إلى السيد ماكرون

بقلم:
أستاذ بكلية الآداب بسوسة.
كانت زيارة السيد رئيس الجمهوريّة الفرنسيّة لتونس خلال هذا الأسبوع حدثا بارزا استأثر باهتمام

وكالات الأنباء الوطنيّة والإقليميّة والدوليّة، وتسابقت وسائل الإعلام التونسيّة إلى نقل التفاصيل، والتعليق على الآراء التي صرّح بها والجمل التي خاطب بها الفئات العديدة من التونسيين وغير التونسيين؛ بل جاب الرئيس الشوارع، وصافح التونسيين، وأطلق الكلمات العفويّة في لسانه الذي لم تخالطه لكنة الحرص على التقرّب من التونسيين باستعمال عباراتهم، وبقي حيث هو. وترك أثرا وأملا طيّبين، بعد أن لقي حفاوة التونسيين كما اعتادوا أن يبدوها لمن ظنّوه منهم، أو حسبوه أحدهم، أو عدّوه ممّن قاسمهم شأنهم، وبادلهم عناءهم. نعم سيّدي الرئيس لقد لقيك التونسيّون بالدفء والحياة واللطف وهي طبيعتهم، وطبعهم. وقلت لهم عنهم ما سرّهم، ورسّخ إيمانهم بالقيم التي ناضلوا من أجلها سنينا نضال المعاني. أثنيت على الديمقراطيّة

الناشئة التي نتعلّمها اليوم تلو اليوم، وأبرزت قيمة الحريّة التي نحن في غمارها، وهل تنتهي رحلة الحريّة؟ وكان من لطفك أن زدت اعتزازنا بالدستور الذي حرّرنا، والتوافق الذي حقّقنا، وصلابة التمسّك بحق المرأة في أن تكون صنو الرجل، ولا غيره الأدنى، وقلت إنّ المجتمع المدنيّ التونسيّ رافد بارز لعلّه لا يضاهيه ما شاكله في التجارب الأخرى. وفصّلت في الفكر والثقافة واللسان ما استحسنت به انفتاح التونسيين، وصلابة ثقافتهم، ولم تنس تذكيرنا بالزعيم المؤسّس فخامة الرئيس الحبيب بورقيبة، لا تذكيرا عرضيّا، وإنّما تذكيرا أصليّا لما رسّخه بورقيبة من رؤية حداثيّة درّستها المدرسة العموميّة، واضطلع بها شبّان التعليم الابتدائي في القرى والأرياف، ونقلتها الأمهات بتحديد النسل، ورفعتها الأسرة التونسيّة حتى إنّها لم تر من غاية سوى تعليم أبنائها، إذ لا رقيّ ولا مستقبل خارج المدرسة، ولا نجاة بلا علم ولا معرفة. تلك هي علمانيّتنا، وتلك هي قيمنا، وتلك هي الرؤية التي زادتنا قدرة على مغالبة الحياة، وتحقيق فرحتنا بها. ولم نخاصم في ديننا، ولا في مذهب طلع علينا، ولا جهاد غير جهاد العلم، والمعرفة، ومغالبة الفقر. فهمت كلّ ذلك، وأنا راسخ الوثوق به، وأشكرك على ما أبديت، وأجلّ ما أعلنت. ولذلك تسابق إليك التونسيّون، ولم تكن بحاجة إلى من يحميك منهم لأنّك حدّثت بلسانهم، ومددت يدا هي منهم، ولمست جوهرهم. وزدت فضلا، فوعدت، والوعد عهد مادام صادقا، وفتحت أبوابا مغلقة، ومنحت الناس أملا، والشبّان أفقا، والمتعثّر استبسالا، والمبدع فكرة، فكانت الحصيلة أن تركت فينا ما ظننّاه غاب أو فتر، وإن اقتبسناه من جذوة لم تدم، وثورة ما أن رجّت الدنيا حتى همدت، وكأنّها لم تكن. فالواجب أن أشكرك مرّة أخرى، وأن أشكرك ثالثا ورابعا وما زاد فوقهما.

