قهوة الأحد: في نٌبل السياسة!

عرفت بلادنا ومجمل البلدان العربية تطورات هامة وجذرية على عديد المستويات منذ ثورات الربيع العربي - وبالرغم من الانتكاسات

والحروب المدمرة التي عرفتها بعض البلدان كسوريا وليبيا واليمن فقد فتحت هذه الانتفاضات فترة جديدة في التاريخ العربي المعاصر وبدأت بتأسيس زمن مغاير ومختلف عن فترات هيمنة الاستبداد التي دخل فيها الوضع السياسي العربي منذ هزيمة 1967 ونهاية الأمل الذي أولدته حركات التحرر الوطني ومشروع بناء الدولة الوطنية.
فقد شملت هذه التغييرات عديد المجالات لتشكل قطيعة جذرية مع المشروع الوطني وانهياره ليصبح استبداديا على المستوى السياسي وخاصة على المستوى الاقتصادي والمالي ومن ضمن المجالات التي شهدت تغييرات جوهرية يمكن أن نذكر المجال الفكري والاقتصادي وحرية التعبير وحرية التنظم والحريات التي تهم الصحافة والإعلام...
ولعل أحد أهم التغييرات التي عرفتها البلدان العربية إثر الثورات يخص الميدان السياسي الذي عرف تحولات جذرية وقطيعة كبيرة مع فترة الاستبداد وسنوات القهر التي عشناها لسنوات طويلة، فقد عملت الأنظمة الاستبدادية لتضييق الخناق على التعبير الحر والتنظم وحاولت حصر السياسي في المجال الخاص وفي النقاشات المكتومة خوفا من البوليس ومتابعة المخابرات، وبقي المجال العام مقتصرا على الأنظمة الاستبدادية ورموزها يدافعون فيها ما استطاعوا على أنظمتهم ويحاولون إعادة إنتاج خطاب مجّت سماعه الآذان.

ومع الثورة عرف المجال السياسي قطيعة كبرى وتحولات جذرية فقد ساهمت الحرية في فتح هذا المجال ليدخل العديد من خلال الانضمام للأحزاب السياسية والانخراط في العمل السياسي في معانيه الكبرى والنبيلة فتم تكوين الأحزاب السياسية وانخرط الناس بكل حماسة في هذه الأحزاب وفي النقاشات حول البرامج والرؤى والتصورات المجتمعية الكبرى وكان النقاش حول الدستور الجديد فرصة هامة للنقاش والجدل حول المشروع الوطني بصفة خاصة في علاقته بالدين والهوية وتمكننا بكثير من الصعوبة وكذلك الكثير من الحكمة من بناء نظرة جديدة ومشروع يقطع مع الاستبداد ويضع التداول السلمي على السلطة والديمقراطية واحترام التعدد أسس المشروع الوطني الجديد، كما نجح هذا الدستور والنقاشات السياسية الهامة في بناء مصالحة تاريخية هامة بين الانفتاح على الحداثة في مفهومها الكوني والانتماء إلى فهم متجدد لهويتنا وتراثنا الديني.

إلا أن هذه السنوات الحبلى بالأمل ستنسحب تدريجيا لتعقبها سنوات عجاف حيث ستفقد السياسة معناها النبيل ليحل محلها فهم هجين ومقيت للسياسة فتراجع المفهوم النبيل للعمل السياسي الذي يسعى لتغليب الصالح العام وتغيير المجتمع نحو الأفضل لتحل محله نظرة انتهازية همها الأساسي تحقيق مصالح ذاتية والتمسك بالسلطة من أجل الوصول الى منفعة خاصة والاثراء والتمتع بالامتيازات. سادت هذه النظرة تدريجيا على جميع المستويات مما دفع الناس الى الابتعاد عن العمل السياسي والنفور منه ونبذ كل أشكال التنظم والمشاركة السياسية في الفضاء العام لتصبح السياسة مقتصرة وحبيسة بعض المحترفين الذين مججنا سماعهم وفقدنا احترامهم.
وقد ساهمت هذه النظرة في أزمة وانسداد أفق العمل السياسي، فالأزمة السياسية العميقة التي تعيشها بلادنا ليست فقط أزمة الأحزاب الكبرى وأزمة السلطة التنفيذية أو النظرة السلبية التي يحملها الناس على السلطة التشريعية والتدخلات المملة لبعض النواب بل هي في الأساس أزمة أخلاقية تكمن في رأيي في تراجع المفهوم النبيل للسياسة من كونها محاولة انخراط مواطني لتحسين الواقع العام وغلبة النظرة الانتهازية والأطماع لتحقيق مآرب شخصية وذاتية.

