«قراقوش»: لـم يغادر الدنيا

«قراقوش» يا سادة شخصية تاريخية معروفة، حكم مصر في القرن 7 الهجري، ورويت عنه أخبار تصبّ في ظلمه وتسرّعه في الأحكام.

ومن يريد أن يتعمّق في معرفة الشخصية فليرجع إلى كتاب «الفاشوش في حكم قراقوش» ، تأليف ﺍﻷﺴﻌﺩ ﺒﻥ ﻤﻤﺎﺘﻲ. ﺕ. ٦٠٦. ﻫـ..

تحوّلت شخصية الحاكم قراقوش إلى شخصية أسطورية حمّلتها الذاكرة الشعبية قصصا يصبّ جميعها في التأكيد على سذاجة الحاكم واستبداده. ولا أخفيكم أنّ شخصية قراقوش هيمنت على تفكيري منذ قراءتي لبلاغ حركة النهضة يوم الجمعة 09 فيفري 2018. ولعلّ حادثة التاجر التي نسبت إليه هي أقرب مثال لقصتنا ، نحن المثقفين الأحرار، مع السيد الغنوشي: «يروي ابن مماتي أنه كان بمصر تاجر غني .. و كان له ولد يقترض باسمه، و استمر الاقتراض حتى زاد عليه الدين ولم يمت أبوه، فاتفق مع الدائنين على أن يدفن والده بالحياة، وانقضوا عليه بالفعل ذات يوم فغسلوه و كفنوه ووضعوه في النعش وهو يصيح و لا يُغاث، فلما وصلوا إلى المسجد للصلاة عليه، اتفق أن كان قراقوش مارا فنزل وصلى عليه مع المصلين و سمع الميت المزعوم ذلك، فصاح مستغيثا وهو يقول : يا مولاي أنقذني من ولدي فهو يريد دفني بالحياة. فقال «قراقوش» للولد: كيف تفعل ذلك بوالدك؟ فقال: هو كاذب يا مولاي، فإني لم أغسله و لم أحمله في التابوت إلا وهو ميت، وهؤلاء الحاضرون يشهدون بذلك، فقال قراقوش للحاضرين: أتشهدون بصحة ما قال؟ فقالوا: بلى نشهد. فالتفت قراقوش للميت و قال: كيف أصدقك وحدك وأكذب هؤلاء الحاضرين؟ روح اندفن لئلا تطمع فينا الموتى، و لا يبقى أحد يدفن بعد هذا اليوم. فحُمل الرجل و دفن بالحياة.»

وهكذا دفن الرجل حيّا رغم الحقيقة الصارخة بحياته، وهكذا نواجه اليوم موقف السيد الغنوشي من ألم نكابده منذ سبع سنوات.. يواجهنا السيد الغنوشي عبر تنظيمه النهضة ببلاغ، وندرك جميعنا الفرق بين البلاغ والبيان، نظرا لما يحمله من رسالة دقيقة خالية من التشفير.. وتبعا لذلك نقول : إنّنا فهمنا الرسالة، وعلى مضمونها نبني كلامنا:

• نعتقد أنّ البلاغ ، وإن تناول نقاطا عديدة فإنّ روحه كامنة في النقطتين الأولى والثالثة. فقد ورد في النقطة الأولى « استياءه ( أي المكتب التنفيذي للتنظيم) الشديد من القرار المجحف الذي اتخذته مفوضية الاتحاد الأوروبي بإدراج تونس في قائمة الدول عالية المخاطر في مجال تبييض الاموال وتمويل الإرهاب، معتبرا القرار ظالما في حق تونس وفي حق ما تقوم به من اصلاحات وما تراكمه من تشريعات مهمة لبناء منظومة محكمة وقوية وفق المعايير الدولية لمحاربة تبييض الاموال ومقاومة الارهاب. ودعا المكتب التنفيذي الحكومة بجميع هياكلها الى بذل قصارى الجهد لمعالجة هذه الوضعية كما طالب المفوضية الأوروبية باستعجال سحب تونس من هذه القائمة خاصة وأن 376 نائبا أوربيا أبدوا اعتراضهم على هذه اللائحة». فكأنّ حركة النهضة تفاجأ بهذا القرار الذي طالما نبّهنا إلى أنّه المستقرّ الطبيعي لسياسة اللامبالاة وغياب المحاسبة، وتفشّي الفساد بجميع أصنافه في الجسم الاجتماعي.. قد نرجع عنصر المفاجأة إلى أنّ حركة النهضة لم يخلد بذهنها البتّة أنّ حليفها الأوروبي الذي فرضها علينا، وزكّاها حاكما علينا يمكن أن ينقلب عليها في كلّ لحظة، خاصّة أنّ هذا التصنيف متزامن مع زيارة رئيس فرنسا الذي قال صراحة بأنّ تجربة الإسلاميين في الحكم بتونس اثبتت نجاحا في فصل الدعوي/ الديني عن السياسي.
خطأ استراتيجي يقع فيه الغنوشي مع من احتضنوه واعتبروه سفيرا للسلم والاعتدال، لأنّ من أعدّ التقرير هو القافي وليس الاتحاد الأوروبي، وأعتقد أنّ المسألة ستأخذ مجرى آخر سيما في موقف الاتحاد الأوروبي مع إسلام بدأ يغضب.