وكدتني أرحل بالأهازيج لولا أن رأيتني مغلولا. أرى شبّان تونس قد ضاقوا بتونس، وألقوا بأنفسهم في البحر، وظنّوا أنّ النجاة إنّما في الهروب من تونس. والسؤال المحيّر: كيف توثيق الصلة ما بين هذه القوّة الخلاقة من العاطلين رغم الشهادات العليا التي تحصّلوا عليها والأرض التي نشأوا في رحابها، والعمل بتلك القيم التي درّسوها، وساروا السنين العدية على أثرها. إنّ الاستثمار الذي تفضّلت بها أوروبا علينا كان أقرب إلى الاستعباد، وغمط العاملين حقوقهم، وفتاتا لا يسمن ولا يغني، ولئن كان العامل يرضى بالقليل، فلم تعد تلك القناعة شيئا تصان به الأعراض، وتسدّ به الحاجة. وإن أردت بالوعد صدقا فليكن الشريك الفرنسي مشاركا لا مستغلاّ لأنّه لم يعد عند العامل التونسيّ غير الدم، إذ لا شيء بعد الحليب إلاّ النجا، ولا شيء بعد النجا إلاّ الدم. ونربأ بك عن أن تكون ممّن يمتصّون دماء المحتاجين، وقد قلت فينا ما قلت وأثنيت على حضارتنا وثقافتنا ومجتمعنا المدني. أليس من العار أن تنتصب الشركات الفرنسيّة ليتسوّل لديها بنات التونسيين وشبّانهم. أنا أقول إنّه عار الألفبّة الثالثة، وعار كلّ عصر، وعار الجمهوريّة، وعار الحريّة، وعار الإنسانيّة.

وكدتني أردّد ما قلتَ أغنيّة مطربة لولا أن رأيتني مغلولا بما أشاهد من تسوّل أبناء شعبي أمام القنصليّة الفرنسيّة، يساء إليهم بشتّى أنواع العبارات المقرفة، ويعاملون معاملة العبيد الباحثين عن سدّ الرمق. وما أحوجني إلى لفت انتباهك إلى جرم المسألة الأمنيّة، فنحن نفتّش مثل أهل الجرائم، يستوي فينا المثقّف والجامعيّ والموظّف والعامل، والمرأة والرجل، وكأنّنا أهل الأمراض المعدية والمزمنة. أقول لك، وأنت ابن الجمهوريّة، وشابّ مثل معظمنا، بل ابن قرون الأنوار وحضارتها، لا يليق بالسلطة الفرنسيّة أن تعامل الزائر التونسيّ لبلادكم بمثل هذه العنجهيّة، والعلويّة الفجّة. ولتعلم سيّدي الكريم والمكرّم ببلادنا أنّ التونسيين ليسوا كلّهم وزراء، ولا كلّهم وجهاء، ولا كلّهم سفراء، ولا كلّهم أطبّاء، ولا كلّهم أصحاب وجاهة عند بابكم العالي. هم كغيرهم من الشعوب أهل كدّ وجدّ لهم ما لغيرهم. و إذا استقبلنا الفرنسين على الرحب والسعة فأقلّ واجب الإنسانيّة والقيم التي أثنيت بها علينا تفرض المعاملة بالمثل. وسترى أنّ التونسيّ ليس آفة إن وطئت قدماه بلادكم المحروسة. وليكن منكم شيء من لطفنا، وبعض من سخائنا، وطرف من محبّتنا لكم لأنّك صنونا في الإنسانيّة ولا شيء غير ذلك. كان فيما مضى سيدي الرئيس أن كانت الإيالة التونسيّة ملاذ الهاربين من أوطانهم من فرط الاستبداد، وكنّا في ما مضى أهل طلب نمنح الأمان، ونحسن الوفادة، ولئن تغيّر الزمان، فلا شيء يمنع تغيّره عليكم.

