الذكرى الخمسون لانتفاضات 1968: هل مناضلو الثورات العربية والانترنت هم ورثة انتفاضات الشباب ؟

تعيش البلدان الأوروبية والمنابر الإعلامية على وقع الاحتفالات بالذكرى الخمسين لانتفاضات الشباب في

أوروبا في شهر ماي 1968 .فكل المجلات المهمة خصصت طوال هذا الشهر أعدادا خاصة لإلقاء الأضواء على هذه الإحداث وفهم سياقاتها التاريخية وإمكانية التقائها مع عديد التحركات الاجتماعية التي تعرفها عديد البلدان الأوروبية وبصفة خاصة فرنسا في علاقة مع الإصلاحات الاقتصادية التي بصدد تطبيقها الرئيس ماكرون – كما عرفت الساحة الفكرية وبصفة خاصة حركة النشر صدور العديد من الكتب المهمة التي تطرقت لجوانب متعددة لهذه الانتفاضات الشبابية .وقد اقتنيت شخصيا ثلاثة كتب – الكتاب الأول لدانيال كوهن بنديت أوداني الأحمر أو Daniel Cohen Benedit ou dany le rouge وهو احد قادة هذه الانتفاضة. وقد شكل قرار طرده من طرف وزير الداخلية الفرنسي في بداية ماي 1968 إلى ألمانيا باعتبار أصوله الألمانية القطرة التي أفاضت ألكاس لتتحول انتفاضة الشباب إلى ثورة عارمة – ولم يتنكر داني لقناعاته الثورية في سنة 68 بل حولها إلى الدفاع عن البيئة ليصبح احد قادة الخضر في ألمانيا وفرنسا وليتم انتخابه عديد المرات على قوائم الخضر في البرلمان الأوروبي .

والى جانب نضاله السياسي ما يعرف عن داني الأحمر هو شغفه وولعه حد الجنون بكرة القدم على خلاف عديد القادة السياسيين والذين لا يهتمون بالرياضة الشعبية الأولى وإن فعلوا فبطريقة سرية وبتخف عن الناس لاعتقادهم أن هذا الاهتمام لا يعطيهم الجدية المطلوبة للعمل السياسي. ويختلف داني عن اغلب هؤلاء القادة بإعلانه العام لعشقه لكرة القدم فقد مارسها صغيرا وواصل هذه الممارسة إلى اليوم ولئن تجاوز ذلك حيث أصبح معلقا في الحصص الرياضية وفي مقابلات كرة القدم وقد استمتعت بتعاليقه ومحاولته المزج في هذه التعاليق بين الرياضي والسياسي والفكري والثقافي في إشارة منه أن اللعبة الشعبية الأولى تتجاوز بكثير المجال الرياضي لتربط علاقات وثيقة بالأوضاع السياسية والاجتماعية ولتصبح المرآة التي تنعكس فيها الحياة بصفة عامة .
وقد قرر داني التفرد في الاحتفال بخمسينية انتفاضات الشباب .وعلى خلاف عديد المناضلين الذين عاشوا هذه الأحداث والذين ألفوا كتبا سياسية في هذه الذكرى فقد اختار داني الكتابة في هذه المناسبة حول هوايتيه المفضلتين وهما السياسة وكرة القدم وأصدر كتابا تحت عنوان :
« sous les crampons ..la plage –Foot et politique mes deux passions»

عن دار النشر الفرنسية Robert Laffont وقد استمتعت أيما استمتاع نظرا للمعرفة الكبيرة للكاتب بأسرار كرة القدم وبعالم السياسة والنضال من اجل تغيير العالم .