• أمّا الخطأ الثاني الذي يقع فيه هذا البلاغ فهو يكمن في النقطة الثالثة التي تعبّر عن استنكار الجماعة « لما يتمّ نشره من أخبار زائفة ومغرضة، بعضها يعود لسنوات سابقة، نتيجتها تهديد استقرار بلادنا وأمنها وسلمها الاجتماعية، وهدفها التشويه الممنهج لحركة النهضة وقياداتها، في وقت تتقدم فيه بلادنا بخطى ثابتة نحو استحقاق انتخابي غير مسبوق في بلادنا ينتظر منه التونسيون تحسين ظروف حياتهم ورفع مستوى عيشهم». ويبدو أنّ نصّ البلاغ لم يشف الفؤاد، إذ يردف ببلاغ آخر يوم 10 فيفري ليعلن عن التتبع القضائي لكلّ من « الأشخاص والمؤسسات الإعلامية المنخرطة في حملات التشويه الممنهجة». وفي هذه المسألة أريد أن أسأل عن الخطّ الأحمر في نظر النهضة حتى يتحوّل الكلام من نقد إلى تشويه؟ فمنطلقاتنا ومنطلقاتهم تختلف: فهل يرون، مثلا، في التذكير بفتح السجون لبعض من الدعاة في 2012 ، أي زمن حكم النهضة بقناع الترويكا، نقدا أم تشويها؟ وهل يجوز لنا أن نحلّل مختلف الأحداث في تهريب أبي عياض من جامع الفتح؟ أم هو تشهير بموقف العريض باعتباره وزيرا للداخلية؟ ثمّ هل إن الحديث عن الأمن الموازي تشهير أم نقد يحتاج إلى تحليل؟
مشكلة النهضة أنّها اعتبرت الصمت وتجاهل نقد المخالف سياسة رشيدة حتى يمرّ سحاب الغضب، وفاتها أنّ المقاربات تغيّرت، وأنّ الصمت شهادة ، في أحيان كثيرة على الاعتراف بالذنب.. تغافلت النهضة عن الوسائل الحديثة التي وظّفها المفكّرون والإعلاميون حتى يحافظوا على الأحداث، وهي جميعها شاهد إثبات على عصر وددنا لو سلكت فيه النهضة منهجا آخر غير منهج الانزواء ورفض الآخر، والتعويل على نظرية التدافع.. وكم أبلغونا أنّ النهضة استعملت حقّ الفيتو في حضورنا الإعلاميّ، ومع ذلك لم نثر أو نغضب واعتبرنا أنّ الصوت الحرّ يصل إلى الناس مهما كانت وسائل الصنصرة.
كان الأحرى بالسيد الغنوشي أن تكون له جرأة الوقوف عند أخطائهم، وما ألحقوه بنا من أذى .. وكان الأحرى به أن لا يسلك سبيل التهديد « بحرب أهلية».. تهديد تتغافل عن مقاصده وزارة الداخلية، لما يحمله من إشارات تدعّم ما يروّج عن النهضة من استعداد للمواجهة وقد يكون بالسلاح.. نحن نحمّل الحكومة المسؤولية لأنّ النقد باللسان لا يواجه بالسلاح والعصا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115