Print this page

في الدنيا وما فيها من تفاهات: في شعبنا جهالة كبرى (7)

يبقى السؤال قائما، قابضا لروحي: كيف الكتابة حتّى تلقى كتاباتي، لدى القرّاء، قبولا ورضاء؟ حتّى يكون فهم النصّ موازيا

لما جاء في النصّ من فحوى ومن دلالات؟ من العسر كسب رضاء القرّاء وللقرّاء نظر خاصّ. من الصعب تحقيق الموازنة والنصوص يصنعها القرّاء... القرّاء هم الأصل ولهم كلمة الختام. حسب ما كان للقرّاء من تمثيليّات، يتقرّر الصدّ أو الرضاء. القرّاء هم أصحاب القرار. هم من يقيّم جودة المنتوج ويقيّم المناهج والمواصفات. هم من يحثّ صنّاع النصوص على تغيير المضامين، على تطوير ما كسبوا من اسلوب ومن مهارات. القرّاء هم السوق والسوق هو الآمر والناهي وله القول الفصل...

هل في تونس سوق للنصوص؟ هل هناك قرّاء، يتبيّنون الكلام، ينبّهون الى ما جاء في الكلام من قوّة وهوان، من طرافة وتفاهة؟ في ما أرى، السوق التونسيّة كاسدة. لا بيع فيها للنصوص ولا شراء. القرّاء عندنا قليلون. صنّاع النصوص عندنا قلّة. لمّا تكسد السوق، انتاجا وبيعا، يتراجع المنتوج، كمّا وكيفا ويمشي المنتجون الى صناعات أخرى، فيها ربح ولها رواج...
سوق القراءة والكتابة في تونس هزيلة، بائسة. لا أحد اليوم يكتب. إلا قليلا. لا أحد اليوم يقرأ. إلا نادرا. في شعبنا جهل بليغ، ضارب. حتّى المثقّفين وأصحاب الشهائد وأهل الوظائف وأولي الأمر، هم، غالب الأحيان، لا يكتبون ولا يقرأون. هم أشباه جهلة. هم جهلة... في الجامعة التونسيّة، في ما أرى، لا يقرأ الأساتذة إلا قلّة. في المدارس الابتدائية والثانويّة، ترى المدرّسين من كلّ صنف هم في بؤس ورداءة. كلّ يعيد ما كان له في الذاكرة من غثّ، من حشو. لا مكان في مدارسنا للدفع بالنشء، للتنوير، للتعلّم. دور التعليم عندنا، أحيانا كثيرة، هي أدوات لنشر الجهل. هي معاول للهدم...
٭٭٭
نحن شعب فيه جهل ضارب. لا يقرأ فينا إلا قلّة. لا يكتب فينا إلا قلّة. سوق القراءة والكتابة ضعيفة، هشّة. بل قل هي منعدمة. أصبحت الكتابة عندنا اليوم شبهة. أصبحت القراءة للمقرئين في المقابر وللسحرة... زاد في سوء الحال هذا ما يدعو اليه الأيمّة في المساجد، منذ عصور، من غلق لإعمال العقل، من صدّ عن التفكير والفكر.
جلّ الأيمّة في بيوت الله هم جهلة. رؤوسهم موصدة. يقولون خرافات. يكررّون تفاهات. يعيدون على الناس حكايات ممجوجة، أحداثا منتهيّة. قتل الأيمّة في المسلمين كلّ عرق حيّ، كلّ تطلّع، كلّ حركة. أفسد الأيمّة عيش الناس. أقعدوا المسلمين وقطعوا فيهم كلّ تحفّز، كلّ أمل، كلّ اجتهاد. فوق المنابر، كلّ جمعة، يفزع الأيمّة المصلّين. يذكّرونهم بالموت المتربّص، بالفناء القريب، بما في الآخرة من عذاب وشدّة. كلّ مسلم يحمل اليوم في قلبه خشية وريبة. كلّ في فؤاده استقرّ فزع ورعب. ربّ المسلمين مخيف، جبّار، متجبّر، لا يعرف عفوا ولا رحمة. ينفخ الأيمّة في قلوب الناس الفزع والبغضاء والتعصّب. أمّا التفكير فهو شبيه بالكفر. أمّا التجديد فهو بدعة حرام. كلّ شيء في الكتاب ولا سعي ولا نظر خارج الكتاب. لا أحد من الأيمّة يحثّ على التعلّم، على العمل، على حبّ البشر، على الكدّ في سبيل الحياة. الدنيا في أعينهم دنيئة والمؤمن البصير من جعل قبلته الأخرة وهي خير وأبقى...
ما يقوله الأيمّة فوق المنابر مفزع، محبط، مكبّل للهمم. تخلّف المسلمين مأتاه أيمّتهم. فقر المسلمين وبؤسهم أصله ما يلقونه في المساجد من كسر للعزم، من إحباط للجهد... كم مرّة في المسجد، تمنّيت أن أصعد فوق المنبر. أن أخطب في الناس، أن أقول لهم ما في قلبي من أفق، من أمل، من غضب، من قضايا مهمّة. ليتهم أنزلوا الامام فننتهي ممّا يقوله الامام من بغضاء، من خرافات، من منكر. ليتهم، صمّوا آذانهم حتّى لا يكدّروا صفو قلوبهم. ليت الأيمّة تركوا المنابر لغيرهم من الناس. لصنّاع الكلام، من شعراء وفلاسفة وأهل علم. كم تمنّيت أن أكون اماما أقرأ على الناس نصوصي. أخبرهم بما جاء في «الورقات» من أحداث ووصف. لماذا احتكر الأيمّة المساجد والمساجد بيوت الله مفتوحة لكلّ الناس، لمن شاء من الناس؟ لماذا لا تفتح المنابر ذراعيها لمن أراد من العباد حتّى يقول كلّ عبد ما يحمل صدره من همّ وغاية وقصّة؟
أنا لا أحبّ خطب الجمعة. خطب الأيمّة مسمومة، مغرضة، محرّضة على البغضاء والمنكر. فيها تجفيف للنظر وقتل للرحمة. فيها نظر مجحف. فيها غلق للفكر...
لا أمشي الى المساجد، الا نادرا. في مسجد النصر حيث أصلّي أحيانا. أعود كلّ مرّة من الصلاة وفي قلبيّ اضطراب و ضيق. فوق المنبر، يعيد الخطيب على المصلّين ما كان قال وأعاد ألف مرّة. أحيانا، ان أراد تجديدا، يأتيك الامام بخرافات لا يقبلها خيال ولا عقل. ورغم ما يأتيه الامام يوم الجمعة من سخافات لا تنفع، ترى المصلّين في صمت، يسمعون أو لا يعون ما جاء من خطب متكلّسة...
٭٭٭
خلافا لما ألقى من ندم بعد الصلاة، الكثير من صحبي يصلّون في المساجد بانتظام ويستمعون كلّ جمعة الى خطب الايمّة. في المسلك الصحّي بالمنزه، ألتقي بأصحابي كلّ صباح. نمشي معا ساعة. نتحدّث الى بعضنا بعضا في ما جدّ في البلاد من تقلّبات وما كان في السوق من أسعار وأحيانا في ما قاله الامام يوم الجمعة. في ما يلي حكاية قالها أحد الأيمّة أمام المصلّين، في جامع كبير بالعاصمة.
