Print this page

النهضة وسيزيف: قراءة أوّلية لنتائج البلديات

جاب السيد الغنوشي البلاد في آخر مرحلة من مراحل الحملة الانتخابية،

ورغم حرصه على إخفاء قلقه فإنّه طغى عليه ارتباك يحمل همّا وانزعاجا ممّا قد تبوح به البلديات. ولا نأتي بالجديد عندما نقول إنّ أصعب المعارك هي معركة البلديات لأنّها الناطقة بهموم كلّ جهة مجتمعية، وترسم قاعدة انتخابية تقوم عليها الانتخابات التشريعية والرئاسية.

يجوز لي في قراءة أوّلية أن أقدّم مقاربتي لأهمّ ما عاينته طيلة هذه الحملة ، وما أثار انتباهي خاصّة بالنسبة إلى حركة النهضة التي يعتبرها الجميع أهمّ حزب ويصدّرها سبر الآراء على أنّها أكبر الأحزاب.. ولا يفوتنا التنبيه إلى أنّ النهضة تستثمر هذه المقاربة دوليّا على وجه الخصوص، فتبدو الحزب الماسك بدواليب الأمن والاستقرار في البلاد، وأنّ أمن تونس مرتهن بمدى رضى هذا الحزب على السياسة التي تسلكها الحكومات المتعاقبة. ولا أخفيكم فقد جلست لأنظر في حركة هذه الحركة منذ أن ارتفع عنها المنع، ومنذ أن تصدّرت كرسي الحكم بعد أن ناضلت لأجله سنوات.. وسنوات. وسيّجت نظري بجملة من الأدلّة التاريخية أساسا: مثل الجسم الانتخابي العملاق الذي خرجت به على الشعب التونسي، والنظر في الأسباب التي دفعت بهذا الجسم إلى أن يتآكل في ظرف سبع سنوات؟ وذلك بالرغم من إعلان هذا الحزب عن انسلاخه عن الإخوان بعد هزيمتهم بمصر، ورغم اللوجستيك المادي الذي توفّر له.. ورغم تراكم التصريحات بأنّه حزب متطوّر ، عدل عن الإسلاموية، واستدلّ على ذلك بمظاهر قد يراها الخبير مصطنعة ، ولكنّها في نظر قياديي هذا الحزب إجابة مقنعة لشعب « بسيط» يحفل بالمظاهر: من ذلك تطعيم الحزب بوجوه هي في الظاهر محمولة على الحداثة، نساء «سافرات»، يتصدّرن القائمات، وزعيم تخلّى عن لباس إيديولوجي ليستبدله بآخر يوحي لناظره بصور رجال سياسيين حداثيين من أهل الغرب. وانتقى في حملته الانتخابية كلّ ما يخلب ألباب الشباب ، من ذلك تصريح زعيمه أمام جمع من الناس عشية الثلاثاء 1 ماي في بن عروس عندما بشّر التونسيين» بتحقيق تطوير غير مسبوق للعمل البلدي في تونس ، وذلك عن طريق توفير أنترنت wifi مجانية و قوية في الأماكن العمومية بالبلديات التي تنتخب النهضة: الحدائق المساجد المدارس والجامعات، لأنّ وزارة التكنولوجيا الحديثة يقودها وزير نهضوي»..

كان هذا التصريح محمّلا بإشارات جمّة، وجميعها يفيد أنّ هذا الحزب، رغم التنازلات التي قدّم، في الظاهر على الأقل، ليس في أفضل حالاته. وكان من الممكن أن يمرّ التصريح عاديّا لولا ما تضمّنه من مواقف وإشارات لا يستطيع السامع الناقد أن يتجاوزها. وهي، في رأيي، جميعها تتركّز في مسألتين هامّتين، هما:

• المسألة الأولى ، وهي الأوضح، إذ لم يعد صاحب هذا الحزب بقادر على التحكّم في خطابه والتكتّم على مفهومه للقيادة الحزبية والعمل الحزبي ، ومدى التزامه بالصرامة والحياديّة، وهي تصوّر في صدق فلسفته في الحكم القائم على التوافق. ويتنزّل مثل هذا التصريح في صلب مفهوم الرشوة والارتشاء: صوّتوا للنهضة حتى تجازيكم، ولا يغيبنّ عنكم أنّنا نسمع هذا الخطاب من حزب يدّعي أنّه الأتقى، وقد غاب عنه الحديث « لعن الله الراشي والمرتشي والساعي بينهما» ، وفي هذه الحال اكتملت العناصر الثلاثة للرشوة: النهضة الراشية والمصوِّت المرتشي ووزير التكنولوجيا الساعي بينهما.. وأخشى ما أخشاه أن يتحوّل الفساد إلى ظاهرة عادية تعيش بيننا وتسهم في تغذيتنا. هذه قضية أمّا القضية الثانية فهي تتعلّق بأنّ الرجل لا يتصرّف باعتباره رئيس حزب فحسب وإنّما قد يكون على رأس حكومة موازية تأمر وتعاقب وتقرّر وتزجر وتثيب.. تفاضل بين من صوّت لها وتقمع من أقصاها، وفي جميع ما يقول السيد الغنوشي يعتبر نفسه ديمقراطيا.. أمّا القضية الثالثة فهي الأغرب لأنّ من نطق بها يعتبر نفسه مسؤولا يبشّر من سينتخبه بالويفي في المدارس والجامعات، وهي فضاءات نعمل نحن المربين على أن يقدّس فيه الطالب والتلميذ العلم وينقطع عن جميع ما يشوّش له تفكيره ، فإذا بالسيد الغنوشي يعده بأيّام نغم ورقص على إيقاع ما تبثّه قنوات الوي في، أو قل بالنسبة إلى من يطلب دروسا في التطرّف والإرهاب ومن يبحث عن الاستقطاب بأنّ النهضة/ الدولة قد خلعت أبواب المراقبة وله ما يسعى إليه.. ويبشّر الشيخ المصلّين بالمساجد بالوي في، وفي هذه المسألة أسأله: ما هو مفهومك يا سيدي للعبادة بالمسجد إن لم تكن التفرّغ للعبادة ومناجاة الله في بيته؟ وبماذا ستفيد الوي في المتعبّد في الصلوات الخمس أو في صلاة الجمعة أو في صلوات التراويح ونحن على أبواب رمضان؟ هل ستقرّب الوي في المتعبّد من الله ؟ فتمكّنه من صعود درجات في الكونكسيون؟ أنت تلتقي في هذه النقطة مع بعض المدعين في العلم فلسفة

