Print this page

قهوة الأحد العطلة والإجازة : من ضجر الارستقراطية إلى الصناعة السياحية

لقد بدأ العدّ التنازلي للعطلة الصيفية وفي الوقت الذي بدأنا فيه بطريقة

جدية التفكير في العودة لمقاعد الدراسة بالنسبة للتلاميذ والطلبة وروتين العمل اليومي والمهني بالنسبة للآخرين أردت العودة لهذا الموضوع وتقديم بعض الملاحظات حول التطور المهم الذي عرفته المجتمعات المعاصرة في نمط استهلاكها وتطوره عبر العصور . وقد شكلت العطلة والاهتمام المتزايد الذي تعطيه لها العائلات نقطة تطور أساسية في نمط الاستهلاك وفي المرور من تقاليد الاستهلاك التقليدية إلى المجتمعات الاستهلاكية أو la consommation de masse. ولعل أهم دراسة أشارت إلى هذا التطور الراديكالي في المجتمعات الحديثة هي الدراسة التي قام بها عالم الاجتماع الفرنسي Joffre Dumazedier تحت عنوان «vers une civilisation des loisirs» أو «نحو حضارة المتعة « والتي صدرت سنة 1962.

وقد أشار إلى هذا التطور الكبير الذي عرفته العطل والإجازات وبصفة خاصة ثقافة الراحة والمتعة والاستفادة من أوقات الفراغ في المجتمعات الحديثة والمرور من مرحلة تاريخية كانت فيها هذه الثقافة تقتصر على النخب والطبقات الارستقراطية إلى مرحلة أخرى غلب فيها الجانب الجماهيري لتصبح السياحة صناعة تلعب دورا أساسيا في العولمة التي نعيشها اليوم .

وقبل الحديث عن واقع السياحة اليوم والأهمية الاقتصادية التي تتمتع بها سنعود إلى التاريخ للوقوف على المحطات الهامة للمسار التاريخي والمخاض الذي عرفه هذا القطاع منذ قرون .

ونشير إلى أن مفهوم العطلة أو الراحة ليس وليد اليوم بل يعود إلى حقب تاريخية غابرة – وتؤكد عديد الدراسات التاريخية إلى أن بدايات العطل والراحات تعود إلى الدولة الرومانية حيث كان أبناء المدارس يتمتعون بإجازة سنوية تمتد من شهر جويلية إلى شهر أكتوبر – وقد حافظت البلدان الأوروبية ومن بعدها أكثر بلدان العالم في النصف الشمالي للكرة الأرضية على نفس الزمن المدرسي . ومع ظهور الجامعات وتطورها سيتمتع الطلبة بداية من العصر الوسيط بنفس الإجازات – وتشير العديد من الدراسات إلى أن الكثير من الطلبة وحتى الأساتذة الجامعيين كانت تنقصهم الإمكانات المالية فكانوا ينصرفون إلى العمل الفلاحي أثناء الإجازات لتمويل سنتهم الجامعية .

إذن بدا مفهوم أو فكرة الإجازات والراحة بين فصلين تظهر في المجتمع الروماني لتعرف شيئا من التطور في العصر الوسيط – وستبدأ هذه الفكرة في النمو لتصبح احد قواعد وأسس المجتمعات الارستقراطية بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر حيث كانت العائلات الارستقراطية الكبرى في أوروبا تدفع أبناءها إلى السفر خلال سنتين في عديد البلدان للتعرف على العالم وإعدادهم لتحمل المسؤوليات في إدارة الدولة وأعمال الدولة .

ومع الثورات الرأسمالية وتطور البرجوازية في المجتمعات ستصبح الإجازات والسفر والسياحة احد الأنشطة الأساسية للطبقات الارستقراطية التي ابتعدت عن السلطة وإدارة الدولة – فوجدت هذه الطبقات في السياحة والمتعة والسفر المجال لقضاء أوقات الفراغ الكبيرة التي اصبحت لها بعد تهميشها عن السلطة وعن الدورة الاقتصادية .
إلا أن دمقرطة السياحة والعطل والإجازات وتوسيعها إلى شرائح اجتماعية جديدة سيبدأ في القرن العشرين عندما بدأت بعض البلدان الأوروبية إقرار مبدا الراحة السنوية الخالصة الأجر – ولئن قررت بعض البلدان أن منذ بداية هذا القرن بعض الراحة للطبقة العاملة فان الإجازات العمالية الكبرى سنة 1963في فرنسا نقطة انطلاق هامة لدمقرطة الإجازات وفتح المجال للطبقة العاملة والفئات الشعبية للانتفاع بها . فقد قررت حكومة الجبهة الشعبية برئاسة ليون بلوم Léon Blum والتي تم انتخابها اثر هذه الانتخابات إعطاء عطلة خالصة الأجر بأسبوعين . وسيقع إضافة أسبوع ثالث في سنة 1956 ثم أسبوعا رابعا اثر إضرابات 1968.

