منبــر: جدل حول الحريات الفردية

بقلم: حمه الهمامي
في مارس 2001 وبمناسبة الذكرى 45 لإعلان الاستقلال، اقترح رئيس حركة الديمقراطيين الاشتراكيين وقتها، ورئيس

حركة النهضة، على أحزاب المعارضة التوقيع على بيان مشترك فيه دعوة إلى تشكيل «جبهة وطنية ديمقراطية» لمواجهة نظام بن علي الاستبدادي. وقد رفض حزب العمال توقيع ذلك البيان الذي صدر في نهاية الأمر بتوقيع الطرفين الداعيين إليه فقط. وفي ماي 2001 توليت كتابة ردّ على البيان المذكور وعلى البيان الختامي للمؤتمر السابع لحركة النهضة المنعقد قبل مدة. وحمل هذا الرد العنوان التالي: «الحد الأدنى الديمقراطي اليوم وغدا». وكان الهدف منه توضيح ما ينبغي أن يشكّل، في نظرنا، حدّا ديمقراطيا أدنى يمكن أن تجتمع حوله المعارضة. ومن جملة المسائل المثارة في هذا الكتيب، الذي سينشر بعد الثورة (2013)، بعنوان: “الحرية أم الاستبداد»، مسألة الحريات الفردية التي تثار اليوم بمناسبة نشر تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة. وإثراء للنقاش ارتأينا نشر القسم الخاص بهذه المسألة المطروحة للجدل منذ عقود طويلة. وفيما يلي محتوى القسم المذكور الذي حذفنا منه بعض التفاصيل اجتنابا للطول:

1 - تغييب مسألة الحريات الفردية
إنّ التّساؤلات حول موقف «حركة النّهضة» من علاقة الدّين بالدّولة وما لذلك من انعكاسات على الموقف من قضايا الحرّيات والدّيمقراطيّة بشكل عامّ تزداد إلحاحا حين نتطرّق إلى هذه القضايا بشكل مخصوص. وفي هذا الإطار فإنّ أولى القضايا التي تواجهنا هي قضيّة الحرّيات الفرديّة وعلى رأسها «حرّية التّفكير والضّمير والمعتقد» وموقف «حركة النّهضة» منها (...). إنّ البيان المشترك، بين مواعدة والغنوشي، لا يتعرّض مباشرة لهذه المسألة. فهو يتحدّث بشكل عامّ عن «احترام حقوق الإنسان» دون إشارة واضحة إلى مضامينها وإلى المرجعية المستند إليها. كما يتحدّث البيان المشترك عن «حقوق المواطنين» دون تفصيلها. أمّا البيان الختامي للمؤتمر السّابع لحركة النّهضة، الذي سبق صدور هذا البيان، فإنّه غيّب تقريبا مسألة الحريات الفردية وفي مقدّمتها حرّية التّفكير (والضّمير والمعتقد). فهو يركّز أساسا على ما يندرج ضمن الحرّيات العامّة. ففي الفقرة الموسومة «بالنضال من أجل الحرّية» جاء أنّه «من المهامّ التي تتطلّع الحركة لتحقيقها هي أنّ تستعيد الجماهير حقّها المشروع في تقرير مصيرها بعيدا عن كلّ وصاية داخليّة أو هيمنة خارجيّة ورفض مبدأ الانفراد بالسّلطة. وفي المقابل إقرار حقّ كلّ القوى الشّعبيّة في ممارسة حرّية التعبير والتّجمّع وسائر الحقوق الشّرعية». وفي لائحة المطالب العامّة التي ترفعها الحركة أشار البيان إلى «حرّية الصّحافة والتّعبير» و»تحقيق إصلاحات دستورية وقانونيّة شاملة». ولم يتعرّض البيان بالذّكر سوى مرّة واحدة لـ»حرّية الرّأي»، بمعنى «حرّية التّعبير» عند حديثه عن مسيرة الحركة في «مقاومة الاستبداد» وعن دعوتها إلى «سيادة حكم القانون والشّورى عبر حرّية الرّأي والتّنظيم والفصل بين السّلطات والمشاركة في الحكم». وفي سياق آخر أكّد البيان التزام الحركة «بنهج الحوار وآدابه (...) نابذة التّعانف في الفكر والقول والعمل من أيّ كان سبيلا لحسم اختلافات الفكر والسّياسة». فكما هو واضح إذن يتعرّض البيان للحرّية كوسيلة «تقرير مصير» جماعيّة أي بمعنى الحقّ في ممارسة الشعب سيادته، من ناحية وحقّه في أن ينعم باستقلاله في علاقة بالقوى الخارجيّة من ناحية ثانية. ولكنّه لا يبرز الحرية كوسيلة «تقرير مصير» على المستوى الشّخصي بمعنى حرية المواطن في اختيار النّهج الذي يمكّنه من تحقيق ذاته، دون النّيل من حرّية الغير أفرادا ومجموعات، بالطّبع. وتمثّل حرية التّفكير إحدى أهمّ الوسائل التي يحتاجها التّونسي (ذكرا كان أم أنثى) لتحقيق ذاته وللمساهمة بفعّالية في حياة المجموعة. وبعبارة أخرى لا توجد في البيان إشارة إلى تبنّي الحركة مبدأ حرّية التّفكير (وفي علاقة بها حرّية الضّمير والمعتقد) والدّفاع عنها.

