هل وضعنا يسمح بتغيير القانون الانتخابي ؟

سفيان المخلوفي
عضو المكتب السياسي لحزب التيار الديمقراطي

إن قراءة أي قانون دون تفسير الإطار الذي صنع فيه والهدف منه ثم تداعياته هي قراءة عبثية.

فأهداف أي قانون، قابل للتطبيق، يحب أن تكون في تناغم مع الوضع الاجتماعي والسياسي والوعي المواطني، كي تتحقق غاياته، أي أن صناعة أي قانون أو تنقيحه أو تغييره يأخذ فيه بالأبعاد «السوسيولوجية» كي لا يكون مجردا مما يحدثه من تأثيرات جوهرية أو جانبية تفسد أهدافه و تزيغ به عن غاياته...
فلقد كنا قبل جانفي 2011 نملك دستورا لنظام سياسي رئاسي تحول بحكم آليات تطبيقه والتوازن السياسي والذهنية العامة الى دستور رئاسوي لم تنقصه إلا عبارة « الرئيس يحكم باسم العناية الإلاهية «. وكان لدينا قانون انتخابي يسمح للأغلبية التابعة للرئيس بالسيطرة الكاملة على المجلس التشريعي وبذلك تم الخلط التام بين اجهزة الدولة والحزب الحاكم..

فأصبح القضاء والأمن ومؤسسات الرقابة المالية والإدارية والدستورية مسيسة بمعنى الولاء للحزب الحاكم... أصبح التسلق والتملق والانتهازية هو ما يطبع الذهنية العامة... والسؤال المحوري هو: هل نحن مع تأسيس جمهورية ثانية ديمقراطية دون إقصاء أم لا؟ إذا كان الجواب بلا، فالأمر محسوم بالبقاء للأقوى عنفا وسطوة.
وإذا كانت الإجابة بنعم، فالنقاش في جوهره هو كيفية التدرج بالمسار الديمقراطي والوصول به إلى نهايته. وعندها يكون أي قانون انتخابي في أهدافه وغاياته هو التأسيس عبر التدرج بالمسار مع حمايته من الانحراف باسم الأغلبية العددية إلى تجيير الدولة حزبيا أو اديولوجيا أو لصالح الاستبداد أو حماية الفساد.
لذلك في بداية الإعداد لمسار التحول الديمقراطي وانتخابات المجلس التأسيسي قامت ما عرف بهيئة «عياض بن عاشور» بصياغة قانون انتخابي يعتمد النسبية وتواصل اعتماد ذلك القانون الى الآن.

والفلسفة المعلنة لهذا القانون هي تمكين كل التنوع السياسي والفكري من التمثيلية. وفي غياب توازن حزبي فرض القانون التوازن بما أن هشاشة المرحلة تتطلب عدم إعطاء أغلبية لأي طرف تجنبا لهيمنة أي حزب بالمطلق على الدولة وإعادة إنتاج الماضي والأهم ولم يكن معلنا بل معروفا هو عدم تمكين حركة النهضة الإسلامية من أغلبية تهيمن بها على الدولة.

وإذا شخصنا الوضع الآن من الناحية المجتمعية والسياسية، نبدأ بالتساؤل عن إمكانية وجود تغييرات جذرية تستدعي تغيير هذا القانون مع المحافظة على الغاية الأصلية وهو الوصول بالمسار الديمقراطي الى نهايته حيث تكون مؤسسات الدولة قد اكتملت وتعمل في شفافية واستقلالية وتوازن مع وجود حياة حزبية سليمة ومتوازنة ورادعة لأي تجيير للدولة حزبيا

أو اديولوجيا.

ولكن للأسف فخصائص وضعنا هي أن:

- المسار الديمقراطي لازال منقوصا ويعاني من شوائب كثيرة

- الفساد المالي والإداري مستشري وزاد عن سابقه

- المشهد السياسي والحزبي غير مستقر، ومنخرم فكريا وتنظيميا

- دولة القانون والمؤسسات لم ترسخ نهائيا وبالكامل

- الفصل بين السلطات مازال هشا وغامضا

- الوعي المواطني لازال في بداياته يعصف به العزوف والإحباط

- الاعلام مازال بعيدا في اغلبه عن المهنية وقريبا من دوائر مالية ومصالح غامضة

- نوازع الاستبداد واستئصال الخصم مازالت قائمة وموجودة حتى لدى ممن لم يكن من النظام القديم

- التونسيون مازالوا منقسمين على بعضهم ويعتمدون الأحكام القيمية وليس العقلانية تجاه بعضهم تصل في أحيان لحد التكفير.