عندما فسّروا الوحي بمباراة رياضية تنقل مباشرة عبر الساتلايت.. ومن يدري قد تجد الملائكة مسلكا للنزّول فتمتزج الأرض بالسماء؟ وهذه نتيجة طبيعية لوعدك بالويفي واللعب في حرم المسجد.
باختصار سيدي أنت انسقت وراء وعود زائفة ولم تتريّث لحظة لتتأمّل في مقاصد خطابك، وهذا أسهم بشكل كبير في مسخ طبيعة حركتكم.. وقدّمت لمن يعارضونكم هديّة لنقدكم نقدا مريرا.

• وتلك هي المسألة الثانية، وأذكرها بإيجاز: فمثل هذا السلوك الذي اتبع رئيس حركة النهضة نبّهني إلى أشياء رأيتها منطقية.. فالغنوشي انساق ، مرحا في تقديم أفانين من البدعات الحداثية، سواء في طريقة اللباس أو في ما أعلن عنه من أنّه حزب قد تغيّر وهو ينحو إلى العقلانية ويتنكّر إلى أصوله الإيديولوجية.. وأعتقد أنّ جميع هذه المظاهر قد أنتجت أوضاعا ما كان للغنوشي أن يفكّر فيها. وحتى لا أظلم الرجل، جمعت هذه المظاهر وقرأتها بعين نهضاوية، مستأنسة بالأحداث القريبة: وقلت كيف لي أنا، لو كنت نهضاوية أن أقبل بما آلت إليه أحوال النهضة؟ هل أتقبّلها وأسترسل في التصديق لما قيل لنا بأنّها مناورة؟ ولكنها مناورة طال أمدها.. كيف لي أنا النهضاوية التي تؤمن بمبادئ إيديولوجية لو تخليّت عنها لكنت من أهل الزيغ والكفر أن أقتنع بالمنزلة بين المنزلتين التي وضعني فيها شيخ الحركة؟ والحال أنّه لن تتوفّر لنا فرصة أخرى يمكن أن نحقّق فيها مطالبنا، ونسهم في بناء دولة الإخوان التي ضحى لأجلها الآلاف؟ وفي خضمّ هذه التساؤلات استحضرت شخصيات مثل شورو واللوز .. وتنكّر النهضة لهم، بل وإقصائها لهم.

• وفي خضمّ هذه التساؤلات قرأت النتائج الأوّلية للبلديات: فإذا بالجسم الانتخابي لحركة النهضة مترهّل، خسيس، ضعيف ومنهك. كيف لا وقد دخلت النهضة في 2011 بجسم يافع يزن المليون ونصف، وإذا بها تنحدر في 2014 إلى تسعة مائة ألف مصوّت، وإذا بالجسم الانتخابي للحركة نحيف في ظرف عشرة أشهر بعد المصادقة على الدستور، معناه أنّه حدثت أمور في تلك الفترة انتهت إلى إقصاء التيار الذي بقي على عهده في الإيمان بمبادئ الإخوان ، ولا يريد التنازل أو المناورة، وفي إقصاء هذا التيار خرج معه نصف مليون إخواني.
واليوم بلغ السيل الزبى، وانبطحت النهضة حتى انسلخت عن جميع مبادئها، ولا يهمّني إن كان صحيحا أم لا ، فأنا أقرأ الوضع ، كما بيّنت، بعين نهضاوية. التفت الشيخ فلم يجد حوله سوى من قلّ إيمانه بمبادئ الإخوان، سيما بعد أن سعى إلى تجميل وجه الحركة بألوان دخيلة عنها ولا تنساق مع ملامحها، فاستحال خطابه بين أخذ وردّ، واحتار في ترضية من؟ أتباعه

وقد بدأوا ينفضّون من حوله؟ أم غمز البسيط من الشعب ولمزه بخلّب من الحداثة؟

رئيس الحركة يا سادتي ليس في أحسن حالاته، وهو يتوجّع لنتائج 6 ماي بعد أن استنتج أنّ جسمه الانتخابي يزن 400 ألف فقط.
فهل إنّ اليد الانتخابية اختارت سبيل سياسة المراحل لإقصاء الإخوان بتونس؟ هذا ما ستبوح به سنة 2019.

المشاركة في هذا المقال