قهوة الأحد: لماذا انغلقت المجتمعات الديمقراطية ؟

تشكــل مقولــة «المجتمـع المفتـوح» أو «la société ouverte»

احد أعمدة المجتمعات الديمقراطية والرأسمالية في العالم الحديث . ففي المنافسة المفتوحة والحرب الإيديولوجية بين مختلف الأنظمة السياسية في بداية القرن العشرين وبصفة خاصة بين النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي والأنظمة الشمولية شكلت هذه المقولة أساسا هاما في دفاع النظام الرأسمالي والدفاع عن ريادته مقارنة بكل الأنظمة السياسية الأخرى.
ومقولة «المجتمع المنفتح» أو «المجتمع المفتوح» لا تقتصر على الجانب السياسي بل لها بعد فلسفي هام ساهم في تطويره الفيلسوف الفرنسي هنري برقسون Bergson.

وقد ساهم في تطوير هذا المفهوم بصفــة أساسيــة الفيلسوف النمساوي كارل بوبـر Karl Popper في كتابه «la société ouverte et ses souvenirs» أو «المجتمع المنفتح وأعداؤه» والصادر سنة 1945 أي في البدايات الأولى للمنافسة بين النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي اثر الانتصار على النازية .
وسيكون هذا الكتاب نقطة انطلاق هامة لهذا المفهوم لاستعماله في الدفاع عن علوية وتفوق النظام الرأسمالي على الأنظمة الأخرى وبصفة خاصة النظام الاشتراكي .

ويعتبر كارل بوبر أن النظام أو المجتمع المنفتح هو آخر درجات وأعلى مستوى للحداثة السياسية في المجتمعات المتقدمة – فمن الناحية السياسية يرفض وينبذ هذا المفهوم وهذه المجتمعات التصرفات والمواقف السلطوية وتعتمد هذه المجتمعات على مبادئ التقارب السلمي على السلطة حيث تسمح الانتخابات الشفافة بهذا التداول بين مختلف الأحزاب. كما تشكل أفكار ومبادئ الحرية واحترام حقوق الإنسان الإطار الفكري والفلسفي للمجتمعات المفتوحة.

ولا تقتصر مبادئ هذه المجتمعات على المسائل السياسية بل تمسح كذلك وتهم الجوانب الاجتماعية فالمجتمعات المفتوحة تفتح المجال للعديد من القادمين من أصول اجتماعية بسيطة للصعود في السلم الاجتماعي والوصول إلى مواقع اجتماعية متقدمة. وقد أصبحت مسألة الصعود الاجتماعي احد أسس المجتمعات الرأسمالية الحديثة لتصير رافدا أساسيا لعديد المجتمعات كالمجتمع والذي بنيت مشروعيته وحكايته (récit) على هذه الأسطورة والتي أصبح يشار إليها بـ le mythe américain .

إذن ساهمت مقولة «المجتمع المفتوح» أو «la société ouverte « في بناء ودعم مشروعية النظام الديمقراطي والرأسمالي وتفوقه في الحرب الإيديولوجية على الأنظمة السياسية الأخرى وبصفة خاصة الأنظمة الاشتراكية والشمولية (totalitaire) وتشير هذه المقولة والفكرة الأساسية إلى قدرة هذه الأنظمة على فتح مجالات غير محدودة لكل الناس للمساهمة السياسية وللصعود الاجتماعي وبالتالي تبوؤ مناصب سياسية ومراكز اجتماعية هامة وغير مرتبطة بالأصول الاجتماعية للأشخاص.

أردت في هذا المقال العودة إلى هذه المقولة ومسألة المجتمعات المفتوحة في ظل الأزمات التي تعيشها المجتمعات الديمقراطية والتي ساهمت بطريقة كبيرة في المس من مشروعيتها وتأثيرها وبريقها السياسي الاجتماعي. وسنحاول في هذا المقال التعرض إلى جانب مهم من هذه الأزمة وهي قضية تعطل وانخرام رافد أساسي في هذه المجتمعات الديمقراطية وهو رافد الصعود الاجتماعي وقدرته على فتح المجال للقادمين من أصول اجتماعية محدودة للتقدم وتبوؤ مراكز متقدمة في السلم الاجتماعي .

سنتعرض لازمة المصعد الاجتماعي من خلال تقرير هام أصدرته منظمة التعاون والنمو الاقتصادي منذ أيام تحت عنوان «l’ascenseur social en panne ? Comment promouvoir la mobilité sociale» « هل المصعد الاجتماعي في أزمة ؟ كيف ننهض بالتقدم الاجتماعي» وللتأكيد على أهمية هذا التقرير نود الإشارة الى ان المنظمة مقرها باريس وتضم كبار البلدان المتقدمة والصاعدة وتعتبر تقاريرها ودراساتها من أهم الدراسات في العالم ولا يمكن اتهامها بالانحياز الاجتماعي أو السياسي.