قال المنصف، صاحبي، في الجمعة الفائتة، كان لنا إمام، هو أستاذ متقاعد يدرّس العربيّة في المعاهد. كان الامام متحفّزا. يخطب في الناس بعربيّة مهذّبة. كان يريد أن يفحم الناس، أن يظهر ما كان لرسول الله من مكارم أخلاق ومن خصال مختلفة. ماذا قال؟ قال إن الرسول سيد الخلق، في بداية الاسلام، كان في كلّ يوم جمعة يصلّي بالمؤمنين، يخطب فيهم من فوق جذع نخلة. كان المصلّون من حوله، في خشوع، يستمعون الى ما كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يأمر وينهى، يشرح، يبيّن ما جاء في الآيات من أمر ومن حكمة. استمرّ الحال كذلك زمنا. سنوات عدّة. ثم تطوّر الحال وقوي دين الاسلام وأصبح للمساجد منابر مثل تلك التي نلقاها في كلّ بيوت الصلاة...
في يوم الجمعة، دعي للصلاة وصعد الرسول المنبر ليلقي على المؤمنين خطاب الجمعة. لم يبدأ الرسول في الكلام لمّا سمع والناس من حوله أنينا يسري وبكاء يشتدّ. نظر الرسول فرأى جذع النخلة يبكي ودموعه منهمرة. دون تردّد، نزل النبيّ من فوق المنبر بسرعة ومشى الى جذع النخلة يسأله عن سبب حزنه وسرّ بكائه فأجابه جذع النخلة وكلّه تأثر وفي صوته اضطراب وحشرجة: «أنا حزين لفراقك، يا رسول الله... كم أودّ أن أراك تصعد كلّ يوم جمعة فوق رأسي وتقول للمسلمين خطاب الجمعة». عندها، بكى رسول الله وانهمرت دموعه حزنا. عانق الجذع ومسح بيمينه أطرافه والناس من حوله ينظرون بقلوب داميّة ما يجري. شكر الرسول جذع النخلة شكرا كثيرا واستأذن منه حتّى يقول خطابه فوق المنبر. فكان له ذلك وأكبر الناس في الجذع حبّه لرسول الله ووفاءه. بقيّ الجذع في المسجد في ركنه مكرّما، مبجّلا وكان لرسول الله الفضل والعزّة...
مثل هذه الخطب العرجاء تملأ المساجد عندنا كلّ يوم جمعة. مثل هذا الحكايات السخيفة تلقاها في الكثير من خطب الأيمّة. ما النفع من مثل هذه القصّة؟ لا أدري إن حصل للمصلّين يومها وعي أعمق وإدراك أفضل؟ لا أدري إن كان ما قاله الامام فيه جلب للمصالح أو درء للمفاسد. ماذا يريد أن يقول الامام؟ كيف لأستاذ الثانويّة أن يأتي بمثل هذه الخرافات؟ أسأل عمّا كان الأستاذ يقدمه للتلاميذ...
خطب الأيمّة عندنا، جلّها، تعاويذ وشعوذة، نفخ في الرمل. في ما أرى، عشّش في رؤوس الأيمّة جهل ليس كمثله جهل. في ما أرى، عشّش في منابر المساجد غربان وبوم... لماذا لا يتكلّم الأيمّة عمّا يجري في البلاد من إهمال، من فوضى، من لصوصيّة، من ظلمات، من قذارة منتشرة؟ لماذا لا يتكلّم الأيمّة في التعلّم، في الشغل، في القراءة وغيرها من السبل لتطوير المسلم وما هو يحمل من سلوكيّات وفكر؟
في ما كنت أقول، هناك ولا شكّ مبالغة. في ما كتبت، هناك غلوّ. ليس كلّ الأيمّة جهلة. ليس كلّ التونسيين مناكيد، جهلة. هناك من الناس من لهم علم ومعرفة. هناك من الأيمّة من له بصر وتبصّر... لماذا أنا متحامل؟ لماذا لا أرى غير الفسّاد والجهلة؟ حين أكتب أنسى النور المضيء يسري ولا أرى في الناس غير الظلمات تلفّ. يجب أن أنزع عن عيني هذا السواد. أن أومن أن بعد الليل سوف يشرق في الأفق الضوء ويعمّ النور وتمتلئ الأرض بهاء وخيرا…

(يتبع)

المشاركة في هذا المقال