Print this page

أفكار: في إنقاذ العدالة الانتقالية: توصيات ومقترحات

أحمد صواب
يقترح أحمد صواب (القاضي الإداري السابق المعروف) في هذا النص إطارا تشريعيا وإجرائيا لإنقاذ مسار

العدالة الانتقالية بعد أن أصبح محلّ خلاف حاد وفقدت أداته التنفيذية (هيئة الحقيقة والكرامة) الصبغة التجميعية الضرورية.

سنعرض التوصيات المتعلقة بما يجب مراعاته انطلاقا من الإطار السياسي العام ومثله دستوريا (جزء أول)، وصولا إلى المقترحات في تنقيح القانون الأساسي للعدالة الانتقالية عدد 53 المؤرخ في 24 ديسمبر 2013 والتي يجب ان لا تنال من المجالات والمضامين الأساسية من القانون المذكور ولا كذلك وعلى وجه الخصوص من صلاحيات الجهاز المكلف بتنفيذ العدالة الانتقالية ومن مخرجاتها (الجزء الثاني).

الجزء الأول: في التوصيات
يتعين كما ذكرنا المحافظة على المكونات الأساسية للعدالة الانتقالية والمنظمة بقانونها، وذلك مراعاة لأسباب سياسية (1) وقانونية(2).

1/ الأسباب السياسية:
أ- كل الأحزاب والكتل الرافضة للتمديد لهيئة الحقيقة والكرامة بالبرلمان التزمت تحت قبة باردو وامام الراي العام بالمحافظة على مسار العدالة الانتقالية.
ب- الحفاظ على الحد الأدنى من التوافق بين الحزبين الحاكمين.
ج- ضمان ادنى درجات التعايش السياسي بين الاغلبية الحاكمة والاحزاب المعارضة داخل البرلمان وخارجه.
د- تجنب كل احتقان داخل المجتمع المدني يمكن ان يولده اي تنقيح جوهري، والامر ذاته في الفضاء العام.
هـ- العدالة الانتقالية هي مكسب وطني وكل مساس بمضامينها الاساسية سيفتح بالضرورة تلاقيا جديدا بين الذين اضحوا يفصلون مسار العدالة الانتقالية وجهاز تنفيذها (ومنهم صاحب هذه المساهمة) وبين الذين لا يفرقون بين المسار ومن يديره.
وعليه، تعدّ المخاطر عالية في حال المساس من العناصر الاساسية للعدالة الانتقالية وكذلك من صلاحيات الجهاز المنفذ للمسار، بما من شأنه ان يجعل من فرضية «الفتنة الشاملة» قائمة، وهذه المخاطر يمكن ان تنتج احتقانا يفوق بكثير الاحتقان الذي عشناه بخصوص مشروع المصالحة الاقتصادية والادارية طيلة اكثر من سنتين (من جويلية 2015 الى سبتمبر 2017).

2/ الاسباب القانونية:
أ- الدستور وخاصة التوطئة (اخر الفقرة الاولى المتضمنة التزام المؤسسين بالقطع مع الظلم والحيف والفساد) والفصل 10 (تعمل الدولة على منع الفساد) والفصل 148 (الفقرة التاسعة) الذي اقتضى التزام الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها والمدّة الزمنية المحددة بالتشريع المتعلق بها.
ب- فرضية عدم الدستورية هي الغالبة في صورة التنقيحات الجوهرية، بالنظر لما سبق عرضه، وبالنظر كذلك الى فقه قضاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين في ملف المصالحة الإدارية.

الجزء الثاني: في مقترحات التنقيح
نقترح تنقيحات محدودة تخصّ تنظيم العدالة الانتقالية ونقطة وحيدة تخصّ سيرها وبالتحديد ما يعقب الصلح، لسببين:
مراعاة ما اقره البرلمان والذي لا يتعدى عدم التمديد لهيئة الحقيقة والكرامة، لا غير.
ضمان تنقيح هادئ وفي وقت مختصر وضامن للمقبولية، أي لأقصى توافق في البرلمان وكذلك خارجه.

بناء على كل ما سبق، نقترح:
1/ تنقيح الفصل 18 بما يلي « تنتهي مدّة عمل المجلس في اجل أقصاه 18 شهرا ( او سنتان) من تاريخ تسمية الأعضاء والرئيس».
2/ مراجعة كاملة للجهاز المكلف بادارة العدالة الانتقالية بما في ذلك التسمية وقواعد سيره:
أ- تغيير اسم الجهاز بالكامل، ونقترح «مجلس العدالة الانتقالية».
ب- اعادة التركيبة (الفصول من 19 الى 25) مع عدد لا يفوق 10، 9 يعينون من خارج البرلمان تجنبا للتجاذبات الحزبية وحساباتها الضيقة وربحا للوقت، وذلك من قبل مؤسسات يفترض فيها قانونيا الحياد السياسي لأنها على وجه الخصوص تسيّر مرافق عمومية:

6 ينتخبهم المجلس الأعلى للقضاء:
4 قضاة (اداري ومالي وعدليان لغلبة المادة الجزائية)،
محاميان لدى التعقيب،
في الحالتين، تشترط أقدميّة لا تقل عن 15 سنة فعلية.