ويمكن لنا أن نشير إلى أن أهم نتائج هذا التقرير تتلخص في مسألتين هامتين – الأولى تهم واقع التفاوت الاجتماعي والصعود الاجتماعي في البلدان المتقدمة والبلدان الصاعدة – والمسألة الثانية تخص السياسات التي يجب إتباعها للخروج من هذا الواقع المتأزم وفتح آفاق جديدة للمسألة الاجتماعية .

في ما يخص الواقع الاجتماعي يشير التقرير إلى تزايد التفاوت الاجتماعي في البلدان المتقدمة منذ بداية التسعينات فمداخيل %10 للأكثر ثراء تصل اليوم قرابة 10 مرات مداخيل %10 من الأكثر فقرا في المجتمعات المتقدمة وهذه النسبة كانت أقل من سبع مرات في بداية التسعينات – كما يشمل كذلك هذا التفاوت في الأملاك حيث يملك %10 من الأكثر ثراء أكثر من %50 من جملة الممتلكات بينما لا يحصل %40 من الأكثر فقرا إلا على %3 من هذه الممتلكات .

ويشير هذا التقرير إلى أن النزعة والتفاوت الاجتماعي قد تطورا اثر الأزمة المالية العالمية لسنوات 2008 و2009.

المسألة الثانية التي يشير اليها التقرير وهي أن التفاوت الاجتماعي قد اثر سلبا على المصعد الاجتماعي وجعل عملية الصعود الاجتماعي أكثر صعوبة وطولا وتعقيدا. ولعل الرقم الأهم والذي كان بمثابة الصدمة في الأوساط الرسمية يخص إشارة التقرير إلى أن أبناء العائلات الضعيفة سيحتاجون إلى خمسة أجيال أو 150 سنة للوصول إلى مستوى معيشة العائلات المتوسطة – كما قدم التقرير عديد الأرقام الأخرى التي تشير إلى عمق الأزمة التي يعيشها المصعد الاجتماعي في البلدان المتقدمة فيبرز مثلا أن 4 أبناء فقط على 10 من العائلات ذات المستوى التعليمي المحدود يواصلون تعليمهم الثانوي وواحد فقط يصل إلى التعليم العالي – أما على المستوى المهني فيؤكد التقرير أن ثلث أبناء العمال يصبحون عمالا – كما يؤكد التقرير أن اغلب العائلات الثرية يتمكنون من الحصول على مهن غير بعيدة عن المهن التي يزاولها آباؤهم.

كما يؤكد التقرير كذلك على هشاشة الطبقات المتوسطة في هذه المجتمعات حيث ان عائلة على سبعة عائلات مؤهلة للسقوط في شراك الفقر ومستوى العائلات المعوزة .

شكلت نتائج هذا التقرير المهم صيحة فزع في البلدان المتقدمة حول عمق الأزمة الاجتماعية وتعطل المصعد الاجتماعي والذي شكل لسنوات عديدة آلية أساسية في المجتمعات الديمقراطية وتكمن أهمية هذا التقرير لا فقط في تشخيص هذا الواقع بل كذلك في تقديم عديد المقترحات حول كيفية الخروج من هذه الأزمات وإعادة تأسيس المصعد والحركية الاجتماعية في المجتمعات الديمقراطية .

ويؤكد هذا التقرير آن محاربة الفوارق الاجتماعية وعودة الأمل لا يمكن أن تقتصر على السياسات التقليدية لإعادة توزيع الدخل . بل لابد لهذه الإجابات أن تنخرط في نظرة شمولية واسعة تكون المدرسة نقطة انطلاقها وأساسها – فمحاربة الفوارق الاجتماعية ودعم الصعود والديناميكية الاجتماعية يمر حسب التقرير بدعم التعليم وتمكين أبناء العائلات المعوزة من تمييز ايجابي يمكنهم من تجاوز النقص الاجتماعي الذي يعانون منه من جراء انتمائهم الاجتماعي . كما يؤكد هذا التقرير على عديد السياسات الأخرى التي يجب القيام بها في مجال الصحة والجباية والتوازن الجهوي.

يشكل هذا التقرير احد أهم الدراسات التي قرأتها في الأيام الأخيرة وتكمن أهمية هذا التقرير في صدوره عن مؤسسة حكومية ورسمية معروفة بجديتها وحرفيتها وحيادها العلمي . والأهمية الثانية هي الاهتمام الذي تعطيه الحكومات في البلدان المتقدمة إلى مسألة التفاوت وتزايد الفوارق الاجتماعية وتعطل المصعد الاجتماعي . وتعتبر هذه الحكومات أن هذه الظواهر وبصفة خاصة الأزمة الاجتماعية هي من أسباب أزمة اليمقراطية فمبادئ الحرية السياسية والتعدد واحترام حقوق الإنسان لم تعد كافية لبناء مشروعية النظام السياسي الديمقراطي طالما لم يصحبها تغيير اجتماعي وتحقيق حلم الأغلبية .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115