الإشكال الحقيقي وهو أن الديمقراطية وقبول الآخر والعيش المشترك والإيمان بالحريات الفردية والجماعية والحقوق والواجبات هي ذهنية وعقلية تكتسب بالتراكمات وليست بإعلان نوايا اديولوجية أو حزبية أو سياسية. هي ذهنية وتوازن قوى في غيابها، أي أغلبية ستشهدها السلطة وتنحى منحى التسلط.
جوهر أزمتنا أننا مجتمع يحمل إرثا تاريخيا ساكنا في لاوعينا تلتصق فيه الدولة بشخص ملهم أو بعقيدة أو بمصلحة خاصة أو فئوية. عندما يقتنع الناس أن الوطن متكون من مواطنين متساوين بدون انتقائية وان دولة الوطن ليست ملحقة بإرادة اي حزب او بشخص أو بمصلحة خاصة عندها لن يكون هناك ريبة ولا خوف من أغلبية حاكمة ولا من أقلية معارضة.
وعليه إذا شخصنا بشكل عملي تجربة الاقتراع النسبي لدينا فإننا نجده قد مكن من إيجاد أغلبية بين 2011 و 2014 شكلت ثلاث حكومات وبنفس الاقتراع تشكلت أغلبية أنتجت أربع حكومات من 2014 إلى الآن ويبدوا أن الخامسة قادمة على مهل. فلا الأقلية عرقلت الأغلبية في عملها ولا الأغلبية وجدت استحالة في التشكل.
لقد حصلت الأغلبية على ما يفوق الثلثين في المجلس ومررت كل القوانين التي أرادت حتى اللادستورية منها. لم تختلف الأغلبية الحاكمة لا على رؤية أو برنامج اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي او ثقافي ولا على التداين الخارجي أو التعامل مع الصناديق الدولية أو العلاقات الخارجية.. أليس نظام الاقتراع هدفه أغلبية حاكمة وأقلية معارضة؟ أم أن النظام الانتخابي يجب أن يكون على مقاس حزب ليحقق الأغلبية لنفسه على حساب الآخرين ؟

هل أن الأمر سيكون مغايرا إذا حكم نداء تونس لوحده فيتقلص العجز التجاري وترتفع قيمة الدينار وتقل البطالة وتقفز نسبة النمو وينتهي التضخم المالي؟

هل إذا حكم النداء لوحده سيندثر من تلاحقهم من نوابه شبهات الفساد والوصولية واستغلال الصفة؟ هل سينتفي المستوى الضحل من الأداء ؟ بالطبع لا ففاقد الشيء لا يعطيه .

هل لو حكمت النهضة لوحدها سيكون الأمر مغايرا لما كانت عليه يوم كانت تسيطر على الترويكا؟ هل سينقرض التوجس منها؟ هل سينتهي الخوف من ولائها لقطر وتركيا؟ هل سيترك لها الحكم حقاً دون دعوات الانقلاب عليها؟
أجزم انه لن تكون هناك إجابة بنعم ...

هل لو غيرنا النظام الانتخابي ستنهي مسالة شراء الذمم عبر توزيع الاحزاب للإعانات الاجتماعية وإقامة القوافل الطبية والأعراس الجماعية وتنشغل الأحزاب فقط بدورها السياسي، وتتخلى عن شراء الأصوات؟ وهل أن المواطن وصل إلى وعي يجنبه الوقوع في شراء الذمم؟

هل أن تغيير النظام الانتخابي سينهي الفساد وتحالفه مع جزء كبير من الساسة والأحزاب ويتوقف عن نخر الدولة من خلالهم ؟ أم سيمكنهم من أغلبية مطلقة يزيدون بها الطين بلة؟

هل الاقتراع على الأشخاص أو بالأغلبية على القائمات سيعطي مشهدا إيجابيا أم أنه سيزيد من تدهوره وتسليمه بالكامل دون صمام أمان لمن يقسم التونسيين ومن يتحالف مع الفساد أو من يجير الدولة لمآرب اخرى؟

الإجابة على كل هذه الأسئلة لا تستحق جهدا مضنيا... فالتصويت على الأشخاص من الممكن أن يأتي بمجلس مشتت أكثر أفراده لا رابطة حزبية بينهم أو سياسية ومن الممكن أن يلتقوا على مصالح خاصة دون التزام او رقابة حزبية.. لكن الانتخاب على قائمات حزبية يضمن الأدنى من الإلتزام ببرنامج مهما كان في هذا الالتزام من عوائق ومهما كان على الأشخاص من احترازات.