2 - مسألة خلافية
ونحن إذ نشدد على حرّية التّفكير فلأنّها تمثّل نقطة بارزة في الخلاف بيننا وبين الحركات السّياسيّة الدّينيّة في بلادنا. والمقصود بحرّية التّفكير عندنا هو حقّ التّونسي (ذكرا كان أم أنثى) في الخوض بكامل الحرّية في كافّة القضايا التي تشغل باله عقديّة (دينيّة...) كــــانت أم فلسفيّة أم اجتماعيّة أم اقتصاديّة أم تاريخيّة أم علميّة أم أدبيّة وفنّية كحقّه في التّعبير بكامل الحرّية أيضا عن القناعات التي يتوصّل إليها وبالأشكال التي يرتئيها بحثا أو دراسة أو رأيا سياسيّا أو إبداعا أدبيّا أو فنيّا، كتابة أو مشافهة أو رسما أو تصويرا، دون أن يكون عرضة لمنع أو عقاب أو اضطهاد وأنّ من لا يتّفق معه يحقّ له معارضته ولكن بأسلحة فكريّة وفكريّة فقط.
وبطبيعة الحال يحيلنا هذا الموضوع على مسألة التّكفير الذي استخدم في التّاريخ العربي الإسلامي وفي التّاريخ المسيحي وغيره من تواريخ الأديان (اليهوديّة والبوذيّة والهندوسيّة إلخ...) سلاحا فتّاكا لقمع أهل الرّأي المخالف. ولئن اختفى هذا السّلاح من معظم الفضاءات الحضاريّة والثّقافيّة الأخرى، بل أصبح القانون يعاقب على استعماله باعتباره انتهاكا لحرّية التّفكير والضّمير، فإنّه لا يزال مع الأسف يُشهّر في الفضاء الثّقافي العربي الإسلامي بهدف اغتيال العقول وتكميم الأفواه. وهو يمارس في بعض البلدان على مستوى الدّولة (السعوديّة، وغيرها) وفي بلدان أخرى تمارسه جماعات من داخل المجتمع. ولا شكّ في أنّ «حركة النّهضة» تتذكّر ما حصل للشّيخ محمود طه في السّودان على يدي جعفر النّميري وحسن التّرابي، فقد اعتبراه مرتدّا وقتلاه لا لشيء إلاّ لأنّه اعتبر «الشّريعة الإسلاميّة» قابلة للتّغيير والتّطوير وفق حاجات المسلمين الرّاهنة. كما تعلم «حركة النّهضة» ما حصل للمفكّر الإسلامي المصري نصر حامد أبو زيد. فقد كُفّر وطُلّق من زوجته وأهدر دمه ضمنيّا، لأنّه يدافع عن توجّه إسلامي -عقلاني -ديمقراطي وينتقد الشّافعيّة والتّعصّب الدّيني وتدجيل أشباه العلماء الذين يتمعّشون في مصر، وغير مصر، من التّسلّط على ضمائر النّاس وعقولهم. كما تعلم قتل الكاتب المصري فرج فودة على يد بعض الجماعات «الإسلاميّة» التي اعتبرته «مرتدّا» لأنّه شنّ عليها حربا فكريّة بناء على قراءة مخالفة للنّصوص ...