3 ينتخبهم مجلس الجامعات، برتبة أستاذ تعليم عالي، في الاختصاصات التالية:
1 في التاريخ.
1 في علم الاجتماع.
1 في علم النفس.
ج – اسناد الرئاسة بالانتخاب من قبل الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب بأغلبية الثلثين، بناءا على ترشيح واحد بالتوافق الاقصى بين رؤساء الكتل، وتسند بناءا على دورها المحوري لشخصية تتميز وجوبا بالمواصفات التالية: النضالية (في حدها الادنى) والمصداقية والإشعاع الوطني وحتى الدولي وقوة الشخصية وعدم الارتباط الحزبي والبعد عن كل شبهة فساد والقدرة على قيادة المجموعة وعلى ادارة الخلاف، بما معناه أن يكون الشخص «جمّاعا ولمّاما وليس فرّاقا وفتّانا»، فالديمقراطية وخاصة الفترة الانتقالية تبنى بالأشخاص بنفس المرتبة والتشريع وربّما وزنهم يكون أثقل منه استئناسا بمقولة مفكر الانوار «ديدو» « قضاة جيدون أفضل من نصوص جيّدة».
د- في كل قطاع أو اختصاص ، يسدّد كل شغور نهائي بمن يليه في الترتيب، لتفادي الانسداد (الهيئة العليا المستقلة للانتخابات) أو فقدان النصاب (هيئة الحقيقة والكرامة).
هـ- تجنب تمثيل الضحايا والمجتمع المدني، لاسباب ثلاثة:

فرضية التعطيل كبيرة، خاصة فيما يتعلق بمن سيقترح؟
فترة تلقي السماعات والشهادات انقضت.
الجزء المتبقي من عمل المجلس هو بالأساس تقني وموضوعي وعلمي (الاستشراف).
و- جواز الطعن في الأعضاء، لان التقاضي حق دستوري، على ان يتم ذلك طبق إجراءات الطعن في النتائج في الانتخابات الرئاسية (امام الدوائر الاستئنافية بالمحكمة الإدارية، واستئنافيا أمام جلستها العامة، طبق أجال مختصرة واجراءت دقيقة وصارمة ومن قبل المترشحين لا غير) ،والطعن يمتدّ الى كل عضو معوّض، مع استثناء الرئيس على أساس انّ انتخابه يشكل «عملا برلمانيا» وهذا العمل لا يقبل أي طعن قضائي ولو بدعوى تجاوز السلطة طبق ما استقر عليه الفقه والقضاء.
ز- قواعد سير المجلس:

النصاب: اغلبية الاعضاء (6/10).
التصويت: أغلبية الحاضرين، وفي حالة التساوي يكون وجوبا صوت الرئيس ترجيحيا ( تجنب ما حدث في الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين وما ولّده من « اللاّقرار» والذي عرّفه البعض ومنهم الاستاذ أمين محفوظ بـ«نكران العدالة الدستورية» ).
3/ حذف الجملة الاخيرة من الفقرة الاولى من الفصل 45 والتي تسمح بالمساءلة بعد الصلح بخصوص الانتهاكات الجسيمة، للاسباب التالية:
أ- لا تخدم المصالحة (الفصل 1 ) وصولا إلى تعزيز الوحدة الوطنية (الفصل 15).
ب- تفقد نجاعة آلية المصالحة وقبولها من مقترفي الانتهاكات، سيما بعد ثبوت عزوفهم للمثول أمام لجنة التحكيم والمصالحة.
ج- العدل والإنصاف ومبادئ الصلح في أغلب المواد القانونية تفرض انهاء النزاع عند ابرام الصلح اذا كان بالرضا الكامل (القانون الجزائي وخاصة 335 سابعا من المجلة الجزائية ومجلة الموانيء البحرية في الفصل 143 الفقرة قبل الاخيرة، ومجلة الديوانة والقانون المدني والقانون الاداري...)، وتجمع كل هاته المواد على انّ كل تتبع او مساءلة لاحق للصلح يعدّ باطلا.
4/ تنقيح الفصل 68 كالاتي : يتولى الارشيف الوطني اثناء اعمال المجلس وعند نهايتها تسلم كل الوثائق والمستندات منه، على ان تخصص الدولة اعتمادات اضافية للارشيف الوطني تتلاءم مع هذه العهدة.

ملاحظة ختامية
اختم بالقول انّ هذه المبادرة فردية مواطنية، ولم استشر في إعدادها اي طرف حزبي او مدني أو اعلاميّ وما شابه ذلك من قبائل الجمهورية، باستثناء شخصين ( لا غير) يعتقدان ان الفصل بين المسار ومن ينفّذه جائز بل واقع، وانّ إنقاذ مسار العدالة الانتقالية مازال ممكنا.

المشاركة في هذا المقال