كذلك التصويت على الأفراد او على القائمات بحساب الأغلبية سيقسم البلاد الى قسمين، حيث يكون الجنوب للنهضة والشمال لخصومها من باقي الأحزاب، في حين أن قانوننا الحالي يمنع ذلك بتمكين حتى اصحاب أكبر البقايا بالتواجد مما يفرض تنوعا أدنى يمنع التقسيم الحاد...
من يرغبون في اقتراع اغلبي يدفعون بالبلاد إلى حرب داحس والغبراء التي ستقسم تونس وتحرقها..

من يدافعون على هذا الخيار، إما تغيب عنهم التشكلات الاجتماعية وعمق الذهنية العامة ولا يعون مخاطر تدني الوعي بضرورات العيش والمصير المشترك أو يكونوا مدفوعين بسوء نية من أطراف خارجية وداخلية غامضة وبتصفية الوضع نهائيا يتصورون فيه إمكانية عزل حركة النهضة الإسلامية ومحقها وكأن ذلك لن يكون بدون عنف ودم..
إن النظام الانتخابي بالأغلبية يمكن أن تفكر فيه شعوب وصلت إلى درجة من الوعي المواطني والديمقراطي المتقدم ولها مؤسسات دولة متوازنة مكتملة وحياة حزبية قوية ومستقرة وإنتاج فكري واجتماعي وسياسي مؤثر ونخبة حقيقية تفكر وتبدع وليس نخبة تعشق المجادلة والاحتراب وثقب الاديولوجيا هو عينها الوحيدة على العالم...
فالنظام النسبي الذي صنعته «هيئة عياض ابن عاشور» برغم ما فيه من سلبيات يبقى الأسلم في وضعنا الراهن وعلى ضوء ما سبق فهو يمنع التفرد بالدولة ويفرض التعايش المشترك وحتى وصول يعض الاشخاص الى النيابة صدفة بأكبر البقايا فهو لا يغير في المعادلة شيئا.. ففي غياب توازن حزبي وفكري واضح يبقى «توازن الهشاشة» الذي ينتجه قانوننا الحالي أقل نظام انتخابي يجنبنا المخاطر المذكورة سلفا..

أما التشخيص الحقيقي لما نعيشه من ازمة فهو يحيلنا على ازمة حكم مصدرها الأصلي رئيس الجمهورية الذي قضى ما يزيد عن الثلاث سنوات يبحث على فرض إرادته وإرادة بطانته مما أعاق الفصل بين السلطات وسبّب تعطيلا أساسيا لعمل الحكومة..

الكل يعلم مشكلته مع السيد الحبيب الصيد ومناوراته بوثيقة قرطاج لإزاحته وخلافه مع وزير الداخلية السابق ومدير أمنه وتصادمه مع طموحات السيد يرسف الشاهد وحملة لي الذراع التي لازالت قائمة... فكلما كانت هناك ازمة في العمل الحكومي الا وتبين بعدها ان رئيس الجمهورية وراءها لحماية حزب ابنه او فرض تابعيه. فعوض ان تكون الحكومة متحملة لمسؤولياتها مع الأغلبية التي منحتها الثقة وتحدد التوجهات بينهما والإصلاحات بإرادتهما، بقيت الحكومة ورئيسها دائماً رهن إرادة «الأمير» ودورها التنفيذي حسب صلاحياتها الدستورية معطل مرتهن له.

فمجلس النواب بأغلبية تنازل عن مهمته في مراقبة الحكومة لصالح صلاحيات موازية جسدها رئيس الجمهورية في مجموعة قرطاج مما زاد من إضعافها ووضعها تحت تجاذبات وضغط أطراف خارجة عن أغلبيتها .

وإذا أردنا الدفع إلى الأقصى في إيجاد الحلول فانه وعلى ضوء التجربة المعطلة التي يقوم بها رئيس الجمهورية كان من الواجب عندها اقتراح تعديل النظام السياسي الى برلماني بحت وتحجيم صلاحيات رئيس الجمهورية لتبقى بروتوكولية لا غير .
الحقيقة ان الأغلبية الحاكمة بقيادة السيد الباجي قائد السبسي وبعض دوائر النفوذ الغامضة تبحث عن شماعة تعلق عليها فشلها فوجدت ضالتها في القانون الانتخابي بمحاولة اعادة مسالة الاستقطاب الثنائي الهووي من جديد الى الساحة...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115