ملامح الخطة الوطنية للحفاظ على التراث التونسي غير المادي

بقلم: لـطفي عيسى
أستاذ التاريخ الثقافي بجامعة تونس
تنخرط ملامح الخطة المستقبلية للتراث الوطني التونسي غير المادي ضمن

ما أقرته بنود اتفاقية لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) بخصوص حماية التراث الثقافي اللامادي وطنيا ودوليا. وهي خطة أقرّت كما هو معروف في الـ 17 من شهر أكتوبر من سنة 2003، ودخلت حيز التنفيذ الفعلي بداية من سنة 2006 بعد المصادقة عليها من طرف ثلاثين دولة من بين الدول الأعضاء، قبل أن تتوسع المصادقة على تلك الاتفاقية الدولية لتشمل 163 دولة عضوا في حدود سنة 2015.

ويَعتبِر الفصل الثاني من هذه الاتفاقية أن: «جميع الممارسات والتصوّرات الفكرية والتعبيرات الفنيّة والمعارف والمَلَكَاتِ (وما ينتظم في سلكها من أدوات ومنتجات وفضاءات ثقافية...) تعتقد التجمّعات البشرية أو المجموعات وكذا الأفراد ذاتهم في صلتها الوثيقة بتراثها الثقافي، يتعين إدراجها ضمن التراث الثقافي غير المادي.»

ويخضع هذا المخزون الثقافي الذي تم توارثه جيلا بعد جيل ووفقا لما أقرته نفس الاتفاقية، إلى عمليات إحياء مستدامة من قبل من يمارسونه، وذلك في تناغم مع تحوّلات الوسط الذي يعيشون فيه ومقتضياته الطبيعية والتاريخية، وهو ما يُفضي إلى شعور أولئك أن ذلك المخزون يشكل عنصرا ناظما لهويتهم الجماعية، بل وشرطا من شروط اتساقها.

ويبرز ذلك بالخصوص في العديد من المجالات المتصلة بالتقاليد والتعبيرات الشفوية وفنون الفرجة والممارسات الاجتماعية والطقوس المتصلة بإحياء المراسم الاحتفالية والمعارف التقليدية والمعتقدات التي تحيل على تمثل خاص للعلاقات البشرية والظواهر الطبيعة. كما يحيل على مختلف المَلَكَاتِ التي تحتاجها الفنون الحرفية التقليدية والعديد من الفنون الموسومة بـ «المستظرفة».

ويتمثل الهدف المنشود من وراء صياغة هذه الاتفاقية والمصادقة عليها من قبل الدول الأعضاء بمنظمة اليونسكو في الحفاظ على التراث الثقافي غير المادي بالتعويل على مجموعة من الإجراءات ينُجم عن الالتزام بتجسيمها على أرض الواقع ضمان للحدّ المطلوب من النجاعة أو الجدوى. ويتصل الأمر إجمالا بالاستكشاف والاحصاء والتوثيق والدراسة والبحث وتوفير جميع الأليات الكفيلة بالحماية ونقل المعارف التراثية إلى الأجيال الجديدة، سواء عن طريق مؤسسات التحصيل والتكوين، أو بالتعويل على المصاحبة والمحاكاة والتدرّب الذي توفره المسالك المهنية المتكفّلة بنقل المعارف أو التجارب التراثية بشكل متقن، مع العمل على تطوير منتجها الثقافي وتجويد محصلتها وإحيائها.

وتحتاج الخطة الاستراتيجية الوطنية التونسية التي بات من الضروري العمل على رسمها لمباشرة تطبيق مختلف البنود الواردة ضمن الاتفاقية الدولية الخاصة بحماية التراث الثقافي غير المادي من وجهة نظرنا الخاصة إلى مأسسة شراكة وثيقة ومنتجة بين السلط العمومية المشرفة على قطاع الثقافة ونظيرتها المؤتمنة على نقل المعارف العلمية من ناحية، ومختلف المتدخّلين المهنيين والفاعلين الثقافيين الحاضنين لتلك الممارسات أو/ والمدافعين عن تواصل وجودها واتساقه ضمن المشهدين الثقافيين الوطني والدولي، وكذا المحسوبين على جميع أطياف المجتمع ومؤسساته المدنيّة، تلك التي تكتسي تدخلاتها الثقافية وأنشطتها التحسيسية أيضا والتفافها حول المجالات التي يتم العمل على صونها قصد إدراجها ضمن عناصر الخطة الوطنية، إلى ضمان مستوى عالي من الاجرائية والمصداقية في آن.