والكتاب الثاني الذي اشتريته هو من الحجم الصغير ويجمع أهم شعارات الثورة الشبابية في 1968 وهو بعنوان «les slogans de 1968» للكاتب jean Philipe legois وتتميز شعارات الانتفاضة بخصوبة الخيال والابتعاد عن الشعارات السياسية المباشرة التي تعرفها التحركات السياسية والثورات وهذا الجانب الفني والشاعري جعل شعارات هذه الانتفاضة تدخل الإرث الفني والفكري العالمي وتبقى لحد الآن حية ومن هذه الشعارات اذكر sous les paves la plage» (تحـت الرصيـف .. الشاطـئ) و «l’imagination au pouvoir» والخيـال فـي السلطـة) و«il est interdit d’interdire» (يمنع المنع). وقد جمع هذا الكتيب هذه الشعارات وقام بصفة خاصة بعمل بحثي كبير لإيجاد الأماكن التي أطلقت فيها هذه الشعارات لأول مرة .

الكتاب الثالث الذي اشتريته يهم الملصقات الحائطية التي أصدرها الطلبة في تلك الأيام وهو بعنوان 500affiches mai 68 » وان صدر هذا الكتاب فقد حاول جمع أهم المعلقات والتي بقيت على مر التاريخ كاثر فني هام . وقد تم انجاز اغلب هذه الملصقات في مدرسة الفنون الجميلة في باريس والتي اعتصم بها طلبتها وعدد آخر من الطلبة منذ بداية الانتفاضة لإنتاج عدد كبير من الأعمال التي قامت بثورة كبيرة في هذا المجال بفضل استعمال اشكال فنية جديدة وكذلك ابتكار محتويات وشعارات جديدة.

إذن انغمست في الأيام الأخيرة في بعض القراءات ومشاهدة بعض الأفلام الوثائقية التي برمجتها عديد التلفزات مما مكنني من العودة إلى تلك الفترة التاريخية وربطها بما نعيشه اليوم من ثورات في المنطقة العربية بالرغم من الانتكاسات والتراجعات .

ولعل الهام في هذه العودة إلى الانتفاضات الشبابية هو التأكيد على جانبها العالمي – فهذه الثورات لم تكن فقط أوروبية أو فرنسية كما تذهب إليه الصحافة او بعض المحللين –فقد كان لهذه الانتفاضات طابع عالمي وشكلت ثورات على العالم القديم في عديد مناطق العالم وقد عرفت الولايات المتحدة الأمريكية والجامعات عديد الانتفاضات مع تصاعد حملة الشباب ضد الحرب في فيتنام – كما عرفت أمريكا اللاتينية هذه الثورات – وعاشت الجامعات الإفريقية وخاصة جامعة داكار في السينغال هذه الثورات .

ولم تتجنب المنطقة العربية وبلادنا الثورات الشبابية حتى أن بعض المؤرخين يعتبرون أن انتفاضة طلاب تونس كانت نقطة البداية للثورات الشبابية في العالم. وفي هذا الإطار سأحاول في هذا المقال أن اربط بين هذه الانتفاضة والمسار التاريخي الذي ستعرفه بلادنا منذ نهاية الستينات والذي سيقود إلى انطلاق ثورات الربيع العربي . والسؤال الذي سأحاول الإجابة عنه في هذا المقال يخص العلاقة بين انتفاضات الشباب والثورات العربية في كلمة ما أريد الإجابة عنه هو أن مناضلي ثورات الربيع العربي هم نتاج التسلسل التاريخي الذي انطلق سنة 1968. او بالأحرى هل أن مناضلي الانترنات والحركات الشبابية كلينابن مهني وسليم عمامو وعزيز عمامي وأميرة اليحياوي وبيرم الكيلاني وهيثم المكي وغيرهم هم ورثة خميس الشماري والمرحوم محمد الشرفي والمرحوم نورالدين بن خذر وجلبار النقاش وحمة الهمامي ومحمد الكيلاني وغيرهم من مناضلي الثورات والانتفاضات الشبابية في نهاية الستينات.

لكن قبل الإجابة عن هذا التساؤل سأعود أولا إلى بعض الملاحظات حول الثورات الشبابية في العالم كما سأحاول تقديم بعض النقاط حول انتفاضة الشباب في بلادنا وفي المنطقة العربية بشكل عام .