أسوق هذه الملاحظات حول السياسة والأزمة السياسية التي تمر بها بلادنا وقد انتهيت لتوي من قراءة كتاب مهم صدر منذ أيام في فرنسا تحت عنوان:
Les Lettres de prison de Nelson Mandela أو «رسائل السجن لنلسن مانديلا» عن دار النشر الباريسية Robert Laffont وقد جمع هذا الكتاب في قرابة 800 صفحة والذي صدر بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد زعيم النضال ضد نظام التمييز العنصري في جنوب افريقيا ليصبح أيقونة النضال في العالم من أجل الحرية والديمقراطية.
وقد تطلب اصدار هذا الكتاب عشر سنوات من البحث والتمحيص من قبل الناشر تمكن على إثرها من جمع 255 رسالة كان نلسن منديلا بعث بها من سجنه في Robben Island الى زوجته Winnie Mandela وأبنائه ورفاقه في الكفاح في حزب المؤتمر الوطني الافريقي أو (ANC) بين سنوات 1962 و1990 عند خروجه من السجن.
إن قراءة هذا الكتاب والوقوف على كلّ الرسائل هي قراءة شيقة وممتعة وتتداخل فيها الجوانب السياسية والتاريخية الى جانب الجوانب العاطفية والذاتية ولئن يصعب في هذا المقال الحديث باسهاب عن كل المعاني التي تحملها هذه الرسائل فقد اخترت التوقف عند ثلاث مسائل أساسية، المسألة الأولى تهم شخصية نلسن مانديلا، لقد قيل الكثير عن هذه الشخصية والتي اعتبرها أغلب الملاحظين شخصية القرن العشرين - كتب الكثيرون حول تجربته وحنكته السياسية ومواقفه الصامدة في أحلك فترات النظام العنصري، كما كتب الكثيرون عن شخصيته والكاريزما التي يتمتع بها إلا أن هذا الكتاب وهذه الرسائل تعطينا صورة أوضح وأقرب لهذه الشخصية فتبرز هذه الرسائل صورة المناضل الصلب والمستميت في الدفاع عن قضيته، الا أن ما شد انتباهي في هذه الرسائل هو جانب الحب والعطف والحنان والحميمية التي تؤثثها وطبعا تمتعت زوجته آنذاك السيدة مانديلا بجانب كبير من هذا العشق والحب والحنان، ويشير في عديد الرسائل الى أهمية وجودها الى جانبه ودور حبها في شحذ همته وعزيمته فيقول لها بكثير من الرقة أنه يعود الى رسائلها لقراءتها وليبحث فيها عن الأمل في فترات الأزمات وانسداد الآفاق.
الا أن هذا الحب والحميمية لا يقتصران على حبيبته بل نجدهما كذلك في رسائله لبناته Zenani و Zindzi اللتين تركهما أطفالا صغارا عند دخوله الى السجن ليجدهما شابات يافعات عند خروجه منه، ونجد كذلك الكثير من الحب والحميمية في رسائله لرفاقه خارج السجن، فهو لا يأمر في هذه الرسائل بل يحاول اقناع الآخرين بوجهة نظره ويؤكد لهم دائما أهمية مواصلة النقاش ونقد آرائه إذا كانت خاطئة.

المسألة التي أود الحديث عنها تخص الفترة التاريخية التي عرفها العالم اثر الحرب العالمية والتي عرفت دعم أعتى الديمقراطيات في العالم كالبلدان الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية لنظام «الأبارتايد» أو التمييز العنصري في افريقيا الجنوبية، فقد شكّل مانديلا حزب المؤتمر الوطني الافريقي (ANC) وهو عبارة عن تحالف واسع يضم العديد من القوى السياسية كالحزب الشيوعي والنقابات سنة 1943 المطالبة ببعض الحريات، وسيقع تحجير هذا الحزب في 1960 ثم سيقع القاء القبض على مانديلا اثر عودته من جولة دعائية لفائدة قضايا السود في أوت 1962 ليقع الحكم عليه مع قادة الحزب بالسجن والأشغال الشاقة المؤبدة، وسيقضي مانديلا قرابة الثلاثين سنة في السجن ليصبح أقدم سجين سياسي في العالم الى حد خروجه من السجن في فيفري 1990 ووجدت في هذه الرسائل قراءة هامة وثرية للواقع السياسي العالمي لتلك الفترة وخاصة دعم الدول الديمقراطية لنظام التمييز العنصري، ونلاحظ من خلال هذا التحول الكبير الذي عرفته العلاقات الدولية وبصفة خاصة تراجع الدول الكبرى في دعمها للتمييز العنصري مع تصاعد نضالات السود والدعم الكبير الذي لقيته حركة التحرر الوطني على المستوى العالمي.
الا أن المسألة التي شدت انتباهي في هذه الرسائل هي فهم الزعيم مانديلا للعمل السياسي، فمن خلال هذه الرسائل تبدو نظرته نبيلة للعمل السياسي وأهداف الالتزام السياسي، فالهدف الأساسي للسياسة هو بناء واعطاء الأمل للناس في التغيير وتحسين الأوضاع نحو الأفضل، والسياسة كذلك هامة والنضال السياسي مهم باعتباره الأداة لكتابة التاريخ، ويؤكد كذلك على صعوبة العمل السياسي ومشاق النضال والالتزام، الا أنه بدون الانخراط المواطني لا يمكن تغيير الأوضاع وتحسينها.

تبدو هذه النظرة للعمل السياسي ونبل السياسة طوباوية وبعيدة عن الواقع، فافريقيا الجنوبية ورفاق مانديلا من الشباب الذين تداولوا على السلطة بعد غيابه زاغوا وابتعدوا عن تعاليمه لتهيمن الانتهازية والفساد في الساحة السياسية هناك كما في عديد أنحاء العالم ومن ضمنها بلادنا.
ان قراءة رسائل مانديلا في ظروف الأزمة السياسية والأخلاقية ممتعة ومفيدة لأنها تذكرنا بالفهم النبيل للعمل السياسي والذي خبرناه في الأيام الأولى للثورة، وما أحوجنا اليوم للعودة الى ذلك الفهم للخروج من هذه الأزمة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115