Print this page

بعد تشكيل «الاتحاد المدني» لخوض الانتخابات البلدية بين الوعي بأهمية التجميع ... وأخطار تشتيت فضاء الحداثة

تم الاعلان يوم الثلاثاء 23 جانفي 2018 خلال ندوة صحفية عن بعث «اتحاد مدني» يضم اضافة الى احد عشر حزبا سياسيا،

عدد من الشخصيات المستقلة أو»المستقيلة» من أحزابها، لخوض الانتخابات البلدية التي تقرر كما هو معلوم اجراؤها يوم الأحد 06 ماي 2018 . ولاشك أن اعلان هذا المسعى لتوحيد الجهود بين الفاعلين السياسيين يمثل -في حد ذاته- حدثا هاما وايجابيا خاصة وأن المشهد السياسي التونسي تميز منذ الثورة وحتى قبلها بالتشتت والتمزق وطغيان منطق الزعامتية المقيتة التي كثيرا ما أدت الى نتائج عكسية للأهداف المشتركة المعلنة من قبل الجميع والمتمثلة في الاسهام في انجاح المرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد. لكنه ومع تسجيل هذه النقاط الايجابية وبالنظر للظرفية التي تمر بها البلاد ولطبيعة المكونات التي تداعت الى الدخول في هذا الائتلاف الانتخابي ومسارات أصحابها ومن خلال استقراء تصريحات مختلف مكوناتها خلال الندوة الصحفية وبعدها وما جاء في البيانات وما يجري الحديث حوله من ممارسات متناقضة ميدانيا مع المبادئ المعلنة يبقى السؤال مطروحا حول مدى قدرة هذه المبادرة على التجميع الجدي دون السقوط عن وعي أو عن غير وعي في أخطار تشتيت فضاء الحداثة وإمكانية تقديمه لقمة للمتربصين به ؟

المشاركة الائتلافية في الانتخابات : المعاني والحدود
وفق الأرقام المقدمة خلال الندوة الصحفية المذكورة تم الاعلان عن نية الائتلاف المدني تقديم 48 قائمة ائتلافية من جملة 350 دائرة بلدية معنية بالانتخابات القادمة تحمل اسم «الاتحاد المدني» وهي تشمل مدن مراكز الولايات والمعتمديات الثانية في كل ولاية من حيث عدد السكان. صحيح أن مدن مراكز الولايات والمعتمديات الثانية في كل ولاية عادة ما تشكل أهم المدن من حيث الثقل الديمغرافي والانتخابي في كل ولاية، إلا أن ما تجدر الاشارة اليه أن هذه القائمات لن تمثل سوى 1على 8 من العدد الجملي للدوائر الانتخابية التي ستجري فيها المنافسة للفوز بانتخاب أكبر عدد من المستشارين البلديين. أما اذا ما نظرنا الى المسألة ميدانيا وتابعنا تجسيدها عمليا من حيث تقدم قائمات الاتحاد المدني في كل ولاية فان عدد الدوائر البلدية التي سيكون فيها الائتلاف حاضرا بصفة موحدة لن تتجاوز 1 على عشرة من عدد البلديات الموجودة في الولاية المعنية (انظر على سبيل المثال لا الحصر ولايات نابل وصفاقس والمنستير). وسينتج عن ذلك عمليا أن أنصار الاتحاد سيكونون خارج اللعبة التنافسية في أكبر عدد ممكن من عدد الدوائر البلدية بالولاية المعنية. ومن المؤكد ان يكون القائمون على هذا الائتلاف قد انتبهوا لمثل هذا الخلل حيث لاحظنا أنه وبعد أسبوع من الإعلان عن ميلاد الاتحاد تم التصريح يوم الثلاثاء 29 جانفي اثر اجتماع الأمناء العامين للأحزاب المكونة للائتلاف عن تضاعف العدد الجملي للدوائر التي سيتم الترشح فيها من 48 الى 100 دائرة. لكن تجدر االملاحظة الى أن تضعيف العدد لن يكون في اغلب الحالات في شكل قوائم اتحادية ولكن

ضمن قوائم حزبية ستتقدم بها الفروع المحلية للأحزاب المكونة للائتلاف في شكل قوائم مواطنية. تبعا لذلك سنرى ممثلي تلك الأحزاب ممزقين بين الدفاع عن قائمة الاتحاد في مركز الولاية وفي الدائرة البلدية الثانية في ولايتهم وضرورة رفع راية حزبهم في ما تبقى من الدوائر في حالة توصلهم الى تقديم قائمة خاصة بهم وان تم تقديمها في «شكل مواطني محلي» . وحسب التجارب السابقة فان أغلبية المناضلين الحزبيين سيتفرغون للدفاع عن راية حزبهم بقطع النظر عن البلدية خوفا عليه من الانقراض في صورة الهزيمة رغم أن هذه القائمات لن يكون لها صدى في تقييم الوزن الانتخابي على المستوى الوطني . فلا بد من ضرورة الانتباه الى مثل هذه الفرضية وايلائها ما تستحق من الاهتمام. ففي احدى المدن السياحية الكبرى التي لم يشملها تقديم قائمة موحدة من طرف «الاتحاد المدني» لم يحضر الاجتماع التنسيقي لمكونات الاتحاد سوى ممثلين لحزبين. وقدتم تبرير ضعف الحضور بانهماك البقية (9 على 11) بمحاولة كل واحد منهم تقديم قائمته «المواطنية» حوله، طارحا على بقية الأحزاب وعلى الكفاءات المحلية الانضمام اليه بوصفه الأكثر حظا في تجميع القوى الديمقراطية وتفويت الفرصة على قائمة حزب النداء من النجاح. وهو ما يطرح السؤال عن موقع النداء في تمشي «الاتحاد المدني»؟