وكدت، سيّدي الكريم والمكرّم ببلادي، أن أصفّق لما قلت استحسانا، لولا أن رأيتني مغلولا بما أشاهد من عزوف التلاميذ عن الدراسة، وانقطاع عدد مذهل من الناشئة لترمى في مسالك التسكّع وبؤر التوتّر وتلتقطها السيّارة وتصنع منه مادّة حارقة تعزل أبناء شعبي عن الحداثة. وتمنّيت أن أصدّق وصفك لو لم أر المدرسة العموميّة تنخر من الداخل بترتيب أبنائها، وعلية المشرفين عليها. وأرى انتشار التعليم الخصوصي كالنار في الهشيم، وسكن ألق التعليم العمومي، وخبا نور الإنسانيّات، وماتت جذوة الدخول إلى المدرسة. وفرنسا التي لم تتوان عن ابتكار مدرسة عموميّة خلاّقة، وفرنسا التي صدّرت فلسفة الأنوار بترسيخ الفكرة النقديّة والحضاريّة، وفرنسا التي قالت في الإنسان ما نشر فكرة الحريّة حتّى ماتت الأجيال من أجلها، فرنسا تلك، تبصر بعين ساكنة ولسان يهمّ ولا ينطق خراب التعليم العمومي، وهجرة أبنائنا الذين حلموا بالتعلّم وتعلموا ثمّ أفاقوا على جدار عازل يمنعهم الحياة أصلا. وماذا بقي للتونسيين إذ ذهب علماؤهم ومفكّروهم وعقولهم النيّرة. وماذا بقي للأسر التي أنفقت كلّ ما بيدها على تعليم أبنائها فإذا ما نشأوا وعظم أمرهم وأينعت ثمرتهم تلقّفتهم مثل أياديكم لتكونوا بهم خيرا منّا. أليس في ذلك مدعاة للحزن والأسى، سيدي الرئيس الكريم. هب أنّك حرصت على ابنتك حرصك على نفسك وتاريخك وحضارتك، والتفتّ يوما فلم تجد طفلتك التي علّمت، تراك أيّ قول تقول؟ ألا تغصّ العبارة في حلقك، وينقطع النفس فيك. كذلك أنا اليوم، وإحساسي أنّك قلت من جميل العبارة ما زاد بكائي على نفسي، وحزنا على شعبي. ها أني أتابع طلبتي، وأشرف

على دروسي واحدا واحدا، وأرى أنّ الذي استنبت حصاد قد أجني منه الشوك والأسى. إذ لست ممّن يبيع المدرسة العموميّة بأيّ عملة، ولا ممّن يمنح فكره قنّاصا لا حظّ له إلا انتهاز الفرص، وسرقة النار المقدّسة التي أنار بها معبد التعليم عقول الناشئة وهم صبية تختال في الوهاد والهضاب والجبال، صبية كانوا ومازالوا عرضة للذئاب المفترسة. هل تعرف سيدي الرئيس مدارس عين صبح، والقتار، وحاسي الفريد، وبير الحفي، وغيرها من تلك المدارس التي كان الصبية يؤمّونها بعد ساعات من المشي على الأقدام، وهم ينشدون معا ما يطرب السمع، ويثلج الصدر، وبعضهم قد تناول كسرة أو بعض كسرة، وبعضهم لم يتناول شيئا. وأولئك الصبية تعرفهم بأقدامهم، ووجوههم التي تجابه القرّ والحرّ، صبية لم أر أجمل منهم في حياتي، ولم أحبّ غيرهم في حياتي، وهم كنزي، وهم ذخري، رافقتهم حتّى سُلِبتهم، وقد كبروا. تركوني وقد رحلوا إليكم أيّام الكبر وما أحوجني إليهم اليوم. تلك هي المدرسة التي أنشأها الزعيم الذي أثنيت عليه في عبارتك الجميلة، وأراها اليوم تنحدر إلى العدم.
إنّ الانفتاح الذي وصفتنا به أمر راسخ في هذه البلاد منذ تاريخها القديم. وهذه البلاد، سيدي الكريم، بلاد الدساتير قديما وحديثا، وتعلّم لسانكم ولسان غيركم ليس بالأمر الطارئ، ولا مفرّ للتونسيين من كونهم كذلك: أهل حضارات متعاقبة، وتجاور تخضع أطواره للأوضاع العامة التي تحدث للبلاد وحولها. ولعلّي أجرؤ مع ذلك لأقول إنّنا لا نريد أن نكون معبركم الواقي، ولا خزّان الكفاءات الذي تنهلون منه ما يسدّ حاجتكم، وإن كنت أومن بكونيّة المعرفة والقيم الإنسانيّة. بل كلّ ما أرجوه أن يفهم الفرنسيّون أنّنا بصدد ترتيب بناء على قواعد من القيم والتفكير لم تندثر، وإنّما حاجتنا اليوم إلى مشروع إنسان كذاك الذي تؤمنون به، في جوهره، وعقله، ومشاربه. أمّا المال وما يتبع من أشكال التيسير، فمهمّ، ولكنّ الأهمّ منه تربية العقول المنتجة للثروة، ولا ينهض بذلك إلاّ التعليم العمومي. كذا قال بورقيبة، وذاك ما فعل. وغير ذاك من الآراء السيّارة اليوم فعارض.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115