حديث الأنا: ما الحياة إلا هزء ونفضان الشخصيّة التونسيّة: صيرورة وتغيّر

تابعت باهتمام ما جاء في الثلاث محاضرات وما كان من سؤال وجواب.لم ألق في المحاضرات ولا في النقاش

بيانا واضحايشرح صدري.في ما سمعت، كلّ محاضر له نظر. كلّ له سبيل. تداخلت عنديّ السبل. اختلط في ذهني الإشكال.سألت نفسي: بعد هذا، ما هي مقوّمات الشخصيّة التونسيّة؟ هل من الممكن تحديد موجز، جليّ لمافي هذه الشخصيّة من خصوصيّات؟ لم ألق للسؤال جوابا. شدّني السؤال. أعدته مرّة ومرّة. سألت من أعرف من الناس. كلّ واحد من الناس له قول. كلّ واحد له بيان.

من أنا وما هيّ خصائصي؟ أنا تونسيّ. في السبعين من العمر تقريبا. ربّ عائلة. أستاذ. ولدت في قرية ساحليّة فقيرة، في عائلة متوسّطة الحال.أنا اليوم في وضع ميسور. لي حفيدة وطفلان. أحبّ الحياة. لا أومن بالأحزاب ولا بجهنّم النار. الدين عنديّ يسر. هو أداة لتجاوز المأساة. أختلف مع الكثير من الناس في القيم، في المعتقد، في الأولويّات...
ما قلت هو عموميّات. الشخصيّة خصوصيّة وليست عموميّات. أعيد السؤال: هل لي خصوصيّات مميّزة؟ في ما أرى، لا أملك خصوصيّات مميّزة. أنا أشترك مع الناس حولي في قواسم مشتركة وأختلف معهم في عديد الصفات. لي ولهم خصائص عامّة. أنا والتونسيون نحيا في نفس الزمان، في نفس المكان. نتكلّم نفس اللغة. نتقاسم نفس الموروث. نمشي الى نفس

الأسواق. نسبح في نفس البحر. يشدّنا في الصيف حر وفي الشتاء برد. أعراسنا، مآتمنا، لباسنا، أكلنا، شرابنا... متشابهة. في شهر الصيام نصوم. في العيد نضحّي. نحبّ زيت الزيتون والدجاج العربي والكسكسي. نحبّ تملك الديار والأراضي. نحبّ الأبّهة والتباهي.نحبّ العرش والقبيلة ومسقط الرأس. نكره الحاكم والغرب واليهود خاصّة والنصارى.نكره الأغنياء ونتقرّب منهم.لنا نصيب من الكذب ومن النفاق. في أنفسنا نفعيّة وغشّ. فينا تكاسل وتواكل. نعشق الرزق البارد. نخاف الله ونحنث ونأتي الحرام. الكثير منا لا عهد له ولا ميثاق. لا نقرأ. الجهل عندناعادة. نكره النخب والنساء. نهوى الهيج والفوضى ولا نرى للغد مكانا... كلّ هذا وغيره نأتيه جميعا، تقريبا. كلّ هذه الأشياء المختلفة فعلت فينا وأثّرت. شكّلت ما نحمل من تمثيليّة، من نظر. رسّخت فينا سلوكا... هل هذه خاصّيّات مشتركة تلقاها عند الناس في الجنوب وفي الشمال، عند النساء وعند الرجال؟ لا أدري. ما كنت ذكرت من أوصاف هي انطباعات. من الصعب تأكيدها ومن الصعب تعميمها... يبقى السؤال قائما: ما هي الملامح المشتركة للتونسيين، أغلبهم؟ ما هي خصالهم وصفاتهم؟

نظرت في ذاتي كواحد من التونسيين علّني ألقى خصائص مميّزة تبرز ما كان لي من «شخصيّة» منفردة. لم ألق جوابا واضحا. ما أنا بمثال. لست نموذجا حتّى ألقى وحدة ذاتيّة عامّة. يجب أن أنظر في من كان حولي من الناس. أن أبصر التونسيين المختلفين وأتبيّن خصائصهم في عيشهم اليوميّ، في ما يأتون من فعل، من قول، من سلوكيّات.عليّ أنظر في الناس. الناس من حولي كثيرون ولكلّ فرد طبع خاصّ وصفات...

