع مبادئ الجمهورية ودولة القانون والمؤسسات، ويُساير الشعوب العريقة في الديمقراطية وفي التحضّر.

التحضّر سلوك
وبخصوص التحضّر، فإن من بين ما أفرزته الثورة نجد تلك «الحرية» التي أصبح التونسيون ينعمون بها في شتى المجالات. إلا أن مفهوم الحرية يبدو أنه غامض في الأذهان ومرادف لدى العديد للفوضى. وكأن الحرية تعني أن الفرد أصبح من حقّه قول ما يشاء وفعل ما يشاء بدون حدود، وبدون اعتبار حرية الغير وحقه. فتسمع السب والشتم وهتك الأعراض في الشارع وحتى في وسائل الإعلام، وخاصة في شبكات التواصل الاجتماعي على أن ذلك يدخل في باب حرية التعبير. وترى سيارة فخمة يُخيّل إليك أن صاحبها ذو ثقافة واسعة (وقد يكون كذلك في مجال ما) ويسوقها شخص دون حزام الأمان منهمك في هاتفه الجوّال وهو يرمي من نافذة السيارة بعلبة سجائره الفارغة وبمنديله المُستعمل، سالكا طريقا ممنوعا أو مُتجاوزا الضوء الأحمر أو علامة «قف». وإن أشار له أحد بتجاوزاته أشبعه سبّا لأنه يعتبر أن ما أتاه ليس سوى تعبير عن «حرّيته». صاحب تلك السيارة، أو كل من شابهه، هو ممّن يعتبرون أن الملك العام يُمكن التصرّف معه بعقلية «ملك البيليك»، أي ملك الباي أو ملك العائلة المالكة، وهو بالتالي لا يستحق العناية به، والحال أن الشارع بما فيه هو ملك الجميع، وملك ذلك السائق بالذات كغيره. كما أن ذلك السائق، وأقصد طبعا كل الذين يُمثّلهم أو يتصرفون مثله، لا يدفع الضرائب لأنّها في نظره أموال ستُدفع للحاكم، وهو في ذات الوقت يُطالب ببناء الطرقات وبالمدرسة العمومية المجانية الخ...

ومن هنا تأتي قلّة احترام الدولة. صحيح أن حكّام تونس بعد الثورة لم يُعيروا أي اهتمام لهيبة الدولة، إن لم أقل بأنهم قاموا بكل ما في وسعهم للقضاء عليها. لكنني أهتمّ هنا بسلوك المواطن. فإذا أخلّت السلطة بواجبها في هذا المجال، فذلك لا يعني أن المواطن عليه أن يزيد الطين بلّة. وكما قلت في بداية كلامي، كانت «هيبة الدولة» في بداية سنوات الاستقلال أمرا مُقدّسا لدى القائمين على البلاد، من ذلك أنه كان على كل موظف أن يكون في أوقات عمله لابسا ربطة عنق، و حالقا ذقنه، وماسحا حذاءه.. باعتباره مُمثّلا للدولة، وذلك يُطبق على كل من يعمل في الوظيفة العمومية، من الوزير إلى البوّاب. وها نحن نرى بعد الثورة موظفين سامين في الوزارات يحلقون ذقونهم مرّة في الأسبوع مُتخلين عن ربطة العنق إلى الأبد، ابتداء من أول رئيس للجمهورية بعد الثورة.

كل حق وراءه واجب
نأتي إلى العلاقة بين المواطنين. فبالمفهوم الخاطئ للحرية، واعتقادا من العديد بأن من بين معانيها إطلاق العنان للأفكار العتيقة المكبوتة التي كان يُفترض أن الزمان قد تجاوزها، نجد سلوكا منافيا للعصر وللقانون وللأخلاق وللتحضّر تعود إلى السطح. وإذا بنا نشاهد ما لم يكن يخطر ببالنا أنه موجود في بلادنا.
مظاهر العنصرية، مثلا، أصبحت مُنتشرة بشكل مُخيف. فعلاوة عن عودة النعرات الجهوية بشكل مُفزع، نسمع تارة بسفير دولة افريقية يحتج على معاملة التونسيين الدونية لجالية بلاده في تونس. وطورا نسمع بموظف عمومي، يُفترض أن يكون ممثلا للدولة، يُسيء لمواطن تونسي أبا عن جد، لأن ديانته غير الإسلام، أو لأن اسمه ليس من أصل عربي. علاوة عن منع سيدة محترمة من الدخول إلى مقر إدارة عمومية لأن لباسها لا يروق إلى البوّاب بحجّة أنه لا يتوافق مع الزي الأفغاني الذي يرى، هو شخصيّا، أنه يجب أن يكون زي كل التونسيات.

ولعلّ أهم مظاهر العنصرية الفكر الذكوري الذي نكتشف اليوم مدى تفشّيه لدى التونسيين، وهو ما يُترجَم يوميّا بالعنف المُستشري ضد المرأة، وبالاغتصاب المتفاقم للقاصرات وحتى للعجائز. كل ذلك من أجل اعتقاد العديد من المواطنين بأن الرجال يمتازون على النساء، ومن أجل عدم استيعابهم لمبدأ المساواة الحقيقية والفعلية في كل مجالات الحياة.
خلاصة القول هو أن ثورة ثقافية على كل هذه الأوضاع أصبحت ضرورية وعاجلة. ولتحقيقها لا بدّ من تجنيد وسائل الدولة وإيجاد الآليّات الضرورية للتحسيس بالمبادئ الكونية لحقوق الإنسان، وذلك بترسيخ قيم التفتح والمساواة وحق الاختلاف لدى الناشئة في المدارس بفرض الاختلاط بين الذكور والإناث في مقاعد الدراسة وانفتاحهم على الفنون مثل الموسيقى والمسرح... وكذلك تجنيد وسائل الإعلام الوطنية بتخصيص مساحات توعوية بواسطة الومضات والسكاتشات والمسرحيات الإذاعية والتلفزية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115