وإذا كانت الأمور لم تبلغ في تونس (إلى حدّ الآن على الأقل) ما بلغته في بلدان عربيّة وإسلاميّة أخرى من تعصّب وتطرّف، فإنّ ذلك لا يعني أنّ التّكفير غائبٌ في خطاب الحركات «الإسلاميّة» عندنا، بمن فيها حركة النّهضة، أو أنه، أي التكفير، لم يدفع في بعض الفترات أنصار تلك الحركات، إلى ارتكاب اعتداءات على خصومهم الفكريّين والنّيل من حرّيتهم الشّخصيّة. وقد بلغ في بعض الأحيان حدّ استعداء السّلطة على مواطنين مفطرين في شهر رمضان أو على بعض الكتّاب والشّعراء. ولكن قد يقال لنا إنّ ذلك ينتمي إلى الماضي أو أنّه تجاوزات لا يمكن أن تحسب على الحركة ككلّ. كان بودّنا أن نصدّق ذلك. ولكن حين نقرأ بيان المؤتمر الختامي نصطدم بإشارة واضحة إلى استمرار الحركة اعتماد وثيقة «الرّؤية الفكريّة والمنهج الأصولي لحركة الاتجاه الإسلامي» وثيقة تأسيسيّة ومرجعا أساسيّا من مراجعها الفكريّة. ومن اطّلع على هذه الوثيقة يعرف أنّ «حركة النّهضة» أعطت فيهـا لنفسهـا سلطة مراقبة ضمائر النّاس وعقولهم وبالتّالي «حقّا» على حرّيتهم، ولم لا على حياتهم أيضا ما دام حكم الرّدة، عند الحركات «الإسلاميّة»، هو القتل. فقد ورد في تلك الوثيقة على لسان الحركة: «إنّنا لا نكفّر مسلما أقرّ بالشّهادتين وما يتبعها من إيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر وعمل بمقتضاها وأدّى الفرائض، لا نكفّره برأي ومعصية إلاّ إذا أقرّ بكلمة الكفر أو أنكر معلوما من الدّين بالضّرورة أو كذّب صريح القرآن أو فسّره على وجه لا تحتمله أساليب اللّغة العربيّة بحال أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر.» وبتعبير آخر فإنّ «حركة النّهضة» تكفّر كلّ شخص لا يؤمن أو يحمل قناعة غير ما ترى هي أنّه «الإيمان» وكلّ شخص يصوم ولا يصلّي مثالا (...) أو يفسّر القرآن تفسيرا «باطنيّا» أو يؤوّله تأويلا على غير العادة والتّقليد وهو أمر فعله كثيرون من الفقهاء، قديما وحاضرا، بل إنّها تكفّر كلّ من «عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر» مخوّلة لنفسها بطبيعة الحال صلاحيّة الحكم على أعمال النّاس.
والسّؤال كلّ السّؤال هو من فوّض «لحركة النّهضة» أو لأيّة حركة «إسلاميّة» أخرى في العالم هذه السّلطة، سلطة تكفير النّاس ومحاسبتهم على معتقداتهم وقناعاتهم وأفكارهم وأعمالهم؟ أهي «ممثّل اللّه فوق الأرض»؟ وما هي علاقة الكلام الوارد في الوثيقة المذكورة أعلاه بما تطرح «حركة النّهضة» اليوم من شعارات حول الحرّية والدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان؟ وإذا كانت تخلّت عن منطق التّكفير فلماذا لا تعلن مراجعتها لتلك الوثيقة. فالأحزاب والحركات السّياسيّة حين تتطوّر لا تتحرّج من نقد ذاتها وتطهير خطّها الفكري والسّياسي ممّا تعتبره خطأ. وعلى مناضلي «حركة النّهضة» أن يدركوا تمام الإدراك أنّ تقدّم تونس على درب الحرّية والدّيمقراطيّة غير ممكن إلاّ إذا توفّرت لأبنائها وبناتها حرية التّفكير.