الاشكاليّة، في ما أرى، عصيبة، معقّدة. لا أرى تعريفا للشخصيّة جليّا، شاملا. يجب أن أكتفي وأنظر في أهلي وفي أصدقائي. أعرف أهلي وأصحابي ومن السهل تبيّن ذواتهم وتحديد شخصيّاتهم... سوف ألقى الشخصيّة التونسيّة لو نظرت في عمار وسليم وبوك عليّ. هؤلاء أصحابي وأعرف عنهم ما خفي من طبع وما تجلّىمن ملامح.أخذت ورقة وقلما. نظرت في شخصيّاتهم. ها أنا أرسم معالم كلّ واحد.

هذا عمار فات الستّين من العمر. سكنه التديّن في السنوات الأواخر. كلّ يوم، صيفا وشتاء، ينهض، يسري الى الجامع لأداء الصلوات. يصوم الشهر ويأتي صلوات التراويح المرهقة. في كلّ أسبوع، يصوم يومين، إضافة. في الجامع، يجلس في ركن وبين يديه القرآن يقرأ منه سورا ويحفظ منه آيات. لا يقول عمار قولا بغيضا. يستغفر الله ويعطي الفقراء صدقات. هو حريص على فعل الخير، على كسب الثواب والفوزبالآخرة... في ما مضى، في الجامعة، كان عمار يساريّا.لا يصوم ولا يصلّي. لا يؤمن بالأديان ولا يعترف بالأنبياء. الجنّة عنده اليوم ولا وجود للآخرة... اليوم، عمار عبد آخر. له شخصيّة مختلفة. مع الأيّام يزداد صاحبي في التديّن غرقا. كالعجائز، يحمل في قلبه تعاليم الأيمّة وتراه يعيد ما قرأه في الكتب الصفراء...

أمّا سليم وهو الأصغر عمرا فهو نموذج آخر. ورث سليم عن أبيه أرضا شاسعة وممتلكات.هو اليوم يشقى بين التدريس في الجامعة مرّة وزراعة الأرض والحصاد مرّات. في أراضيه، يتكلّم سليم لهجة الفلّاحين ويحيا حياتهم. هو ريفيّ فكرا وسلوكا. جاء من الآفاق. ولد تحت شجرة... أما في تونس، فتراه يغيّر المعايير واللغة والرؤى. هو رجل فطن، ملمّ.هو جامعيّ، له فكر وباع. هو حضريّ.يسكن المرسى، قبالة البحر، في حيّ راق... يحيا سليم حياتين منفصلتين. له حياة في تونس حيث يدرّس ويحيا حياة في ماطر حيث حقوله، يزرعها فولا وقمحا. سليم وجهان لعملة واحدة... منذ كان صبيّا، يأتيّ سليم الصلوات. يتجنّب المنكر. لصاحبي فكر حرّ. على خلاف عمار، هو يجادل في الدين أمره ونهيه. مقبل على الحياة. ضحوك. متفتّح. لا يشرب الخمر ولكن يجالس شاربه. ما كان سليم يوما يساريّا. فكره معتدل. يؤمن بالله وبرسله كما آمن آباؤه والفلّاحون من حوله. يكره البذخ. عيشه كفاف...

أمّا بوك عليّ وهو صاحبي الأقدم وعمره مثل عمري فهو مختلف عنّا جميعا. هونموذج اجتماعي. له سلوكيّات خصوصيّة ونظام عيش مميّز. لم تتغيّر شخصيّة بوك علي رغم ما عرف من أطوار حياة وما كان له من وظائف متعدّدة. ابن فلاح فقير من الساحل، أصبح بوك عليّ استاذا جامعيّا ثم مستشارا فوزيرا ثمّ سفيرا فمديرا عامّا ثمّ عاد إلى المحفظة، يدرّس في الجامعة. في ظلّ وظائفه، خالط الرجل أقواما شتّى وواجه مشاكل متعدّدة وعرف العسر واليسر وما كان في القصور من بذخ وما كان في الكواليس من مناورات. أمّا خصائصه وما كان له من طبع ونظر فهذه ظلّت كما بينت. لم يمسسها انس. بوك عليّ حجر.لا يصلّي ويصوم الشهر. عقلانيّ.حسّاب. لا يؤمن بما جاء في الكتب من أمر ونهي. يؤمن بالعمل والكدّ والكسب الحلال. لا يعبأ بالعسر. مثابر. دوما مستعدّ. ثقة. مقتصد في كلّ حال. يمدّ يد العون لمن شاء. العائلة عنده هي الأصل والفصل. شظف عيشه عندما كان صبيّا أثّر في طبعه، في سيره، في إنفاقه. هو اليوم ميسور الحال ولكنّ عيشه كفاف...