وسنعود أولا إلى الانتفاضات الشبابية للوقوف على أسباب اندلاعها – وهنا نريد الإشارة إلى أربعة أسباب أساسية كانت وراء اندلاع هذه الثورات. السبب الأول يهم بدايات تدهور الوضع الاقتصادي في البلدان الرأسمالية المتقدمة اثر فترة النمو الطويلة التي عرفتها اثر الحرب العالمية الثانية والتي عبر عنها عديد المحللين الاقتصاديين بالثلاثين سنة المجيدة أو «les trentes glorieuse» فقد عرفت هذه الفترة بداية صعود البطالة التي وصلت إلى حدود 500.000 عاطل في فرنسا مما دفع الحكومة الفرنسية الى خلق مؤسسة لمحاولة محاربة البطالة وهي ANPE كما عرفت كذلك هذه السنوات بدايات عودة الإضرابات العمالية في فرنسا وفي عديد البلدان الأوروبية الأخرى.
إذن شهدت نهاية الستينات ظهور بوادر انخرام الوضع الاقتصادي والذي كان وراء فترة الاستقرار الكبيرة التي عرفتها البلدان الرأسمالية اثر الحرب العالمية الثانية .

السبب الثاني الذي لعب دورا مهما في انطلاقة الثورات الشبابية في نهاية الستينات يرجع الى انغلاق الأنظمة السياسية الموروثة من الحرب العالمية الثانية وانتفاء مشروعيتها التي بنتها من نضالها ضد الفاشية والنازية . فقدت هذه الأنظمة السياسية من بريقها لتصبح تدريجيا أنظمة متكلسة ومنغلقة وبعيدة عن طموحات الأجيال الجديدة من الشباب في عديد البلدان . السبب الثالث والأساسي في رأيي سوسيولوجي ويعود إلى بروز الشباب أو أبناء baby boom على الساحة السياسية والاجتماعية والثقافية كقوة جديدة فاعلة وستلعب دورا أساسيا في الثورة على المبادئ السائدة وعلى المجتمع الرجالي والأفكار البالية المهيمنة على اغلب البلدان الرأسمالية في تلك الأيام. وستساهم هذه القوى الشبابية في ظهور تقاليد ثقافية جديدة ومن ضمنها موسيقى البوب وفي الثورة على المبادئ المحافظة للمجتمعات الأبوية.

السبب الرابع الذي ساهم ولعب دورا أساسيا في الانتفاضات الشبابية لنهاية الستينات يعود إلى الوضع العالمي وبصفة خاصة إلى حرب الفيتنام والتي ستلعب دورا أساسيا في عودة الوعي السياسي لدى الشباب على المستوى العالمي. اذ ستساهم هذه الحرب في ظهور وعي سياسي جذري وثوري عند شباب العالم ومناهض لهذه الحروب الاستعمارية . وستصبح الحركات الثورية في العالم وخاصة صورة المناضل تشي قيفارا أيقونة الشباب الثائر في اغلب المناطق .

اذن ستساهم بدايات الأزمة الاقتصادية وتكلس الأنظمة السياسية والحروب الاستعمارية وخاصة حرب الفيتنام في ظهور هذه الانتفاضات الشبابية وتزامنها على المستوى العالمي . فكانت نهاية الستينات سنوات ثورة شبابية عارمة حملها الشباب على المجتمعات الأبوية والمبادئ الثقافية التقليدية والهياكل الاجتماعية البالية والمحنطة . ولئن لم تنجح الثورات السياسية في تغيير انظمة الحكم السائدة فإن الانتفاضات الشبابية عرفت نجاحا كبيرا في تقويض المبادئ المحافظة والأنظمة الاجتماعية البالية وفي فتح عصر جديد يحترم الآخر ويفتح مجال التعدد وحرية الفرد ليخرج النظام الرأسمالي من النمط التسلطي الذي ساد منذ عصر الأنوار في نهاية القرن الثامن عشر إلى نظام أكثر تحررا واحتراما لحرية الفرد والتعدد.