إلا أن إقرار هذا المبدإ لم ينتج عنه تطور في حركة السياحة إلا في بداية الستينات . فحتى تلك الفترة كانت اغلب الفئات الشعبية لا تمتلك الإمكانيات التي تسمح لها بالاستمتاع بهذه الإجازات .

إلا أن بداية الستينات ستكون نقطة تحول كبرى في الإجازات وبصفة خاصة في تطور السياسة. فستشهد هذه الفترة تطور دولة الرفاه أو L’etat-provi dence والتي سينتج عنها تطور في مستوى المعيشة بصفة خاصة للطبقات الشعبية وظهور المراكز السياحية من نزل وقرى سياحية واستعمال السيارة وتطور الطرق السيارة . كل هذه العوامل ستساهم مساهمة فعالة في تطور السياحة وبروزها كركيزة هامة من ركائز المجتمع الاستهلاكي وسيتواصل تطور ونمو القطاع السياحي على مدى السنوات الأخيرة ليصل إلى مستويات قياسية ولتصبح السياحة قطاعا اقتصاديا أساسيا ورافدا مهما من روافد العوملة . وشكلت السنة المنقضية سنة استثنائية في نمو السياحة حسب أرقام المنظمة العالمية للسياحة حيث بلغ عدد السياح في العالم سنة 2017 مليارا و322 مليون شخص . زار منهم قرابة النصف أو 671 مليون شخص القارة الأوروبية . وكانت فرنسا البلد الأكثر زيارة حيث زاره 82.6 مليون سائح تليها الولايات المتحدة الأمريكية بـ 75.6 مليون سائح .

وأهمية السياحة الاقتصادية لا تقتصر على عدد السياح بل تهم كذلك مداخيل القطاع والتي تطورت بشكل كبير لتمر من ملياري دولار سنة 1950 إلى 104 مليار دولار سنة 1980 ثم 495 مليار دولار سنة 2000 قبل أن تصل إلى مليار و260 مليون دولار سنة 2015 مما يمثل %10 من الناتج العالمي الخام – ويقدم القطاع حسب إحصائيات المنظمة العالمية للسياحة موطن شغل على 11 على المستوى العالمي .كما تقدم المنظمة عديد الأرقام الأخرى التي تشير إلى الأهمية الكبرى لهذا القطاع الذي أصبح يلعب دورا هاما في الدورة الاقتصادية العالمية وفي التطور الكبير الذي عرفته العولمة . فتشير هذه الأرقام إلى أن القطاع السياحي يمثل %12 من المداخيل الجبائية للدول و%10 من الصادرات العالمية . وتتقدم الولايات المتحدة كل بلدان العالم من ناحية المداخيل حيث وصلت مداخيلها من السياحة حوالي 205 مليار دولا ر.

الا أن هذا التطور السريع للسياحة كانت له نتائج سلبية في عديد المجالات فعلى مستوى المناخ والطبيعة كان للتطور السريع للبنية التحتية والملايين من السياح الذين يزورون المناطق المحمية انعكاسات سلبية على المناخ الطبيعي وتدهوره . كما كان للسياحة انعكاسات سلبية على المستوى الثقافي حيث ساهمت في تراجع الثقافات الوطنية وخصوصياتها والاتجاه نحو الانخراط في العوملة الثقافية . كما ساهمت السياحة أيضا في تطور بعض المظاهر الاجتماعية السلبية كتنامي استهلاك المخدرات والدعارة وغيرها .
وساهمت هذه الظواهر السلبية وتنامي النقد تجاه الأشكال السائدة للسياحة إلى ظهور سياحة بديلة تحترم المناخ وتحافظ عليه وتحمي المخزون الثقافي
للشعوب .
ساهمت هذه المسيرة التاريخية في تطور وظهور مبدا الإجازة والعطل وفكرة الراحة والمتعة في أوقات الفراغ وخروجها عن النطاق الضيق للطبقات الارستقراطية والميسورة لتصبح السياحة ظاهرة اقتصادية واجتماعية واحد الروافد الاقتصادية لا فقط للمجتمع الاستهلاكي بل كذلك للعولمة في عصرنا الحالي .

المشاركة في هذا المقال