كذلك أرى صحبي.كلّ فرد، في عينيّ، هو نموذج. هو وحدة ذاتيّة. لكلّ قناعاته وقيمه. لكلّ ممارساته...أين هي الشخصيّة التونسيّة؟ ما هي صفاتها؟ لا أرى جوابا. عاودني السؤال. أعدت النظر في ذاتي.عدت الى الزمن السالف. عدت أنظر في شخصيّتي. أتبيّن ملامحها. أسأل نفسي كيف كنت وكيف أصبحت...في ما أرى، أنا عبد متقلّب الأطوار، متغيّر الأحوال. أنا انسان ليس له قرار. شخصيّتي متنوّعة. متعدّدة الألوان والأشكال. تتقلّب حسب الظروف والأوضاع. تتشكّل حسب العمر، حسب المصالح، حسب الملابسات. أكثر من ذلك، أنا أتغيّر حسب ما كان من لحظة، من مرحلة، من أوضاع... صبيّا، كنت متزمّت الفكر. متديّنا. أسعى كما يسعى الفلّاحون في ذاك الزمان. أومن بما آمنوا من ملائكة وشيطان. أصلّي أحيانا وأصوم ككلّ الصبية والناس. في الليل، أسبّح، أستغفر الله، أدعو الى الفلاح...في الجامعة، طالبا، انقلب عندي النظر وأصبحت من اليسار، أقصاه. لا أصوم. لا أرى في الموروث نفعا. أصبحت شيوعيّا وأحيانا فوضويّا.أرى في الدين خدعة وفي الشعب طبقات. أومن أن الميراث رجس وأنّ المساواة بين الناس هي السبيل الأوحد في الحياة. هزّني الغلوّ ودخلت في أنفاق ومتاهات. الجامعة مرحلة مهمّة في الحياة... ثمّ اشتغلت في السكك الحديديّة وبعدها عدت أدرّس في الجامعة. خلال تلك السنين، التقيت ببشر مختلف. تبادلت وإيّاهم الرأي. كتبت مقالات في جريدة الرأي، فجريدة الصباح. أيّامها، انقلب عنديّ الفكر وغرّني الكسب ولقيت نفسي أعمل الليل والنهار لأغنم، لأجمع مالا، لأبني الديار... ها أنا اليوم، في آخر الرحلة. في

وضع ميسور. في صحّة متوسّطة. انقلب عندي البصر مرّة ثالثة وأصبحت ليبيراليا التوجّه. يمينيّ المواقف أحيانا. أعتقد أن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن حرّيّة السوق هي الأصلح للإنسان... أنا اليوم عبد آخر. في مخاض. في تناقض. لمّا تضيق نفسي ويصيبني مرض أو إحباط ، أرى السماء في قلبي فأعود إلى السماء. أستغفر الله. أرجو النجاة. ومرّة، ألقاني في حيرة، في اضطراب. يسكنني السؤال وأكره نفسي والحياة والناس...

في ما أرى، لكلّ فرد سيرورة. لكلّ شخص شخصيّة. أنا وصحبي مختلفون في الرؤى، في السلوك، في الصفات. أنا اليوم مختلف عن ذاك الذي كنت. مع الظروف وحسب المصالح، يتغيّر عنديّ الفهم والسعي والصفات. كذلك، انتقل عمار من يساريّ رافض الى متديّن خاشع. أمّا سليم فهو بين عالمين يحيا ولا تدري هل هو فلّاح أم أستاذ. حتّى بوك عليّ، مع الزمن يجري، رغم ثباته، أظنّه غيّر من النظر والطبع شيئا طفيفا. هو اليوم في لين ويسر. هو اليوم في حيرة وسؤال...

(يتبع)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115