مجموعة الملاحظات الثانية التي سنسوقها تخص الجانب العالمي لهذه الانتفاضات الشبابية ونريد هنا التوقف على مساهمة الشباب العربي في هذه الانتفاضات .وقد كنت أشرت في بداية هذا المقال إلى أن الشباب في منطقتنا لم يبق خارج هذه السيرورة التاريخية بل انخرط فيها بطريقة هامة وأساسية إلى درجة أن بعض المؤرخين اعتبروا أن انطلاقة هذه الانتفاضات الشبابية كانت في بلادنا .

وستنطلق الانتفاضات الشبابية في بلادنا اثر هزيمة 1967. فقد عرفت العاصمة بدعوة من الشباب الطلابي عديد المظاهرات للتنديد بالأنظمة العربية وعجزها عن محاربة العدو الصهيوني وعلى تحرير فلسطين إلا ان هذه المظاهرات ستشهد عديد التجاوزات حيث سيقع الاعتداء على أملاك المواطنين اليهود في بلادنا – وستعقب هذه الأحداث عديد الإيقافات وبصفة خاصة لعديد القيادات الطلابية ومنها المناضل محمد بن محمد بن جنات .

وستبدأ حملة واسعة على المستوى الطلابي لإطلاق سراح الموقوفين ستلعب دورا كبيرا في دفع النشاط والحركية السياسية وستتواصل هذه الحركية طيلة سنة 1967 لتعرف انطلاقة جديدة مع بداية سنة 1968 اثر زيارة هوبارت هامفري Hubert Humphry نائب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية حيث عرفت بلادنا مظاهرات هامة للتنديد بالحرب في فيتنام .
وستتواصل هذه التعبئة طوال الأشهر الأولى لسنة 1968.ولتشهد منعرجا حاسما يوم 15 مارس اثر إصدار حكم نهائي بعشرين سنة سجنا على المناضل محمد بن جنات – وستعقب هذا الحكم عديد المظاهرات للمطالبة بإطلاق سراحه وفي هذا الجو المشحون ستقوم ميليشيات الحزب بحملة اعتداءات على الطلبة كما ستبدأ الحكومة بحملة اعتقالات واسعة يوم 19 مارس ستشمل قيادات الاتحاد العام لطلبة تونس ومناضلي الحزب الشيوعي ومنظمة برسبيكتيف. ولن تقتصر هذه الاعتقالات على المجال الطلابي بل ستشمل المحامين والأساتذة وكل المساندين للنضالات الديمقراطية .

هذا التسلسل في الأحداث وانطلاقها منذ هزيمة جوان 1967 جعل العديد من المؤرخين والملاحظين يعتبرون ان الانطلاقة الحقيقية لثورات الشباب بدأت في بلادنا وليس في فرنسا كما تشير لذلك الكتابات التاريخية حيث بدأت الأحداث فعليا هناك في 22 مارس 1968 عند اعتصام الطلبة في قاعة المجلس العلمي لجامعة نانتير Nanterre في ضواحي باريس.

وسيكون الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو Michel Foucault الذي سيحل بتونس سنة 1968 للتدريس لبضع سنوات شاهدا على بدايات الثورات الشبابية في بلادنا حيث سيربط علاقات هامة مع طلبته وقادة هذه التحركات وقد سجل في عديد المقالات والمقابلات الصحفية احترامه الكبير لهذه الانتفاضة الشبابية في بلادنا واعتبارها أكثر صدقا وقربا من الواقع من الثورات في فرنسا –ولئن كان فوكو عند قدومه الى تونس معروفا بعد نشره لكتابه «الكلمات والأشياء «(les mots et les choses) فإن الانتفاضة الشبابية وعلاقاتها بمناضليها قادته الى مواقف أكثر راديكالية منها عند قدومه حسب العديد من تلامذته في تلك الفترة ومن ضمنهم الفيلسوف فتحي التريكي .

بغض النظر عن مسألة من البادئ في الثورات الشبابية فان هذا النقاش يشير إلى مسألة هامة وهي أن هذه الانتفاضات لم تكن حدثا أوروبيا أو فرنسيا بل كانت حدثا عالميا عاشته عديد البلدان ومن ضمنها بلادنا حتى وإن اختلفت أسباب اندلاعها .

أما في ما يخص المنطقة العربية فإني اعتقد أن ثلاثة أسباب أساسية كانت وراء هذه الانتفاضات :

السبب الأول يهم في رأيي هزيمة 1967 المرة والتي ستكون لها انعكاسات خطيرة على الوطن العربي وبصفة خاصة على مصداقية الأنظمة العربية ومشروعيتها .

فوعود تحرير فلسطين والتي كانت من النقاط الأساسية للأنظمة المابعد كولونيالية وخاصة القومية منها ستفقد بريقها ومعها ثقة الجماهير العريضة في قدره هذا الأنظمة على تغيير الواقع . وستكون هذه الهزيمة نقطة انطلاق التنظيمات الثورية المنادية بالكفاح المسلح لتحرير فلسطين ومن ضمنها حركة فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين .

السبب الثاني يخص الوضع العالمي وبصفة خاصة الوضع في فيتنام والذي سيلعب دورا أساسيا في تعبئة الشباب على المستوى العالمي ضد الامبريالية ولمحاربة الاستعمار .

السبب الثالث يعود إلى نهاية المرحلة الليبرالية عند اغلب الانظمة المابعد كولونيالية العربية وتحولها تدريجيا إلى أنظمة تسلطية يهيمن فيها الحزب الواحد والقائد الواحد والزعيم الأوحد . ففي بلادنا مثلا تم اثر محاولة الانقلاب في 1962 إلغاء الحريات السياسية ومنع كل الأحزاب وغلق الصحف المستقلة لتدخل مرحلة الحزب الواحد والرأي الواحد.

ستلعب هذه الأسباب دورا مهما في بروز ثورة وانتفاضة شبابية ستكون لاعبا أساسيا في الديناميكية التاريخية لبلداننا.وبالرغم من تصاعد القمع لمجابهة الرفض الشبابي – فإن هذه الثورات ستضع البذرات الأولى للثورات القادمة في ثلاثة مجالات على الاقل – المجال الاول يهم رفض ومحاربة الاستبداد السياسي والذي سيشكل نقطة انطلاق للنضال الديمقراطي ومطالب التعدد. المجال الثاني يعود الى انطلاق النضالات مع الثورات الشبابية من اجل العدالة الاجتماعية ورفض التهميش.اما المجال الثالث فيخص فتح مجال الإبداع الثقافي للخروج من القوالب الثقافية التقليدية .

لنعد الآن إلى تساؤلنا حول الخيط الرابط بين انتفاضات الشباب في نهاية الستينات وثورات الربيع العربي وهل يمكن اعتبار مناضلي الانترنت والشبكات الاجتماعية ورثة مناضلي الستينات.

ككل الظواهر الاجتماعية والسياسية اعتقد ان العلاقة بين انتفاضات الشباب في نهاية الستينات وثورات الربيع العربي فيها جانبان – الجانب الأول هو التواصل بين التجربتين في صيرورة تاريخية انطلقت في الستينات لتواصل مسيرتها الى الثورات العربية الأخيرة . وعلاقة التواصل هذه تحكمها ثلاث مسائل وخيارات اساسية – الخيار الأول يهم في رأيي الأسس الفلسفية والفكرية للجيلين ويشكل الفكر الفلسفي الحداثي الأفق والمجال الفكري للجيلين . فمآخذهم على الأنظمة المابعد الكولونيالية تهم تراجعهم عن تطبيق المشروع الحداثي وبصفة خاصة عدم اعطاء الفرد الحريات السياسية والفكرية والشخصية التي تعهدوا بها لتواصل مجتمعاتنا العيش في كنف الفكر التقليدي والمبادئ المحافظة .