لذلك تكتسي التعبئة حول أهمية الحفاظ على التراث الثقافي غير المادي والاستثمار فيه بالخصوص حساسية بالغة، بالنظر إلى تواضع وعي معظم الفعلين السياسيين والاقتصاديين التونسيين بأهمية هذا المجال وحاجة جميعهم الملحّة إلى جهود تحسيسية مبتكرة وموجّهة تشحذ لديهم الشعور بنخوة الانتساب - من وجهة نظر مدنيّة مسؤولة – مع الحرص على الحفاظ على مختلف مكوّنات تراثهم غير المادي والتعامل مع ذلك الموروث بوصفه عنصرا «مُعلِّما» لما قد يستقيم نعته بـ»الجينوم الثقافي للتونسي marqueur du génome culturel du tunisien».

كما يتعين على السُلط المعنية تحديدا وزارة الشؤون الثقافة التفكير جدّيا، وبعد إعادة العمل «للإدارة العامة للتراث» وتطوير صلاحياتها ومزيد تنسيق أعمال المعهد الوطني للتراث والوكالة الوطنية لإحياء التراث والتنمية الثقافية وتجويد أدائهما، التفكير جدّيا في بعث «إدارة عامة لقيادة البحث والسياسة العلمية للدولة في مجال التراث Département de pilotage de la recherche et de politique scientifique du gouvernement en matière de patrimoine ، يتفرع عنها مركزان مختصّان Centres spécialisés في تكييف برامج الإحياء والمحافظة والترسيم أو التسجيل وإكسابها مضمون عملي سواء على الصعيد الوطني أو الدولي، تساوقا مع ما أقرته اتفاقية اليونسكو للمحافظة على التراثين المادي وغير المادي. وهو جهد لا يمكن الاكتفاء ضمنه بالدور الذي تلعبه مختلف هياكل الوزارة على جسامة ما هو موكول لها وأهميته، بل يتعين أن تنخرط ضمنه بشكل مدروس ومن خلال الامضاء على اتفاقيات شراكة علمية وتمويل حسب الأهداف، مع تقصّي السرعة في الإنجاز والنجاعة في إتمام المشاريع وتجويد المضامين عدة أطراف معرفية ومهنية فاعلة (المخابر الجامعية ومؤسسات ووكالات الاستقصاء والبحث المختصّة). إذ يتعين أن تُعقد تلك الاتفاقيات بين هياكل الوزارة وإداراتها العامة وتمثيلياتها الجهوية (أو مندوبياتها) من ناحية، ومؤسسات البحث الجامعية التي تتوفر على مؤهلات ابتكارية ومعرفية ونقدية structures disposant d’une masse critique conséquente تنتظم في شكل وحدات ومخابر بحث ومدارس دكتوراه، مع الاستئناس في جميع ذلك بالمهنيين والعارفين أو المولعين بالتراث érudits قصد تكييف المضامين المعرفية بشكل يضمن تحويلها أو نقلها عن مجالها المعرفي الصرف إلى عروض تطبيقية تتسم - وعلى اتصافها بالتجديد واتساع الخيال- بمستوى عالي من الإجرائية.

وضمن هذا الإطار وبالاستناد إلى مجالات التسجيل التي حدّدتها منظمة اليونسكو بخصوص التراث الثقافي غير المادي (الموسيقى والفنون التراثية، ومهن التراث، وثقافة المائدة، والآداب والفنون المستظرفة التي تحيل على الحكايات والأمثال والأزجال والخواطر والحكم...)، يوسعنا وضمن عناصر الخطة الاستراتيجية المستقبلية للتراث الوطني غير المادي، تكليف مثل تلك الإدارة الراعية للتراث غير المادي بتصور إعداد وتنفيذ أربعة ملفات مشاريع قابلة للحماية أو/ والتسجيل وفقا للشروط التي ضبطتها اتفاقية منظمة اليونسكو وملحقاتها الإجرائية وهي في تصوّرنا الشخصي:

- إعداد ملف لتسجيل «الجمعية الرشيدية التونسية» باعتبارها مؤسسة موسيقية وفنية وطنية تُعنى بالتراث الموسيقي التقليدي، أُسست في أواسط ثلاثينات القرن الماضي بالتوازي مع بروز الدستوريين الجدد بزعامة مؤسس الدولة الوطنية التونسية الحبيب بورقية وبدفع خاص من بقية الزعماء الوطنيين مثل الطاهر صفر، بهدف حفظ الموروث الموسيقي التونسي الأصيل وجمع وترقيم «نوبات» المالوف الثلاثة عشر. إلاّ أنه وبالرغم من مكانتها التاريخية فإن ما تعيشه هذه الجمعية حاضرا من اكتناف وهوان، يقتضي التعجيل بتدارك الأمر قبل اندثار هذه المؤسسة العريقة بالكامل، لذلك ينبغي الاهتمام بها بشكل مركّز والاسهام في انقاذها والحفاظ على الرصيد التراثي الذي تمثله بالنسبة لذاكرة التونسيين الجماعية، وذلك عبر وضع خطة محكّمة تمكّن من إعداد ملف مستوفي ودقيق يسمح بتسجيلها ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي الذي يحتاج إلى حماية مؤكدة، مع حشد جميع الإمكانيات والتمويلات اللازمة لإعادة تنظيمها بشكل يستقيم معه اتساق أدائها وتواصله باعتبارها منارة للموسيقى التونسية الكلاسيكية أو التختية ومؤسسة تُعنى بحفظ طبوعنا التقليدية التي تحيل وفي جزء كبير منها على أفانين الموسيقى التونسية.

- إعداد ملف لتسجيل «معجون الهريسة» بوصفه عنصرا مميّزا للمائدة التونسية قياسا لما سواها. ونحتاج في إعداد هذا الملف إلى كِفَيات وقدرات متنوعة تستطيع توضيح الدور الذي لعبه ولا يزال هذا المنتج في إعداد أفضل الوجبات الشعبية التونسية، فضلا عن تشكيله لرابط مهم بين جهات الساحل التونسي (من نابل إلى المهدية) والجهات الداخلية بالوسط الشرقي والغربي (القيروان وسيدي بوزيد والقصرين) وجهات الجنوب الغربي التونسي معقل «الفلفل الشمسي أو الجريدي»، مما يضفى على مختلف أطباق المائدة التونسية عامة مذاقا خاصا يحيل على فنون التبزير ومقاييس خلط البهارات.

- إعداد ثلاثة ملفات تتصل بالفنون والصناعات التقليدية وخاصة «الخزف البربري» الذي يحيل على الفنون الساذجة arts naïfs بقرى ولاية بنزرت الواقعة بالشمال التونسي، أو/ وعلى صناعة قفص الزينة المحسوب على قرية جبل المنارة بسيدي أبي سعيد. وهو ضرب من الفن التقليدي يتضمن مشاكلة طريفة لعدّة عناصر تتصل بأنماط هندسيّة تعود إلى الفنون الحرفية التقليدية بالقيروان وعلى شكل تنظيم الإيوان الأندلسي وزخرفة وتشبيك المواد المعدنية التي تحيل من جانبها على فنون التطريز المحسوبة على قرى الوطن القبلي وبلدة رفراف على الساحل الشمالي للبلاد التونسية. ولعل تلك الخصوصيات هي التي حوّلت تلك الصناعة التقليدية إلى نسيج وحده لازم منذ الاستقلال جميع حملات الاشهار والتعريف التي أقيمت للنهوض بقطاع السياحة والصناعات التقليدية سواء بداخل البلاد أو بخارجها.
كما يمكن أيضا إفراد ملف خاص بتقنيات الصيد بـ«الشرفيّة» بجزر قرقنة وجربة وعلى سواحل مدينة صفاقس، وهي تقنيات انكفآت على نفسها حاضرا، لا نستبعد - وإذا ما تواصل إهمالها- انقطاع العارفين بتقنياتها التقليدية الايكولوجية بعد رحيل جيل النصف الثاني من القرن العشرين.

- إعداد ملف لتسجيل الحكايات والمأثورات والأمثال الشعبية والأزجال والحكم، وجميعها عناصر تحتاج إلى تجميع ميداني باعتبار اندثار العديد من المرويات تماما، بل وعدم قدرة جانب واسع من التونسيين على تناقلها أو تداولها بشكل مبتكر بين الأجيال. وهو ما يتطلب الاستنجاد بما تحتفظ به البلاد من خبرات والاستفادة من اطّلاعها الواسع على ضروب من التراث غير المادي، وتضافر ذلك مع جهود هياكل البحث الميداني والتوثيق السمعي البصري، وما يحتفظ به العارفون بطقوس روايتها وتبليغها أو تناقلها كابر عن كابر، حتى تتمكن الأجيال الجديدة من إعادة تملّكها وتتوفّق في تجديد وظائفها عبر ربطها مثلا بمختلف أوجه الذكاء الافتراضي وتصوّر التطبيقات الرقمية الترفيهية والتعلّمية المستفيدة من مضامينها (applications culturelles ludiques et éducationnelles) توثيقا للصلة بينها وبين الابتكار التخيّلي المبدع في ميدان الإنتاج الثقافي.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115