هل أصبح حزب النداء هو الغريم الأول؟ هل هذا هو بيت القصيد؟
تم التأكيد في أكثر من تصريح جاء على لسان زعماء «الاتحاد المدني» على «البعد المحلي والمواطني للانتخابات البلدية القادمة» وأن رهاناتها الأساسية تتمثل «في تشجيع المواطن على تحمل أعباء التسيير والمراقبة اليومية للمنتخبين المحليين» . إلا أنه سرعان ما يتم تجاوز في أكثر من حديث -تلميحا أو تصريحا - مرحلة الانتخابات البلدية والمرور الى الحديث عن الاستحقاقات القادمة وكأن العين على الانتخابات الحالية والقلب والعقل على المحطات القادمة . ففي تعليقه على ما ورد في الندوة الصحفية الملتئمة يوم 23 جانفي، لاحظ الصحفي حسان العيادي أن النجاح في المحطة الانتخابية البلدية سيشكل لجزء من المشاركين في «الاتحاد المدني» «محطة عبور» فالمهم بالنسبة لهم هوتحقيق الفوز على نداء تونس في 48 دائرة على الأقل» . كذلك لم يفت الملاحظين الانتباه الى العناصر الركحية التي اعتمدها «منظمو الندوة الصحفية» حيث تم تقديم المستقلين والنساء وجعلهم في الصف الأول في اشارة الى أنهم «من أنصار قضايا المرأة وأنهم أصحاب أفعال ولا أقوال» وتم وضع الزعماء ( وهم من الحجم الثقيل) في الصف الثاني إلا أنه كان لهؤلاء الأخيرين القول الفصل في الردود على استفسارات الصحفيين. ورغم تأكيدهم على أن التركيز سيكون على الموعد البلدي واستبعاد ملف الاستحقاقات الانتخابية لسنة 2019 بفرعيها التشريعي والرئاسي فان البعض منهم لم يترك الفرصة تمر للتأكيد أن التقاءهم كان على أرضية سياسية قوامها «الوطنية والتقدمية والحداثة» وهي لعمري الشعارات التي ميزت خطاب حركة النداء منذ بروزها على الساحة في

أواسط سنة 2012 وجعلتها تطرح نفسها بديلا عن منظومة الحكم التي كان قوامها المشروع الديني المحافظ لحركة النهضة وحلفائها. فهل يمكن لأصحاب هذه المبادرة الائتلافية « طرح بديل يصالح التونسي مع الشأن السياسي والانتخابي ويعالج التشتت الحزبي ويرسم أفقا جديدا للحياة الوطنية» وذلك عبر المراهنة فقط على ازاحة حركة نداء من تزعم الفضاء الحداثي والتفرغ بعد ذلك لمبارزة المشروع الرجعي لحركة النهضة؟ هل تناسى بعض زعماء الائتلاف أنهم كانوا أيضا من المنادين بحتمية التعايش والتوافق –وقد كانوا محقين في ذلك- مع حركة النهضة؟ اذ من المعلوم وان سجلت نتائج انتخابات 2014 تقدما نسبيا لتيار الحداثة واستعادته النسبية للمبادرة التاريخية وتجسد ذلك خاصة عبر اختيار رئيس حداثي فان جزءا هاما من التونسيين والتونسيات لايزال يرى في انصار الاسلام السياسي خير معبر عن طموحاتهم السياسية ورؤيتهم المجتمعية. لذلك يمكن التساؤل هل أن «الاتحاد المدني» لا يعدو ان يكون جهاز تسابق سياسي من أجل الانفراد بتزعم الفضاء الحداثي في مواجهة النهضة على حساب حركة النداء ؟ هل يمكن أن نقرا في خروج بعض مكونات «الاتحاد المدني» تباعا من وثيقة قرطاج ومن حكومة الوحدة الوطنية والانضمام الى هذه الجبهة الانتخابية وان كانت ذات طابع محلي بمثابة المدخل الضروري لإعلان التميز عن مرحلة التفاهم والتوافق التي ميزت المرحلة منذ 2014؟