3 - أم الحريات
إنّ حرية التفكير هي «أمّ الحرّيات». فمن ليس حرّا في تفكيره لا يمكن أن يتمتّع بحرّية التّعبير. ومن ليس حرّا في تفكيره أيضا لا يمكن أن ينعم بحرّية التّنظّم لأنّ الأحزاب والجمعيات تبنى على الأفكار التي تنبثق عنها الاختيارات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة والثّقافيّة. وأخيرا وليس آخرا، فمن لا يتمتّع بحرّية التفكير لا يمكن أن يقدّم نفسه إلى الانتخابات أو يختار من ينوبه أو من يحكمه بحرّية، لأنّ حرّية الاختيار هذه مرتبطة رأسا، بحرّية التّفكير. وفي كلمة لا حرّية سياسيّة دون حرّية فكريّة، بل لا نهضة أيضا اقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة وعلمية دون أن تتوفّر الحرّية الفكريّة. ومن النّافل أنّ أساس حرّية التّفكير هو الرّوح النّقديّة. وهذه الرّوح هي التي تمكّن من إحلال فكر الحرّية مكان فكر الاستبداد ومن إحلال مبدأ النّقاش الحرّ محلّ الأوامر والاقتناع المؤسّس على الحجّة والبرهان محلّ الاقتناع المؤسس على الضّغط والإكراه وهو ليس اقتناعــــا بل خضوعــــا. وهذا يعني أنّه لا حرّية تفكير للتّونسي (ذكرا كان أم أنثى) دون ان يتمتّع بحرّية النّقد وحرّية النّقاش، فلا يبقى مجال واحد عقدي أو فلسفي أو سياسي أو اجتماعي أو ثقافي مغلقا في وجهه أو ممنوع عليه طرقه، لأنّه لا إبداع دون تحليل الواقع بعين نقديّة للوقوف على ما فيه من تناقضات وإيجابيات وسلبيات بدون مساحيق.
ومن البديهي أنّه لا حرّية تفكير ولا حرّية نقد ولا حرّية نقاش دون القطع مع منطق التّكفير، وإلاّ فأيّ مستقبل ينتظر الشّعب التّونسي؟ فهو اليوم ضحية لبن علي الذي يستعمل سلاح التّخوين وعصى البوليس لقمع حرية التّفكير وهو ما أدّى إلى إصابة تونس بتصحّر فكري وثقافي لم تشهده حتى في زمن الاستعمار الغاشم ولا حتى في أحلك فترات البورقيبيّة. وقد فعل بن علي ذلك لأنّه يرفض الوظيفة النّقديّة للفكر فهو يعرف بغريزته الأمنية أنّ فعل «فكّر» يجرّ إلى فعل «نقد» و»نقد» إلى «ناقش» و»ناقش» إلى «طالب» و»طالب» إلى «غيّر» و»غيّر» إلى: «ارحل يا بن علي فلا حاجة للنّاس بك». وهذا ما يرفضه الرّجل. وهذا ما ضجر منه الشّعب التّونسي أيضا. ولكن ما الذي سيتغيّر غدا في واقع الشعب إذا حلّ محلّ بن علي حاكم جديد يستعمل سلاح التّكفير ليواصل قمع حرّية التّفكير؟ اليوم بوليس قابع وراء مكتب بوزارة الدّاخليّة يقرّر أنّ ما كتبه زيد أو عمر في الفلسفة أو التّاريخ أو السّياسة أو الأدب أو الدّين لا يتماشى مع «المصلحة العليا للوطن». وغدا «شيخ» لا يقلّ جهالة عن ذلك البوليس قابع بنفس المكتب أو في أيّ مكان آخر، يقوم بدور البوليس الرّوحي ويقرّر أنّ ما كتبه أو أبدعه زيد أو عمرو في هذا الميدان أو ذاك مناف لـ«تعاليم اللّه»؟ أيّ معنى إذن لمعارضة بن علي اليوم إن لم يكن هدفها الحرّية أوّلا والحرّية ثانيا والحرّية ثالثا لهذا الشّعب الذي لم ينعم عمّاله وفلاّحوه ومثقّفوه وطلاّبه وموظّفوه، بل كلّ طبقاته وفئاته، بالحرّية طوال تاريخهم وظلّت طاقاتهم مكبّلة بالاستبداد؟