نقطة الالتقاء الثانية بين الجيلين تهم معاداتها الاستبداد أو المعارضة الراديكالية لكل أشكال التسلط . وستشكل المعارك الديمقراطية نقطة التقاء هامة بين الجيلين ومجالا لخوض عديد المعارك المشتركة منذ نهاية الستينات إلى بداية سقوط الاستبداد مع الثورات العربية .
نقطة الالتقاء الثالثة بين الجيلين تهم المسالة الاجتماعية وانخراطهم في برنامج سياسي يهدف الى رفض التهميش الاجتماعي والحيف وتصاعد التفاوت الجهوي .وقد لعبت هذه المجموعات دورا أساسيا في دعم الانتفاضات الاجتماعية والتحركات كالتي عرفها الحوض المنجمي في بلادنا .

إذن يمكن لنا أن نعتبر أن مناضلي الانترنت والشبكات الاجتماعية هم الورثة الشرعيون لانتفاضة الشباب في الستينات باعتبار نقاط الالتقاء الكبرى في المجال الفكري الفلسفي والسياسي والاجتماعي الا ان نقاط الالتقاء بين الجيلين لا تنفي نقاط الاختلاف والقطيعة – وهنا يمكنني الإشارة الى ثلاثة مجالات يختلف فيها شباب الانترنت عن سابقيهم قادة الثورات الشبابية في نهاية الستينات:

نقطة الاختلاف الأولى تهم النظرة للعمل السياسي وأشكال النضال .ويحمل الجيل الجديد ثقافة سياسية جديدة ونظرة جديدة للعمل السياسي تتناقض مع النظرة السائدة منذ الستينات. وترفض القواعد التنظيمية البلشيفية الموروثة من التجارب السابقة ليصير العمل السياسي مجالا للإبداع والخلق ودفع طاقات الفرد نحو الابتكار بعيدا عن القواعد الجامدة والأفكار القديمة .

نقطة الاختلاف الثانية تهم في رأيي النظرة المجتمعية .فالأجيال الجديدة تحمل نظرة منفتحة على الأخر تقبل وتدافع عن التنوع العرقي والجنسي وترفض مبادئ المجتمع الأبوي المحافظ والتي لم تتصد لها ولم تحاربها بما فيه الكفاية قوى الجيل القديم .

نقطة الاختلاف الثالثة تهم الدور الهام والجوهري عند الجيل الجديد من مناضلي الشبكات الاجتماعية وانغماسهم في العمل الثقافي والإبداعي. وهذا الفرق مهم وأساسي ولئن لم تهمل الأجيال القديمة المسائل الثقافية فإنها تركتها لهيمنة السياسي على خلاف الأجيال الجديدة والتي أعطت حرية مطلقة للعمل والفعل الثقافي.

إذن شكل مناضلو الانترنت وأبطال ثورات الربيع العربي تطورا طبيعيا للحركات الاحتجاجية الشبابية والتي انطلقت منذ خمسين سنة خلت في إطار انتفاضات ماي 1968.

ولتكتمل الصورة حول هذه الانتفاضات لابد من إضافة أجيال الإسلام السياسي والتي ستلعب دورا هاما منذ نهاية السبعينات في محاربة الاستبداد ونهاية الأنظمة التسلطية .

بالرغم من اختلافاتها الإيديولوجية والسياسية فقد كان لالتقاء هذه الأجيال المختلفة دور أساسي في بداية نهوض عربي جديد كان وراء بداية ثورات الربيع العربي . وبالرغم من الانتكاسات التي تعرفها مسارات التحول السياسي فقد نجحت مختلف هذه الأجيال في فتح ديناميكية سياسية واجتماعية جديدة تقطع مع فكرة «الاستثناء» في المجتمعات العربية والإسلامية لتشكل نقطة انطلاق لانخراطة جديدة للمشروع السياسي العربي وتجربتنا التاريخية ضمن المشروع الديمقراطي والإنساني العالمي .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115