هل يريد البعض جعل «الاتحاد المدني» مصطبة لتزعم «المعارضة البناءة»؟
اذا كان الوعي بضرورة تجاوز التشتت أمرا محمودا باعتباره ضرورة اقتضاها استخلاص الدروس من التجارب السابقة لا بد للمبادرين المخلصين الى التوحد والعمل المشترك أن ينتبهوا الى مخاطر جرهم وانقيادهم عن وعي أو غير وعي فيما يطمح إليه البعض من اعطاء الاشارة للتميز عن «التحالف الحاكم» وذلك بالتفصي من وثيقة قرطاج والمطالبة بالإطاحة بحكومة الوحدة الوطنية تمهيدا لتعديل المسار والوصول الى حكومة كفاءات توكل اليها مهمة ادارة بقية المرحلة الفاصلة عن مواعيد 2019؟ فقد صرح أحد زعماء «الاتحاد المدني» يوم 20 جانفي الماضي أن حركته «وبعد انسحابها من وثيقة قرطاج تنوي تزعم المعارضة البناءة بالتنسيق مع أحزاب أخرى من أجل تعديل المسار» وبناء على ذلك رأى صاحب هذا الطرح أن «انسحابه من وثيقة قرطاج يعود أساسا لعدم رضا حركته «على نتائج حكومة الوحدة الوطنية على جميع المستويات فهي لم تعد حكومة وحدة وطنية بل حكومة محاصصات بين الثنائي الحاكم». وحتى يكتمل المشهد وتصبح عملية التميز واضحة طالب صاحب الرأي «بضرورة عقد مؤتمر وطني لتصحيح المسار وتكوين حكومة كفاءات وطنية قبل الانتخابات البلدية «. فهل نفهم أن الانضمام الى «الاتحاد المدني» (الانتخابي) هو مجرد ورقة ضغط اضافية للإطاحة بحكومة الوحدة الوطنية؟ وان كتب لهذا المشهد السريالي ان يتحقق هل سيتم اجراء الانتخابات البلدية في موعدها والحال أن القوى السياسية ستكون منهمكة في النقاش المارطوني للبحث عن «العصافير النادرة» التي ستكون حكومة الكفاءات الوطنية.

بقدر ما نقدر عاليا ونحيي رغبة العديد من المواطنين والمواطنات المتحزبين والمستقلين ونشاطرهم الرغبة والحرص على التجميع وتفادي عواقب التشتت حري بنا الوعي كل الوعي والانتباه الى أن الانتخابات وان كانت بلدية هي عماد الحياة الديمقراطية المعاصرة وتبقى عملية سياسية بامتياز رغم طابعها المحلي اذا لا ننسى أنه لم يتسن الوصول اليها إلا بعد سبع سنوات من ثورة الكرامة. لذلك تطرح علينا محطة الانتخابات القادمة رهانات مصيرية ولا يمكن ان يغيب عن اذهاننا أن فضاء الحداثة التونسية فضاء ثري ومتنوع ومتعدد ومتناقض ولكن لا بد من الانتباه الى أنه بعد انتكاسة 2011 رجعت اليه المبادرة التاريخية من جديد في سنة 2014-عبر صناديق الاقتراع – ليواصل السير بالحركة الاصلاحية التي دخلتها تونس منذ القرن التاسع عشر الى مبتغاها وتبقى بلادنا على الدوام دولة عصرية ومدنية وديمقرطية سكانها مواطنون أحرار في مجتمع عادل ولا تسقط من جديد بين أيدي من يريدون لها السير في طريق الأوهام باسم الدين أو الفوضى الخلاقة باتباع طريق الرفض والاحتجاج الدائم.

ومهما يكن من أمر يتحتم على «الاتحاد المدني» الحرص على تفادي كل سلوك انعزالي قد يكون من نتائجه السقوط في أخطار تعميق تشتت مكونات فضاء الحداثة وهو الوضع الذي لن يستفيد منه الا أعداء النهج الحداثي. وبقطع النظر عما آلت اليه أمور قيادة حركة النداء و ما شهدته هياكل تسييره من مشادات وتعقيدات وصراعات -وهي مسائل تبقى في النهاية داخلية ولاتهم الا منخرطيه- يبقى «شعب» النداء مكونا أساسيا ورافدا محوريا لفضاء الحداثة التونسية و لا يمكن أن ننسى أن مؤسسه هو السيد الباجي قايد السبسي هو الرئيس المنتخب بالاقتراع العام والمباشر و هو لا يزال رئيسه الشرفي وكما كان له شرف المبادرة في بعث هيكل احتضن جانبا هاما من أطياف الحركة الاصلاحية وقادها نحو النجاح وكما سعى إلى تجاوز محدودية نتائج انتخابات 2014 عبر الدعوة الى وثيقة قرطاج وحكومة الوحدة الوطنية والمبادرة بالخطوات الجريئة لدفع مسار مساواة المرأة بالرجل لا بد أن نحرص جميعا ومهما كانت مواقعنا ليبقى فضاءا فعالا ومبادرا ولن يتسنى ذلك الا بالانتباه جيدا الى دقة الوضع الانتقالي الذي تمر به بلادنا وما يتحتم على القوى العصرية فيه من ضرورة الوعي بأهمية التجميع وتفادي السقوط في أخطار تشتيت فضاء الحداثة.

حبيب القزدغلي

المشاركة في هذا المقال