ولكي لا نبقى نناقش المسألة بشكل مجرّد فإنّنا نطرح على «حركة النّهضة» الأسئلة التّالية: ما هو موقفها بوضوح من آلاف اليساريّين التّونسيّين، (ذكورا وإناثا) حملة الفكر الاشتراكي في مختلف أبعاده الفلسفيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة؟ هل هي تعتبرهم «كفرة» «مرتدّين» أم تعتبرهم يمارسون حقّا أساسيّا من حقوقهم مثلهم مثل «الإسلاميّين» الذين يتبنّون «تصوّرا للإسلام» تنبثق منه اختياراتهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة والثّقافيّة؟ وما هو موقفها من آلاف العلمانيّين الذين يوجد من بينهم من يؤمن ومن لا يؤمن، ومن بين الذين يؤمنون يوجد من يقصر إيمانه على «الشّهادتين» وفيهم من يصوم ولا يصلّي، وفيهم من يصوم ولا يزكّي، أو يشرب الجعة والخمر والويسكي؟ هل تعتبرهم أحرارا في علمانيّتهم كما تعتبر أنّ ما يقومون به يندرج في حرّيتهم الشّخصيّة التي لا وصاية لأحد عليها، دولة أو مجموعـــات داخـل المجتمع أم أنها تعتبرهم «أعداء للإسلام» و»مرتدّين» ينبغي أن يستتابوا حال قيام الدّولة الإسلاميّة وإلاّ تطبّق عليهم الحدود ومنها حدّ الرّدة؟ وما هو موقفها من محمّد الطّالبي الذي يقرأ النّص القرآني والإسلام عامة قراءة «سهميّة»، مقاصديّة قادته إلى اعتبار «الدّين حرّية» وإلى أنّ «لكلّ إنسان قول ما يريد وفعل ما يريد». كما قادته إلى مناصرة المساواة بين الجنسين في الحقوق وإلى رفض مبدأ تعدّد الزّوجات وضرب المرأة «تأديبا لها» وحكم «المرتدّ» والرّجم وكذلك حكم الإعدام، إلى غير ذلك من المواقف والآراء التي تتضارب مع الفكر السّلفي ومع فكر «حركة النهضة» خصوصا على نحو ما رأينا في الشّاهد المستقى من الوثيقة الفكريّة التّأسيسيّة؟ فهل هو حرّ في قراءته التي يعتبرها «قراءة سليمة» توافق «مقاصد النصّ» أم أنّه مثله مثل الشّيخ محمود طه الذي لم يندد راشد الغنوشي بإعدامه، بل إنّ البيان الختامي للمؤتمر لا يزال يعتبر حسن التّرابي المورّط في قتله «مفكّرا مجدّدا»، مرتدّا عن الإسلام ينبغي أن «يستتاب» أو يعدم في حال قيام دولة «إسلامية»؟ وما هو موقفها من هشام جعيّط الذي نفى في كتابه «في السّيرة النّبويّة: الوحي والقرآن والنّبوّة» أن تكون معجزات الأنبياء موجودة، كما اعتبر أنّ «قصّة غار حراء وما تبعها اختلاق بحت» من النّاحية الواقعيّة (...) وفسّر قصّة «الإسراء والمعراج» تفسيرا لا يوافق التّفاسير التّقليديّة؟ فهل تعتبر مقاربته التي تعتمد على «منهج عقلاني -تفهّمي» لا يوجد «لا عند المسلمين القدامى (...) ولا عند المسلمين المعاصرين» كما قال، مقاربة فكريّة، هو حرّ في إبداعها أم أنّه قد «كذّب صريح القرآن» أو فسّره على وجه لا تحتمله أساليب اللّغة العربيّة بحال» وبالتّالي فهو كافر؟

4 - حرّية غير قابلة للتصرّف
هذه أمثلة سقناها، وغيرها كثير، لنضع «حركة النّهضة» أمام مسؤوليتها. والمسألة لا يمكن الإجابة عنها في نظرنا بالقول إنّ الحركة «تجادل مخالفيها بالحسنى» و«تنبذ التّعانف في ما هو خلافات فكريّة أو سياسيّة». فقبل الخوض في الأسلوب بنبغي الخوض في الأصل، لأنّ الأسلوب يحدّده في نهاية الأمر الموقف من الأصل، فـ«التّسامح» (ونحن نحبّذ استعمال عبارة: «احترام الآخر»، لما يمكن أن توحي به كلمة تسامح في العربيّة من تساهل من باب الفضل أو الجميل أو المعروف وليس من باب الواجب) كأسلوب أو عقليّة تنأى عن استعمال العنف والإرهاب أو التّحريض عليهما في التّعامل مع الإيديولوجيات والآراء المخالفة، وتؤمن بإمكانيّة قيام علاقات تعايش بينها دون أن تنفي إمكانيّة الصّراع بينها، حتى لو كان ضاريا إذ المهمّ أن يكون بأسلحة فكريّة وفكريّة فقط، إنّما قاعدته الفلسفيّة تكمن في الاعتراف بالتّنوّع وبتعقيدات الأوضاع البشريّة وتناقضاتها الـلاّمحدودة واستحــالة تنميطها وهو ما يقود إلى الإيمـــان بالاختـــلاف الـــلاّمحدود للممارسة البشريّة وبضرورة الاعتراف به واحترامه. أمّا التّكفير فهو قائم على نظرة احاديّة، إقصائيّة، تنفي التّنوّع والاختلاف بشكل عامّ (لا التّنوّع والاختلاف في صلب نفس العقيدة وهو تنوّع واختلاف جزئي ولا ينمّ الاعتراف به عن روح «تسامحيّة» أو عن إيمان بالحرّية والدّيمقراطيّة) وبالتّالي فإنّه يصعب أن يعتمد أصحابه «المجادلة بالحسنى» و«نبذ التّعانف» مبدأ جوهريّا وقارّا في التّعامل مع الإيديولوجيّات المخالفة المتهمة بـ«الكفر» لأنّه مبدأ يتنافى مع خلفيته الفلسفيّة وبالتّالي، فإن قبلوه، فقد يكون بسبب ضغط الظّروف، فإن تغيّرت هذه الظّروف فقد يلتجئون إلى الإكراه الذي يمثّل الأسلوب المناسب للتّكفير.
وخلاصة القول إنّ من يريد تحالفا من أجل الحرّية والدّيمقراطيّة لا مفرّ له من أن يدرج ضمن لائحة مطالبه حرّية التّفكير، وفي علاقة بها حرّية الضّمير والمعتقد، باعتبارها حرّية غير قابلة للتّصرّف. ولا يهمّ في رأينا المرجعية التي يستند إليها كلّ طرف في تبنّيه لهذا المطلب. (...) المهمّ أن لا وصاية لأحد على ضمائر النّاس وعقولهم. والمهمّ أيضا أن ترحل لغة التّكفير والتّعصّب عامّة إلى الأبد من قاموس المعاملات بين مختلف العائلات الفكريّة في تونس. وليكن الصّراع/ النّقاش الفكري، الإيديولوجي، بينها مفتوحا. لا أحد منها ينفي حرّية الآخر. ولا أحد منها يُنكر حقّه في نقد الآخرين ومقارعتهم بالحجّة. فالاعتراف المتبادل بالحقّ في الحرّية بين العائلات الفكريّة لا يعني تنكّرا للخلافات القائمة بينها أو «تكفيرا» للجدل بينها. المهمّ أن يبتعد الجميع عن أساليب العنف والتّعصّب الهمجية ويترك المجتمع التّونسي (...) يتقدّم إلى ما هو أفضل وتترسّخ فيه هذه القيم وتتحوّل إلى جزء لا يتجزّأ من الثقافة الفكريّة والرّوحيّة والسّياسيّة بل إلى قيمه الرّسميّة المدرجة في دستوره وقوانينه التي تنصّ على أنّ التّسامح واحترام الآخر «واجب مدني» وعلى أنّ التّكفير/ التّعصّب/ الإقصاء الفكري مخالفة يعاقب عليها القانون. ونحن لا نعتقد أنّ أيّ طريق آخر، غير طريق الحرّية، يمكن أن يفلح في تونس. إنّ المستقبل للحرّية، وليس للظلم والاستبداد.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115